من الأوراش الكبرى التي وضعها المغرب ، بعد السنوات الأولى للاستقلال، نصب اهتمامه، وبدأ في وضع حجر الأساس لانطلاق أشغالها، في ذروة الحماس الذي كان يعيشه المغاربة وقتها، أذكر على وجه الخصوص : محاربة الأمية ومحاربة الرشوة.. لكن أحداثا كثيرة وخطيرة تسارعت على هذا البلد الأمين ، من حرب الرمال الذي وجد المغرب نفسه مُرْغَماً على خوضها ضد الجزائر «الثورية » سنة1963، ثم المخاض السياسي الذي كان سيسفر على مسلسل ديموقراطي يضع بلدنا على الطريق الصحيح.. لتقفز إلى السطح قضية اغتيال المهدي بنبركة في أواخر أكتوبر1965 بفرنسا وتوتُّر العلاقات الفرنسية المغربية ، ثم فَرْض حالة الاستثناء، وما أعقبها من عملية شدِّ الحبل بين النظام والمعارضة إلى بداية السبعينيات من القرن العشرين، فالانقلاب العسكري الأول (بالصخيرات) والانقلاب الثاني (الهجوم على الطائرة الملكية التي كانت تقلّ المرحوم الحسن الثاني في طريق عودته من فرنسا).. إلى غاية الإعلان عن تنظيم المسيرة الخضراء لتحرير الصحراء ، وما تحَقَّقَ من إجماع وطني حول هذه القضية، وبداية انفتاح سياسي سيؤدِّي في النهاية إلى حصول اتفاق حول ضرورة إنقاذ المغرب من «السكتة القلبية»، فكانت الإصلاحات الدستورية المهمة التي ستُفْضي إلى بروز حكومة التناوب التي يمكن القول أنها مهدت الطريق ، عبر الانتخابات، إلى سلوك المنهجية الديموقراطية في التسيير الحكومي للشأن العام.. هذه الأحداث الأليمة ضيَّعَت علينا وقتا ثمينا كان من شأن استثماره أن يجعل بلدنا اليوم في مكانة أرقى وأعظم.. لكن الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن . من بين القضايا التي تركنا معالجتها إلى حين : قضية الرشوة التي يجب القول أنها وجدت الوقت الكافي لتنخر جسم المغرب طيلة أزيد من خمسين سنة ، وما زالت تجد مرعاها فيه إلى يومنا هذا.. ما كانت الرشوة لتجد مَوْطِىءَ قَدَمٍ لها في حياتنا لولا الرعاية التي أولاها إياها الراشي والمرتشي ؛ وهما هنا على وجه التحديد: المواطن والمسؤول . كلاهما في دائرة التورط. ولا حاجة إلى تقديم أمثلة يعرفها الجميع ، وحديث الخاص والعام في كل مجلس. فبإمكان أيّ شخص أن يقف عليها بأُمِّ عينيه في أية إدارة من الإدارات ، وفي أيّ مجال من مجالات المعاملات، إلى درجة يجعل السيدة الرشوة حاضرة، بكل جبروتها وإغوائها، في جميع مناحي الحياة ، وفي كل يوم، وعلى مدار الساعة. مرت سنوات عدَّة ونحن نتحدث عن محاربتها والقضاء عليها بشكل نهائي حتى تتعافى البلاد والعباد من أضرارها . العجيب في الأمر أن الجميع يتحدث عن عجائبها ، وعدد كبير من هذا الجمع يساهم في رعايتها واستمرارها ، وليس الجِّنّ. أتساءل : أَلَمْ تَكْفِ كل هذه السنوات من التِّيهِ من وضع اليد على مصادر الدّاء؟ وإذا وصلنا إلى مصدر الداء سَهُلَ الدواء. وأسأل بكل سذاجة : إذا كان سكان مدينة «على قَدِّها» يتحدثون ، بالإسم والصفة عن فلاَن وعلاَّن، الذي يأخذ الرشوة «بالطبل والغيطة»، فلماذا لم يتحمّل المسؤولون مسؤوليتهم ، ويشرعون في التحقيق معه؟ أَيُعْقَل أن يكون صدى هذه الرشوة قد وصل مداه إلى السكان والمسؤولون لا علم لهم بها ولا بمن يمارسها؟ أم يُعْوِزُهم الدليل والحجة ؟ يمكن لأيّ مسؤول، لو أراد المساهمة في محاربة هذه الآفَة، أن يتحرك غير بعيد عن كرسيه الوثير، ليشاهد بعينيه ، ونظّارته إذا أراد، ما يجري في الإدارة التابعة لسلطته ؟ ثم أليس لهذا المسؤول الجهاز الخاضع لوصايته الذي يمده ، طيلة اليوم والليلة، بما يجري ويدورفي مجال نفوذه بكل التفاصيل المطلوبة وغير المطلوبة ؟ وَلِمَ لاَ نقول : ألاَ يظهرآثار المال الحرام على صاحبه، ومن أين له هذا ؟ وهل وحده الذي تنزل عليه هذه«النعمة»؟ المُواطَنة الحقّة تفرض على الجميع أن يكون في مستوى المسؤولية. ولم يعد مقبولا ولا معقولا انتظار معجزة تقتلع الرشوة من جذورها وتريحنا منها، بينما نحن المعنيون بها بل المسؤولون عن احتضانها ورعايتها فيما بيننا وكأنها شَرٌّ لا بدّ منه. لا. هذا منكر.