منذ عقود خلت والمتتبع للحقل الإعلامي عامة والإذاعي خاصة يلاحظ ذلك الاهتمام الكبير والشغف اللامتناهي، والترابط الوثيق بين المستمع والإذاعة الوطنية. هذا الولع والعشق حمل المستمع إلى التعرف عن كثب عن كل طاقم الإذاعة، بل وصل الأمر إلى التعرف الشخصي عن بعض المنشطين والتقنيين العاملين داخل مبنى الإذاعة، أو الذين لهم صلة وارتباط بها. ففتحت الإذاعة بابها على مصراعيه في وجه المتلقي وهو بالدرجة الأولى المستمع الوفي لكل البرامج الإذاعية، واهتمت به واحترمت آراءه واقتراحاته، ونوهت بمجهوداته وبمشاركاته المتواصلة الساعية لخدمة إعلامية هادفة. كل هذا ساعد على خلق إذاعة وطنية مسموعة ذاع صيتها في كل التراب الوطني بل امتد الأمر إلى أن استقطبت مستمعين من الجالية المغربية المقيمة بالخارج، وعينة أخرى من المتتبعين العرب. ما يؤسف له بكل صراحة وما يحز في النفس، هو أن تلك العلاقة المتينة والحب المتبادل بين الإذاعة الوطنية والمستمع أضحت اليوم في خبر كان، وبدأت تتلاشى وتتدهور يوما بعد يوم، والصرح الشامخ الذي بني عبر السنون أصيب أساسه بتصدعات خطيرة تنذر بانهياره في أي وقت. والمتتبع يلاحظ أن التغيير الملموس في سياسة الإذاعة الوطنية تجاه المستمع، بدأ مباشرة بعدما تحولت الإذاعة الوطنية إلى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة. ووصلت العلاقة إلى الأسوإ منذ حوالي الثلاث سنوات أو الأربع الماضية. بكوني من المتتبعين للحقل الإذاعي، أسمع ويسمع المتلقي عامة في الآونة الأخيرة، عبارات كلها عنصرية وغير منطقية تؤدي إلى تذمر واشمئزاز المتلقي، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قول بعض المنشطين علنا في البرامج المباشرة: «لا نريد المستمع القديم ومرحبا بالمشارك الجديد» بل يجبر المتدخل أحيانا إلى عدم ذكر اسمه أو أسماء المستمعين القدامى وأن لا تقل هكذا وقل هكذا إلى غير ذلك كما تثير السخرية والاستياء في آن واحد. ما أثار دهشتي واستغرابي وحملني لأكتب هذا المقال، هو أنه وأثناء استماعي في الأسابيع القليلة الماضية لحلقة من حلقات البرنامج التنشيطي «محلى ملقاكم» الذي يذاع على أثير الإذاعة الوطنية من الاثنين إلى الجمعة، من الساعة السادسة مساء إلى السابعة التعامل غير اللائق الذي يعامل به المشارك سواء في الكواليس أو مباشرة. فمثلا نسمع مشاركين يتحدثون مباشرة وتقطع عنهم المكالمات الهاتفية دون أن يتموا كلامهم وأفكارهم. أو أثناء اتصالاتهم بالإذاعة تقفل الخطوط في وجههم. وفي هذا البرنامج بالذات نسمع عبارات كلها عنصرية تميز بين المستمع القديم والجديد. أضف إلى ذلك أن هناك انتقاء وتلاعبا بأرقام المتصلين. فهناك من يترك رقمه لشهور عديدة دون أن يحصل على أية فرصة للمشاركة. في حين هناك عينة أخرى تشارك باستمرار. لنفتح قوسا ونرجع إلى مسألة المستمع القديم والجديد لنطرح الأسئلة التالية: أليس المستمع القديم هو من كان وفيا للإذاعة، وساهم إلى حد كبير في نجاحها وكان في فترة من فتراتها مستمعا جديدا؟ أليس من نعتبره اليوم مستمعا جديدا سيكون في الغد من المستمعين القدامى؟ ثم لماذا كل هذا التحامل على المستمع القديم وفي هذه الفترة بالذات؟ في الحقيقة أكاد أجزم على أننا وصلنا إلى مستوى لايليق بمقام إذاعة وطنية مغربية، إذاعة كل الشعب وليس إذاعة النخبة وعينة خاصة من الناس. أمام كل هذه الممارسات الغريبة والتي أصبحت تمارس على المستمعين من قبل الإذاعة الوطنية. أرغم المستمع على فك ارتباطه بالإذاعة الوطنية والبحث عن البديل. وقد وجد ضالته في الإذاعات الخاصة التي سدت حاجياته في شتى الميادين السياسية، الدينية، الرياضية، الترفيهية، الثقافية... وقد ساعد على ذلك تعددها اللافت للانتباه خاصة بعد تحرير الحقل الإعلامي. ما يميز الإذاعات الخاصة عن الوطنية اليوم هو ذلك الترحاب ورحابة الصدر التي يستقبل بها المستمع، والمعاملة الطيبة التي تليق بمقامه وبمستواه، وتلك الحرية التي تمنح للمتدخل للتعبير عن أفكاره دون توجيه من طاقم الإذاعة أو قطع لكلامه أثناء المداخلة، لذلك نجد اليوم انجح البرامج وأكثرها رواجا وإنصاتا هي التي تذاع من الإذاعات الخاصة. ولا أدل على ذلك هو انك عندما تتجول في أنحاء مدينتك تجد أن معظم المستمعين ينصتون إلى الإذاعات الخاصة بدلا من الوطنية. كل هذا كان من أهم أسباب تفوق الإذاعات الخاصة عن الوطنية. هنا وجب الهمس في أذن مدير الإذاعة الوطنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومحاولة حفظ ماء وجه الإذاعة الأولى في المغرب والموجهة للشعب المغربي كافة. وإن كانت الإذاعة من المستمع وموجهة إليه، فوجب الحفاظ على تلك العلاقة المتينة التي جمعت بينهما واستمرت لعقود مضت.