في حديث الجمعة الذي خصصناه للحديث عن تقرير عبد الصبور شاهين حول أعمال «حامد نصر أبو زيد» وعنوانه بين عبد الصبور شاهين وحامد نصر أبو زيد ووسطية الإمام الشافعي، كتب أحد الطلبة ملاحظات حول المقال وعنوانه، واستشكل العنوان باعتبار ان الخلاف ليس بين الاثنين ولكن الأمر في نظره يرجع إلى إعمال التأويل من لدن «أبي زيد» ومن تم فإن الأصل من خلال هذه الملاحظة هو بين تأويلين تأويل (أبو زيد) وتأويل (عبد الصبور شاهين) هذا إذا كنت شخصيا قد فهمت السؤال ومنذ توصلت بهذه الملاحظة عقدت العزم على أن اكتب موضحا كما طلب مني كثير من الإخوة وكذلك الأخ الطالب «حسين ادحماد» ولكن الظروف فرضت أن أتناول قضايا أخرى واليوم أحاول التجاوب مع الرغبة والسؤال الملاحظة. ازدهار الدراسات القرآنية والواقع أن الدراسات القرآنية في القرن العشرين ومع التطور الذي عرفته الدراسات اللغوية احتلت مكانة متميزة لدى الباحثين والدارسين مسلمين وغير مسلمين، بعدما كان موضوع هذه الدراسات في القرن التاسع عشر يكاد يكون محتكرا أو مقتصرا على المستشرقين الذين كان هدفهم البحث عن الثغرات التي يمكنهم النفاذ منها للطعن في القرآن وفي رسالة الإسلام وان الفرضية التي كانت عندهم وهي فرضية قديمة عند الكنيسة ان القرآن من تأليف محمد عليه السلام، ولذلك كان همهم بالدرجة الأولى هو الوصول من الوجهة العلمية والمنهجية إلى ما يثبت هذه الفرضية، ولم تكن الأوضاع العلمية والثقافية في العالم الإسلامي تسمح بالمواجهة العلمية مع هؤلاء الطاعنين بل ان بعض الناس في العالم الإسلامي تأثروا ببعض من هذه المقولات. الشبه تغزو الحياة الثقافية ولاشك ان المناظرات العلمية التي حصلت في القرن التاسع عشر في الهند والتي دونت في بعض الكتب منها »إظهار الحق« وكذا ما حصل بين جمال الدين الأفغاني ورينان وبين محمد عبده وهناتو، كانت في هذا السياق ولكن كل ذلك كان في الواقع مجرد نقطة في بحر من التشويه ومن الشبه التي نشرها الاستشراق والتنصير ذات اليمين وذات الشمال، وقد رصد بعد ذلك بعض الباحثين والدارسين ما جرى حينذاك ولاسيما عندما بدأت هذه الشبه تغزو الحياة العامة الثقافية، حيث عرفت طريقها إلى الحياة الجامعية وبرزت أكثر ما يكون البروز عند احد الأساتذة النابهين في ذلك الوقت وهو الدكتور (طه حسين) في كتابه «في الشعر الجاهلي» والذي أثار ضجة في حينه بين المثقفين والدارسين والعلماء وانتقدوه لأنه مجرد نقل لشبه أثارها الاستشراق وتبناها طه حسين ولذلك قامت مقارنة بين ما يقوله وما يدعيه وبين ما كان قد قال أحد المستشرقين من قبل وهو «مرجليوت». وعلى أي حال فإن العلماء ورجال الفكر في حينه تمكنوا من تسفيه النظرية وكشف أهدافهم ومراميهم وكان أبرز الناقدين مصطفى صادق الرافعي كتب كتابا بعنوان: »تحت راية القرآن« فإذا جاء اليوم من يتبنى هذه الفكرة ويحاول تقعيدها بمختلف الأكاذيب وإضفاء المسوم العلمية عليها مثل (ناصر حامد أبو زيد) فلا تعجب إذا كان رد الفعل هو ما عرفته هذه القضية. البهي وبشرية القرآن وقد تناول الموضوع محمد البهي في كتابه القيم »الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار« وسنحاول مرافقة البهي حيث يقول: هناك صورتان تعرض فيهما فكرة »بشرية«: 1/ الصورة الأولى: أنه »انطباع« في نفس محمد (صلى الله عليه وسلم)، نشأ عن تأثره بيئته التي عاش فيها؛ بمكانها، وزمانها، ومظاهر حياتها المادية والروحية والاجتماعية. 2/ والصورة الثانية: أنه »تعبير« عن الحياة التي عاش فيها محمد (صلى الله عليه وسلم)، بما فيها المكان، والزمان، وجوانب الحياة الاقتصادية، والسياسية، والدينية، والاجتماعية. وإحدى الصورتين ملازمة للأخرى. فإذا كان القرآن انطباعا منبثقا من البيئة فهو تعبير عن ذات هذه البيئة. وبالعكس: إذا كان تعبيرا عن البيئة فقد انطبع أولا بلا شك في نفس قائله، قبل أن تعبر به، وقبل أن يقوله. وكلتا الصورتين إذن تفصح عن: أن القرآن عمل خاص بمحمد (صلى الله عليه وسلم)، تأثر فيه كما يتأثر الإنسان العادي، وعبر به عن المعاني التي كانت في نفسه من بيئته، كما يعبر الإنسان عن أية معان تجول بنفسه قد تأثر بها من بيئته، وانطبعت في خاطره من ظروف الحياة التي تحيط به. ويتوقف اختيار إحدى هاتين الصورتين على الأخرى لدى كاتب ممن يرون بشرية القرآن، على أحوال البيئة التي يعلن فيها الكاتب الرأي. فإن كانت بيئة أجنبية غير مسلمة أمكن مواجهتها بالصورة الأولى. وهي أن القرآن انطباع نفسي. أما إذا كانت بيئة إسلامية فيقتضي الأمر أن يتبع فيها أسلوب اللف والمداراة. والصورة الثانية أليق بهذا الأسلوب وهي أن القرآن يعبر عن الحياة الجاهلية، أي حياة ما قبل الإسلام، أصدق تعبير. الصورة الأولى: ولا أريد هنا أن أنقل عن أي مستشرق عبر عن بشرية القرآن؛ بل سأتخير واحدا، يعد مثلا للاتزان بينهم. وهو المستشرق الإنجليزي جب Gebb، أستاذ الدراسات العربية الآن بجامعة هارفارد بالولايات المتحدةالأمريكية. وسنرى من النصوص التي ننقلها عنه هنا من كتابه:»المذهب المحمدي« Mogammedanism أنه آثر الصورة الأولى بأسلوب يبدو فيه تجنب الألفاظ النابية فيما يحكيه عن الرسول، وتجنب الصراحة المكشوفة فيما يريد أن يودعه في نفس القارئ. الوحي والحياة الثقافية في مكة و»جب« يرى: أولا : أن جو مكة بما فيه زعامة اقتصادية!، وسياسية، ودينية!، ثم بما فيه من عيوب اجتماعية، كالرق والفوارق البعيدة المدى بين الطبقات هو الذي آثر في نفس محمد (عليه الصلاة والسلام) ليكون صاحب ثورة. فالحياة المكية بما فيها من عوامل إيجابية وأخرى سلبية قد تفاعلت في نفسه. وهو يرتبط في رسالته بهذه الحياة أيما ارتباط، بحيث أو كان غير مكي لما نجح. وهو يقول في ذلك: »محمد، ككل شخصية مبدعة، تأثر بضرورات الظروف الخارجة (عنه) المحيطة به من جهة. ومن جهة أخرى شق طريقا جديدا بين الفكر والعقائد السائدة في زمانه، ودارت في المكان الذي نشأ فيه... »وقيل ما هو معروف على سبيل التأكيد عن حياته وظروفه المبكرة... ولكن الشيء المهم الذي يصح أن يبحث: ماضيه الاجتماعي. »فقد كان أحد سكان مدينة غير رئيسية. وليس هناك ما يصح أن يصوره بأكثر من أنه بدوي، شارك في الفكرة والنظرة في الحياة التي كانت للبدو الرحل من الناس: »أ/ ومكة في ذات الوقت لم تكن خلاء، بعيدا عن صخب العالم، وعن حركته في التعامل. بل كانت مدينة ذات ثروة اقتصادية، ولها حركة دائبة كمركز للتوزيع التجاري بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط. »ب / وسكانها مع احتفاظهم بطابع البساطة العربية الأولية في سلوكهم ومنشآتهم اكتسبوا معارف واسعة بالإنسان، والمدن، عن طريق تبادلهم الاقتصادي، والسياسي مع العرب الرحل، ومع الرسميين من رجال الإمبراطورية الرومانية. »وهذه التجارب كونت في زعمائهم ملكات عقلية، وضروبا من الفطنة، وضبط النفس، لم تكن موجودة عند كثير من العرب. »ج/ ثم إن السيادة الروحية التي اكتسبها المكيون من قديم الزمان على العرب الرحل، زادت قوة ونموا بفضل الإشراف على عدد من »المقدسات الدينية« التي وجدت داخل مكة وبالقرب منها. وانطباع هذا الماضي الممتاز (لمكة) يمكن أن نقف على أثره واضحا في كل أدوار حياة محمد. وبتعبير إنساني: محمد نجح لأنه كان واحدا من المكيين. »ولكن بجانب هذا الازدهار في مكة، كانت هناك ناحية أخرى مظلة خلقتها تلك الشرور المعروفة لجماعة اقتصادية ثرية، فيها فجوات واسعة من الغنى والفقر. هذه الناحية هي ناحية الإجرام الإنساني الذي تمثل في الأرقاء والخدم، وفي الحواجز الاجتماعية. وواضح من دعوة محمد الصارخة إلى مكافحة الظلم الاجتماعي أن هذه الناحية كانت سببا من الأسباب العميقة لثورته الداخلية (النفسية)«. فهنا يذكر المستشرق »جب« أن مكة كانت فيها حياة زاخرة بالتجارة، والسياسة، والدين. وأنه وجدت فيها زعامة وزعماء. وأنه وجد ظلم اجتماعي بين سكانها. وأن (الرسول) محمد انطبعت في نفسه كل هذه الجوانب، وكان على وعي تام بها، وتُرى آثارها في حياته: في قرآنه وفي كفاحه إلى أن مات. الحالة النفسية والثورة ويرى »جب«: ثانيا: أن ثورة الرسول النفسية لم تبرز في صورة إصلاح اجتماعي، ولم يقم بها على أنه مصلح للحياة المكية الاجتماعية. وإنما برزت في صورة دينية، وفي صورة أنه رسول. وذلك لأنه أراد أن يستغل »قيم المقدسات الدينية« بمكة في الزعامة والرواج الاقتصادي! ! !. ومعارضة المكيين إياه لذلك كانت معارضة في الزعامة السياسية، وخشية على ازدهارهم الاقتصادي من أن يضعف، لو قبلوا دعوته. ولم تكن معارضتهم إياه بسبب العقيدة والإيمان. وإلا فالقرآن نفسه يدل على أن فكرة الوحدانية وهي الفكرة الأساسية في الإسلام كانت معروفة في غرب الجزيرة العربية. ويقول في ذلك: »ولكن نواة هذه الثورة النفسية لم تظهر في صورة إصلاح اجتماعي؛ بل بدلا من ذلك دفعته إلى اتجاه ديني، أعلنه في اعتقاد ثابت لا يتأرجح: بأنه رسول من الله، لينذر أتباعه بإنذار الرسل الساميين القديم: توبوا ! فجزاء الله حق!. وكل جدّ بعد ذلك كان نتيجة منتظرة للتصادم بين هذا الاعتقاد (بأنه رسول) وبين الكفر به، ومعارضته من فريق بعد فريق«. »وهناك حقيقة واحدة مؤكدة (في تاريخه)، وهي: أن الدافع له كان دينيا على الإطلاق: فمن بدء حياته كداع كانت نظرته إلى الأشخاص والأحداث، وحكمه عليهما، نظرة تأثر فيها بما عنده من: صورة عن الحكومة الدينية وأغراضها في عالم الإنسان«. الإسلام ومعارضة المكيين »ومحمد في البداية لم يكن نفسه على علم بأنه صاحب دعوة إلى دين جديد. بل معارضة المكيين له، وخصومتهم إياه من مرحلة إلى أخرى هي التي قادته أخيرا وهو بالمدينة بعد أن هاجر إليها إلى إعلان الإسلام كجماعة دينية جديدة، بإيمانها الخاص وبمنشآتها الخاصة. »ويبدو أن معارضة المكيين له لم تكن بسبب محافظتهم وتمسكهم بالقديم، أو بسبب عدم رغبتهم في الإيمان؛ بل ترجع أكثر إلى أسباب سياسية، واقتصادية. فقد تملهم الخوف من آثار دعوته التي تؤثر على ازدهارهم الاقتصادي وبالأخص تلك الآثار التي يجوز أن تلحق ضررا بالقيمة الاقتصادية لمقدساتهم. »وبالإضافة إلى ذلك تصوروا أسرع مما تصور محمد نفسه أن قبولهم لتعاليمه ربما يمهد لنوع معقد من السلطة السياسية داخل جماعتهم، التي تحكمها فئة قليلة حتى الآن«. ويقول أيضا: »ومعروف من القرآن نفسه أن »فكرة الوحدانية« كانت معروفة في غرب الجزيرة العربية وجود الإله الأكبر، وهو الله كان مبدأ مقبولا، كأصل عام، لدى محمد ولدى خصومه على السواء. والقرآن لم يناقش هذه النقطة أبدا. وحجته التي كان يقيمها ، كان يقيمها فقط على أنه : لا إله إلا الله«. صفحات 202 وما بعدها. من أحب إلى «أبو زيد»: هذا ما كتبه الدكتور محمد البهي في كتابه منذ ستين سنة ليأتي الدكتور »أ[و زيد« في العقد الأخير من القرن العشرين ليردد نفس الكلام بدعوى المنهج وغيره وهذا وارد في كل كتبه ودراساته التي نشرها بين الناس والتي رتب عليها بعض الناس ما رتبوا من أحكام ومن مؤاخذات، وعلى أي حال فإن القارئ يجب أن يتمعن فيما يقرأ من كلام «أبو زيد» يقول عن منهجه: »تنطلق هذه الدراسة من مجموعة الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النصر القرآني من جهة، كما أنها تنطلق من المفاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهة أخرى، والحقيقة أن الفصل بين ما يطرحه النص عن نفسه وبين ما صاغته الثقافة عنه فصل تعسفي، لكنه فصل لا غناء عنه للتوضيح والبيان. إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي. والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما. وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتفقا عليها، فان الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص. إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، ومن ثم لإمكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع والثقافة، أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها. ولنقل بعبارة أخرى إن الله سبحانه وتعالى حين أوحي للرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن اختار النظام اللغوي الخاص بالمستقبل الأول، وليس اختيار اللغة اختيارا لوعاء فارغ وان كان هذا ما يؤكده الخطاب الديني المعاصر، ذلك أن اللغة أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم وتنظيمه. وعلى ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة والواقع، ولا يمكن من ثم أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة والواقع أيضا طالما أنه نص داخل إطار النظام اللغوي للثقافة. إن ألوهية مصدر النص لا تنفي واقعية محتواه ولا تنفي من ثم انتماءه إلى ثقافة البشر«. (مفهوم النص ط:6 المركز الثقافي العربي ص: 24) الإسلام تجاوب مع رغبة القريشيين في التوحد: يتكلم الكاتب عن المخاطر التي شعر بها العرب المكيون على مصالحهم والبحث عن حماية هذه المصالح التي تعتبر من دوافع الرسالة فيقول: »وسط هذه المخاطر كان ثمة إحساس بضرورة التوحد، التوحد على المستوى الداخلي لضمان بقاء الحياة في هذه الظروف الاقتصادية الخطرة، والتوحد لمواجهة الخطر الخارجي الذي أوشك على القضاء على الهوية. وقد عبر هذا الإحساس الغامش عن نفسه في مجموعة من التطورات أهمها بالنسبة لتحقيق الهدف الأول تحديد مجموعة من الشهور يحرم فيها القتال، وقد كان ذلك أقرب إلى الاتفاق للحفاظ على وسائل الإنتاج الاقتصادي من الدمار الكامل، فكانت التجارة تزدهر في هذه الشهور، وتقام الأسواق والاحتفالات الدينية. تحريم النسء خدمة لطبقة معينة وكثيرا ما كانوا يغيرون هذه الشهور _أو يؤجلون بعضها بالنسء- الذي نهى عنه القرآن بعد ذلك _طبقا لمصالح القبيلة ذات السطوة والسيطرة. ولمواجهة الخطر الثاني _خطر العدو الخارجي- فمما له دلالته في هذا الصدد أن القبائل العربية استطاعت لأول مرة أن تتوحد لمحاربة الفرس وحققت انتصارا عليها في واقعه »ذي قار« وهو انتصار تجاوبت أصداؤه في أركان الجزيرة العربية كلها واحتفظ لنا الشعر حتى الآن بهذه الأصداء. وهذه الواقعة تؤكد ذلك الإحساس الغامش بضرورة الوحدة لمواجهة خطر العدو الخارجي. الإسلام إيديولوجية عرب الجاهلية إذا كانت هذه هي الأخطار فلابد أن تكون »الإيديولوجية« التي كان يبحث عنها هؤلاء الأفراد من العرب إيديولوجية تحقق الهدفين: مواجهة الصراعات الداخلية وعوامل التفتيت والانقسام بكل ما يؤدي إليه ذلك من سيطرة الأقوى، ومواجهة الخطر الخارجي الممثل في أعداء العرب من الفرس والروم، ومن الطبيعي ألا تحقق المسيحية _وهي أيديولوجية مطروحة- أحد هذين الهدفين، فقد كانت دينا غازيا معتديا، ولم يكن يمكن لليهودية أن تجتذب العرب وقد كان أحبارها يتعالون عليهم وينظرون إليهم بوصفهم بدوا رعاة، هذا بالإضافة إلى أن اليهودية دين مغلق عنصري لا يتقبل الوافدين الجد، كانت الأيديولوجيتان الدينيتان المطروحتان غير ملائمتين لتحقيق أهداف ذلك الوعي _أو الإحساس الغامش- الذي كانت تعكسه صرخات هؤلاء المتحنفين او المتحنثين. لقد رحل زيد بن عمرو باحثا عن هذه الأيديولوجية في »دين إبراهيم«. (نفس المرجع ص: 64) النبوة والخيال إن تفسير النبوة اعتمادا على مفهوم «الخيال» معناه أن ذلك الانتقال من عالم البشر إلى عالم الملائكة انتقال يتم من خلال فاعلية »المخيلة« الإنسانية التي تكون في »الأنبياء« -بحكم الاصطفاء والفطرة- أقوى منها عند من سواهم من البشر. وإذا كانت فاعلية »الخيال« عند البشر العاديين لا تتبدى إلا في حالة النوم وسكون الحواس عن الانشغال بنقل الانطباعات في العالم الخارجي إلى الداخل، فإن »الأنبياء« و »الشعراء« و »العارفين« قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية »المخيلة« في اليقظة والنوم على السواء. وليس معنى ذلك _بأي معنى من المعاني- التسوية بين هذه المستويات من حيث قدرة »المخيلة« وفاعليتها، فالنبي يأتي دون شك على قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب. إن النفس الإنسانية بصفة عامة جزء من العالم الروحاني في التصور العام للوجود عند العلماء وعلى ذلك فإن كل البشر قادرون على الإلمام بلمحة من هذا العالم من خلال تجربة »الرؤيا« ولكن حين يكون هؤلاء البشر العاديون تحت سطوة »العالم الحسي« لا يستطيعون مقاربة هذا العالم الخصب الثري. إن »الأحلام« تمثل مجالا فاعلية »المخيلة« عند البشر جميعا، لكن »دلالة« ما يراه النائم قد تكون واضحة وقد تكون غامضة، لكنها في كل الأحوال لها دلالتها على بعض حقائق العالم الروحي الذي تنتمي إليه النفس الإنسانية. القرآن والتصور للعالم ولعل أخر ما يمكن ان يكون قد قاله حول القرآن هو المحاضر التي ألقاها في نيويورك بالولايات المتحدةالأمريكية ونشرها في أخبار الأدب عدد 838 _ 2 غشت 2009 تحت عنوان قصتي مع القرآن وقد أكد فيها كثيرا من الآراء التي قالها قبلها في كتبه وسرد التطور الذي مر به من خلال تلك الدراسات التي نشرها حول القرآن وجاء في مقدمة المحاضرة: ترتيب القرآن و(أبو زيد) : »لقد نظرت إلى القرآن حسب ترتيب النزول فوجدت أنه سيكون عبارة عن قصة حياة للنبي محمد، قصة مجتمع المسلمين الأوائل، مما يجعل من الصعب الحصول على رسالة أبدية خالدة. وربما ان المسلمين الأوائل لم يريدوا للقرآن ان يكون مثل الإنجيل، لأن الإنجيل يسرد ككتاب تاريخ، فربما أرادوا لبنية القرآن ان تكون مميزة عن بنية الإنجيل. وأنا أفكر هنا معكم بصوت عال الآن، سألت نفسي لماذا لم يطلقوا على القرآن اسم كتاب؟ وقد ذكر القرآن يصف ذاته «ذلك الكتاب» لماذا أسموه مصحفا؟ ومرة أخرى أتصور ربما يريدون التمييز بين الفئة المسلمة والسابقين من أهل الكتاب، ربما على أي حال: سوف أتناول القرآن في بنيته الحالية بنفس الترتيب المستخدم يوميا في حياة المسلمين لأن هذا الترتيب للقرآن هو نتج من وأعاد إنتاج ثقافة التي نسميها الثقافة الإسلامية«. من ترتيب السور إلى ترتيب الآيات إن الكاتب هنا يرى بوضوح تام أن ترتيب الآيات القرآنية كان بقصد مسبق من المسلمين أي تداولوا وقرروا في حين أن أغلب الباحثين المسلمين والدارسين يرون ان الترتيب توقيفي وحتى الباحثين والدارسين في الغرب اقتنعوا رغما عنهم ان محاولة الترتيب حسب النزول صعب إن لم يكن مستحيلا ولان الأمر يفضي كذلك إلى ترتيب الآيات حسب النزول وليس السور فقط لأن بترتيب الآيات يتحقق مبدأ الحديث عن حياة الرسول، بل ان بلاشير تراجع في ترجمته إلى الترتيب العادي المعمول به في المصحف. ولعله من خلال اختيار هذا الطرح أراد أن يغمز من قناة د. محمد عابد الجابري الذي اختار التفسير حسب تاريخ النزول مع أن التفسير على هذا الأساس رغم ما فيه من تشويش لا يؤثر في ترتيب المصحف ما دامت كل سورة مستقلة عن الأخرى. »وهذا يوضح لي الفرق بين طريقة تناول المسلمين للقرآن وطريقة تعامل غير المسلمين. تناول المسلمين للقران يُركز على مسألة المعنى، طبعا مع عدم إهمال مسألة الترتيب والتاريخية واللغة، لكن تركيز الدارسين المسلمين من البداية حتى الآن على مسألة المعنى. معنى الحياة بشكل عام وصلة حياة كل مسلم بمعاني القرآن أو كيف تضيف معاني القرآن وتشكل الحياة في كل لحظة تاريخية. وبعد ذلك سأتناول مسألة رؤية العالم في القرآن. هل يتضمن القرآن رؤية متماسكة للعالم أم لا؟. هل يمكن للمسلمين استخلاص رؤية للعالم من القران من كل الاختلافات التي نجدها على طول القرآن؟ اختلافات في الأحكام التالية على الأحكام السابقة«. القرآن يحتوي رؤية غامضة للعالم إن الكاتب هنا يصرح بأن القرآن فيه تناقض واختلافات مما يعني اضطراب ما يتضمنه من المعاني والتوجيهات والأحكام والقيم. وعن هذا التساؤل يجيب الكاتب: وهنا أقول أن القران يحتوي على رؤية العالم غير ثابتة يحيطها الغموض. وهذا تناقض لأن رؤية العالم يجب ان تكون واضحة. وهنا أضيف شيئا فالقرآن او أي كتاب مقدس لو كان واضحا تماما يصبح سجلا اجتماعيا ليس له قوة معنوية عابرة للعصر والتاريخ الذي ظهر فيه. ولا يولد معنى خارج سياقه التاريخي. واللغة لكي تعطي معنى خارج سياقها التاريخي لابد ان تحتوي على غموض، ودرجة من عدم اليقين. و النصوص المقدسة عاشت وسوف تعيش بالرغم من محاصرتنا لها في سياقها التاريخي وتفكيك النصوص. النصوص المقدسة عاشت وستعيش لعدم وضوحها الكامل، ربما تكن واضحة الآن لأمة المسلمين، هذا الوضوح مؤقت بتغير السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الغموض في النصوص يتغير أيضا«. إن الكاتب يرمي القرآن بالتناقض وان رؤيته للعالم رؤية يلفها الغموض وغير واضحة وان المسلمين لا يملكون تصورا معينا للعالم ومن تم فإن ما يدعيه المسلمون وما يقومون به من تقديم تصور معين للعالم من الوجهة القرآنية الإسلامية لا ينبني على أساس. ولعل من خلال هذه الشذرات من (جب) ومن (أبو زيد) يتضح أنه لا تجديد ولا إبداع ولا ابتكار وإنما هو تقليد في تقليد أو تجديد في تقليد.