أصل هذا المقال أنني منذ أربعين سنة كتبت ثلاث مقالات بهذا العنوان في جريدة «العلم» (مارس 1970) وبلادنا آنذاك تعيش تحت نير حالة الاستثناء وتعطيل الحياة الدستورية وتكميم الأفواه ومصادرة الصحف بل وتكسير المطابع إذا لم تنفع المصادرة كما حصل لمطبعة «الرسالة» حيث تطبع صحيفتا «العلم» و «الرأي» وليس الأمر عند غيرنا ممن يعيشون تحت النظام الشمولي والحزب الوحيد بأحسن حالا مما عندنا. وقد تم نشر المقالة الأولى في حديث الجمعة الماضية وتم استهلالها بفقرة تبين الأسباب والدواعي لإعادة نشر المقالات الثلاث مع تحيينها طبعا، وذلك لأن الظروف التي تعيشها المجتمعات الإسلامية والتي كنا نظن أنها تعافت منها هذه المجتمعات يتأكد يوما عن يوم، إن هذا التعافي لا يزال بعيدا وما على الإنسان إلا أن ينظر لأوضاع هذه المجتمعات وكيف تجري فيها الأمور في كل المستويات وبالأخص الوضع الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية لهذا المحور أو ذاك. والشيء الجديد الذي حدا كذلك إلى إعادة النشر هو الطعن من لدن بعض المذاهب الإسلامية في الصحابة رضوان الله عليهم وهم الذين كانوا صفوة الصفوة فيما عرفته الأمة الإسلامية من قيادة خلال تاريخها بعد وفاة الرسول عليه السلام. بموت الرسول عليه السلام والتحاقه بالرفيق الأعلى أصبح المسلمون لأول مرة وجها لوجه أمام مشاكلهم مضطرين إلى الاعتماد على أنفسهم باستقلال عن الوحي المباشر مكثفين بما خلفه لهم الرسول عليه السلام واخبرهم أنهم لن يضلوا من بعده ما تمسكوا به، اعني كتاب الله وسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد أحسن المسلمون انتقاء القائد الجديد الذي يخلف الرسول عليه السلام، وحالفهم التوفيق بعد ذلك زهاء أربعين سنة التي ظلت الخلافة الراشدية تظلل المسلمين فيها بظلها الوارف. الاهتداء إلى مصفى العسل لقد وصف أحد الكتاب المسلمين دولة الخلفاء الراشدين فقال: لقد كانت دولتهم» بالأمور النبوية والأحوال الأخروية أشبه، والحق في هذا أن زيها كان زي الأنبياء وهديها هدي الأولياء وفتوحها فتوح الملوك الكبار، فأما زيها فهو الخشونة في العيش والتقلل في المطعم والملبس، كان أحدهم يمشي في الأسواق راجلا وعليه القميص الخلق المرقع إلى نصف ساقه، وفي يده درة فمن وجب عليه حد استوفاه منه، وكان طعامهم من أدنى أطعمة فقرائهم.ضرب أمير المؤمنين عليه السلام المثل بالعسل والخبز النقي فقال في بعض كلامه:» لو شئت لاهتديت إلى مصفى هذا العسل بلباب هذا البر». وأشهى مطعم ولكنهم كانوا يفعلون ذلك... كسرا للنفس عن شهواتها ورياضة لها لتعتاد أفضل حالاتها. الشعوبيون وقذف الصحابة لقد كتبت هذا الكلام واقتبست هذه الفقرة منذ أربعة عقود ولم يكن آنذاك قد بزع إلى واقع المسلمين ما ظهر الآن من الكلام في الصحابة ومحاولة النيل منهم والتقليل من قيمتهم ومكانتهم الدينية والأخلاقية، كان ذلك أو بعضا منه مطويا بين صفحات كتب ألفت في زمن الفتن بين المسلمين، وتصدي لذلك كثير من الفقهاء والعلماء المسلمين الذين رأى في النيل من أولئك الرجال ومن أقدارهم وأحرى من دينهم وعقيدتهم أمرا ينال من الإسلام نفسه، ولا يمكن لأي أهل مذهب أو فئة ممن ينتسبون إلى الإسلام أن تبقى بمبعدة التأثر السيئ فيما لو فتح باب نهش أعراض المسلمين وأحرى الصحابة، فالناس الذين يتربصون بالإسلام وبأهله لا ينتظرون الا مثل هذا التنابز وهذا الخروج عن الجادة للنيل من رجالات الإسلام الأوفياء وأي رجال أولئك الذين حاول البعض قديما ممن اندسوا بين صفوف المسلمين ولبسوا أردية مزيفة تتظاهر بالإيمان وبالغيرة على هذا الظرف أو ذاك، وكان في مقدمة من عمل ذلك شعوبيون تظاهروا بالدفاع عن آل البيت والغيرة عليهم والرغبة في إنصافهم ورد أمر هو لهم سلبه منهم الآخرون، ومن هم أولئك الآخرون انهم صفوة الصفوة أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عن الجميع، هؤلاء الرجال الذين كان أول من يعرف مكانتهم في الإسلام، وما كانوا يحظون به من لدن صاحب الرسالة وما قال في حقهم من ثناء عاطر وتقدير ما فوقه تقديرهم آل البيت. تقدير آل البيت للصحابة لذلك فإن الصحابة ساروا على نهجه ومنهجه من بعده عليه السلام وفي مقدمة الكل على بن أبي طالب وذريته الذين كانوا يعرفون لصحابة الرسول وللخلفاء منهم مكانتهم من رسول الله، ولكن هؤلاء الحاقدين من الشعوبين واليهود والنصارى والمانوين والمزدكين وغيرهم من لم يرضهم ما نالته الدعوة الإسلامية والفتوحات التي قادها هؤلاء الخلفاء والصحابة بصفة عامة من نجاح، وما حققته من نصر فراموا بما لفقوه من أكاذيب وما اختلقوه من أخبار زائفة، وما أسقطوه من عقائدهم الباطلة على الأحداث التي عرفها المسلمون والتي كانت خارج سياق ما كانوا يتمتعون به من صفات ومكان لديهم من مكانة وخلق، وقبل مواصلة الحديث والتذكير بما نشرناه منذ عقود أرى من المناسب ان اعزز ما رويته بما كتبه كذلك أبو الحسن الندوي حيث يقول: كل فرد معجزة مستقلة »إن كلَّ فردٍ من هؤلاء الأفراد معجزة مستقلة وآيةٌ من آيات النبوة، ومأثرةٌ من مآثرها الخالدة، وبرهان ساطع على أشرفية النوع الإنساني، إن مصوِّراً لم يصور بريشته البارعة ومخيلته السخية صورة أجمل، وأبدع مما كان عليه هؤلاء الأفراد في عالم الحقيقية والواقع، وفي شهادة التاريخ، وإن شاعرا يتخيل بخياله الخصيب، وقريحته الفياضة، ومقدرته الشعرية أوصافا أجمل، وسيرةً أعطر، وجمالا أكمل مما وجد في هؤلاء الأفراد، ولو اجتمع أدباء العالم في صعيد واحد، فعرضوا نموذجا إنسانيا رفيعا لم يصل بهم الخيال إلى ما وصل إليه الواقع في حياة هؤلاء الأفراد، الذين نشؤوا في حجر النبوة وحضانتها، وتخرجوا في مدرستها، إن إيمانهم الراسخ، وعلمهم العميق، وقلبهم البار، وحياتهم البعيدة عن كل تكلف وصناعة، وعن كلِّ رياءٍ ونفاقٍ، وتجردهم من الأنانية، وخشيتهم لله، وعفَّتهم ونزاهتهم، وعطفهم على الإنسان، ورقَّة مشاعرهم، وشجاعتهم، وجلادتهم، وحرصهم على العبادة، وحنينهم إلى الشهادة،وفروسيتهم، وفتوتهم، وإحياءهم الليل، وزهدهم في حطام الدُّنيا، وزخارف الحياة، وعدلهم، وسهرهم على مصالح الرعية، وإيثار راحتها على راحتهم، كل ذلك لا يوجد له نظير في الأمم، ولا سوالف في التاريخ«. ولم يكتف أبو الحسن الندوي رحمه الله بهذا الوصف الرائع الذي كتبه وحاول فيه إجمال بعض الأوصاف و الأخلاق التي كان عليها هؤلاء الرجال الذين تخرجوا من مدرسة النبوة، وهو وصف كفيل بدحض كل الترهات التي كتبها ولفقها الملفقون وحاول بعض المغرضين والمسخرين المندسين بين بعض المذاهب والفئات في المجتمعات الإسلامية والتي كشفوا فيها عن أنفسهم وعن زيف ما يدعون من الدفاع عن الإسلام وقيمه بل ان الندوي رحمه الله أردف ذلك بشهادة أحد الباحثين من غير المسلمين فقال: عالم من العواطف والفكر يقول الفاضل الألماني كاتاني (Caetani) في كتابه »سنين الإسلام«: »لقد كان هؤلاء الصحابة الكرام ممثلين صادقين لتراث رسول الله الخلقي، ودعاة الإسلام في المستقبل، وحملة تعاليم محمد ص، التي بلَّغها إلى أهل التقوى والورع، لقد رفع بهم اتصالهم المستمر برسول الله وحبُّهم الخالص له، إلى عالم من الفكر والعواطف لم يشهد محيط أسمى منه، وأرقى مدنية واجتماعا، والواقع أن هؤلاء الصحابة كان قد حدثت فيهم تحولات ذات قيمة كبيرة من كل زاوية، وأثبتوا فيما بعد في أصعب مناسبات الحروب أن مبادئ محمد ص إنما بذرت في أخصب رض أنبتت نباتا حسنا، وذلك عن طريق أناسٍ ذوي كفاءات عاليةٍ جداً، كانوا حفظة الصحيفة المقدسة وأمناءها، كانوا محافظين على كلِّ ما تلقوه من رسول الله من كلام أو أمرٍ، لقد كان هؤلاء قادة الإسلام السابقين الكرام الذين أنجبوا فقهاء المجتمع الإسلاميِّ وعلماءه ومحدثيه الأولين«. العقيدة سر النجاح وقد يسأل المرء ما السر في كل هذا الذي كان عليه هؤلاء الناس؟ لقد كان السر في كل هذا إن قيادتهم لم تكن قيادة من أجل الانتفاع بامتيازات القيادة ولكنها كانت قيادة من اجل تحقيق عقيدة وفكرة فالعقيدة هي حجر الزاوية في نجاح القيادة أو إخفاقها. إن العقيدة تفرض على صاحبها التضحية في سبيلها وتحمل كل المشاق والصعاب والأهوال من اجل انتصارها، وكذلك كانت القيادة الإسلامية في أولى مراحلها، لقد كان القادة من أولئك الذين عانوا أو أوذوا في سبيل العقيدة ونصرتها، وما كان لهم أن يخونوا هذه العقيدة يوم أصبحت الأمور بين أيديهم، وإلا كانوا مجرد أناس احترفوا الحكم والسياسة لذات الحكم والسياسة. إن نجاح القيادة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدية يرجع إلى الخصائص التي أمدتهم بها العقيدة ونشأتهم على أساسها، لقد كانوا جنود العقيدة وحماتها وألزموا أنفسهم بالعمل في إطارها، فلم يكونوا يبتغون غاية أو يرمون إلى مصلحة سوى تحقيق أمر الله والذود عن شريعة الله. القيادة ثمرة التربية لقد كانت التربية التي أخذهم بها صاحب الرسالة هي أحسن زاد لهم في حياتهم سواء وهم بحضرة الرسول عليه السلام أو بعد ذلك فهم ثمرة الدعوة التي نشأوا في أحضانها لقد صرح الرسول على إعدادهم الإعداد اللازم وهكذا تمكن الرسول بدعوته ورسالته ان يهيئ الفرد الصالح المؤمن بالله، الخائف من عقاب الله، الخاشع الأمين، المؤثر للآخرة على الدنيا، المستهين بالمادة، المتغلب عليها بإيمانه وقوته الروحية، يؤمن بأن الدنيا خلقت له، وأنه خلق للآخرة، فإذا كان هذا الفرد تاجرا؛ فهو التاجر الصدوق الأمين، وإذا كان فقيرا؛ فهو الرجل الشريف الكادح، وإذا كان عاملا، فهو العامل المجتهد الناصح، وإذا كان غنيا؛ فهو الغني السخي المواسي، وإذا كان قاضيا؛ فهو القاضي العادل الفهم، وإذا كان واليا؛ فهو الوالي المخلص الأمين، وإذا كان سيدا رئيسا؛ فهو الرئيس المتواضع الرحيم، وإذا كان خادما أو أجيرا؛ فهو الرجل القوي الأمين، وإذا كان أمينا للأموال العامة فهو الخازن الحفيظ العليم«. القيادة وحلم المدينة الفاضلة واسأل التاريخ ينبئك عن أعمالهم وعدلهم وحسن تدبيرهم وسداد رأيهم ونزولهم عند حدود الله وإنصاف الناس في السر والعلانية، لقد حققوا في دنيا الناس ما حلم به الفلاسفة من قبل ومن بعد في جمهورياتهم ومدنهم الفاضلة. فقد كان كل واحد منهم يأخذ ما يسد به الرمق من بيت المال مثل واحد من المسلمين، وعندما توفي أبو بكر كان المتاع الذي تركه لا يتجاوز قيمته خمسة دراهم وأما عمر فقد توفي وهو مثقل بالديون وأوصى أن يتولى أداء الديون آل الخطاب أو بني عدي. وهذا الإمام علي كرم الله وجهه الذي كان عهده عهد اضطراب وفتن ولم يكن ليلتفت إلى ذلك أو يشغله عن السير في طريق الخلفاء قبله، لقد كان من عادته أن يوزع الذهب والفضة فقال يا صفراء صفري ويا بيضاء بيضي، وغربي غيري لا حاجة لي فيك، قارن هذا الموقف بمواقف المسؤولين في ديار الإسلام في عصر يحتفظون فيه بالأموال هنا وهناك ليجدوها عند الرحيل! أما علي فلم يدخلها في الموازين والحسابات التي بمقتضاها يتصرف، وما أروع ما قال عندما عرض عليه أمر من الأمور: «أن عمر كان رشيد الأمر ولن أغير شيئا مما صنع عمر». هذا ما قاله في حق عمر ويأتي بعد ذلك اولام من الناس وممن لا يبلغون مد ولا نصيف عمر أو أبو بكر أو عثمان، ليتحدثوا بترهات وأقاويل تدل على الجهل وعدم استيعاب دور هؤلاء ومكانتهم والدور الذي قاموا به في سبيل نصرة الإسلام ودعوته اما علي فإنه يرى أن عمر كان رشيد الأمر ولن يغير شيئا مما صنع عمر، أنه استمر والدولة استمرار البناء، وقبل ذلك قال أبو بكر: «والله لو منعوني عقلا كانوا يؤذونه لرسول الله لقاتلتهم عليه: وامتنع من تعويض أسامة بقائد أخر أكثر تجربة وحنكة لأنه ما كان لينقض أمرا ابرمه الرسول عليه السلام. قيادة رائدها العدل وهكذا كانوا رضوان الله عليهم يتصرفون ويوسوسون العدل رائدهم وتطبيق أحكام الكتاب والسنة غايتهم ولذلك لم يكونوا يستبدون بالرأي وإنما كانوا يستشيرون أصحاب رسول الله وينزلون عند الرأي الأصوب، فكانوا إذا حزب أمر ووقعوا في مشكلة دعوا إلى الصلاة ليطرحوا الأمر بعد أداء الفريضة، ولاشك أن مدارسة الأحوال بعد الفراغ من الصلاة له دلالته ومغزاه، فأمور المسلمين المرتبطة بدينهم لا يبث فيها إلا عقب الانتهاء من الجهاد الأكبر، عقب تطهير النفس وتوجيهها إلى بارئها، ومثولها أمام الله خاشعة ضارعة، ولاشك أن سيطرة الجو الروحاني على الموقف وهيمنة الصفاء الروحي عليه سيعجل بحل المشاكل حلا مناسبا وملائما. وإذا كان الأسلوب الذي تولى به كل واحد من الخلفاء الأربع شؤون الخلافة معروفا عندنا فإن من المناسب ان أشير إلى أن أبا بكر بعد بيعته ظل ثلاثة أيام يقيل الناس ويستقبلهم ويقول قد أقلتكم من بيعتي هذه هل من كاره؟ هل من مبغض؟ »وقد خرج منها ازهد مما دخل، فلم يستأثر دون المسلمين بشيء ولا ولى الأمر له لقرابة، ثم ولى عليهم عمر ابن الخطاب ففتح الأمصار، وقهر الكفار، وأعز الإيمان، وأذل أهل النفاق والعدوان، ونشر الدين وبسط العدل في العالمين... وخرج منها أزهد مما دخل فيها فلم يتلوث لهم بها ولا ولى أحدا من أقاربه بولاية «عن ابن تيمية»«. ان محاولة عرض مزايا القيادة الإسلامية في مقال أو مقالات شيء غير مستطاع لذلك فإنني سأوجز خصائص هذه القيادة كما افهمها في السطور التالية: 1 _ كانت قيادتهم ذات منهاج أصيل وهذا المنهاج هو كتاب الله وسنة رسول الله. ان الالتزام بالكتاب والسنة الذي كان منهج هؤلاء منه يستمدون برنامجهم في الحكم وعليه يعتمدون في اتخاذ القرارات هو ما أصبحت الدعوة إليه عند البعض دعوة للرجعية والتخلف، انها القرية التي روج لها المستعمر وتبعه من لا إيمان له والملاحدة من الناس أو من كان على دين غير دين الإسلام من الأقليات في البلاد الإسلامية والأدهى من ذلك ان بعض الناس من ذوي النوايا الحسنة من المسلمين الصادقين في إيمانهم بالإسلام عقيدة ولكنهم يرون رأيا آخر في تطبيق الأحكام التي لا تنفصل عن العقيدة إذ كلاهما بين دفتي المصحف. 2 _ كانوا ذوي تربية دينية خلقية وكانت هذه التربية تفرض عليهم رقابة الله في السر والعلن. 3 _ كانت أعمالهم في الفتح ترمي إلى إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. 4 _ كانت قيادتهم متوازنة فلم يطغ فيها جانب على جانب فكانت الروح والمادة متوازيين إذ كانوا يومنون أن الأرض ما وجدت إلا لينتفع الإنسان بخيراتها في دائرة العدل والمساواة. 5 _ كانوا لا يستبدون برأي وإنما يستشيرون وينزلون عند الرأي الأصوب. 6 _ كانوا مجتهدين إذ لم يكونوا يقفون أمام الأحداث يتفرجون عليها ويتركون الأمر للزمان ليتصرف فيه سلبا وإيجابا. بل كانوا يستعملون عقولهم في دائرة الكتاب والسنة ولم يكونوا يخرجون عن مادتهما. 7 _ كانت قيادتهم تمتاز بالجهاد، الجهاد بكل ما يحمله من معنى، جهاد المعرقلين لسير الدعوة، وجهاد النفس الذي هو أكبر الجهاد حتى لا تنحرف وتنزلق. 8 _ كانت قيادتهم خاضعة لرأي عام قوي فكان سلوكهم مراقبا من طرف المسلمين فكان الخليفة يقف ليخطب فيجد من بين الصفوف من يوقفه ويصرخ في وجهه لا سمع ولا طاعة أو يقول والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. ان أهم ما ينقص المجتمعات الإسلامية اليوم هو هذا الرأي العام القوي الذي يستطيع أن يقوم اعوجاج الحكام والمسؤولين وينبه إلى الأخطاء ويصوب ما يجب تصويبه من تلك الأخطاء إذا ارتكبت. إن المجتمعات الحديثة التي يلذ ويحلو لبعض الناس أن يتحدثوا عنها بإطراء، إنما تفضل ما نحن فيه في العالم الإسلامي بالحكم الديمقراطي وبالشورى وبرأي عام قوي يستطيع ان يوجه الناس وينبههم إلى أخطائهم في جميع الأحوال مع قناعة المسؤولين ان الرأي العام لهم كما لغيرهم وعليهم كما على غيرهم ومن تم يجب احترامه وستكون مجتمعاتنا قريبة من الإسلام ومن الصواب عندما نملك هذا الرأي العام الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحافظ لحدود الله والمجتمع. تلك بعض خصائص القيادة الإسلامية في عصورنا الزاهرة ولكن الأمر لم يبق على هذا المنوال في كثير من مراحل التاريخ الإسلامي، فلقد نسلط قادة مستبدون لا يراقبون الله ولا يقيمون وزنا لشريعته على لمجتمع الإسلامي، فانحرفوا به عن الطريق السوي ولعبت بهم الشهوات والنزوات ونظروا إلى الأمة وكأنها قطعان من الغنم فكانت نتيجة ذلك أن تخلف ركب المسلمين وعقد عن السير وساد المجتمع الإسلامي جمود مميت فتبدلت المشاعر وماتت روح الابتكار في النفوس وتحكم الأدعياء والجهلاء وغابت شمس المثل العليا التي دعا إليها الإسلام وعاشتها أجياله الأولى، وانطوى المسلمون على أنفسهم يعبدون الماضي الذي ولى ويتخذون منه الأسطورة المسلية ولم يجعلوا حاضرهم ومستقبلهم مثل ذلك الماضي الذي يتغنون به ويعيشون على أمجاده. ولم يستيقظوا من سباتهم إلا على ذوي المدافع المصوبة إلى بلادهم من أوروبا المسيحية والصليبية الحانقة فكان الاحتلال وكان الاستعمار وكانت البلبلة في الفكر والعقل. وعن دور الاستعمار في مسخ القيم الإسلامية وتشويهها وإنشاء قيادات تساير ذلك المسخ سأتحدث في المقال القادم بحول الله.