دقت ساعة الحسم، مشروع إصلاح القضاء يجب أن ينتقل إلى السرعة القصوى، والقضاء ينبغي أن يكون في خدم المواطن. هذا ما أكده جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة الرابعة من الولاية التشريعية الثامنة، حيث قرر جلالته التأسيس لمفهوم جديد لإصلاح العدالة يجعل القضاء في خدمة المواطن، مبرزا أن الهدف هو «قيام عدالة متميزة بقربها من المتقاضين وببساطة مساطرها وسرعتها، ونزاهة أحكامها وحداثة هياكلها، وكفاءة وتجرد قضائها، وتحفيزها للتنمية، والتزامها بسيادة القانون، في إحقاق الحقوق ورفع المظالم» . والواقع أن جلالة الملك ظل يولي عنايته السامية لقطاع العدل في بلادنا، وأكد جلالته مرارا على مواصلة إصلاح القضاء ليستجيب لمتطلبات العدل والتنمية، باعتبار أن دولة الحق والمؤسسات لا يمكن ترسيخ دعائمها إلا بوجود قضاء قوي وعادل ونزيه. وهكذا أبرز جلالة الملك في خطابه السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية 2002/2001 أهمية «السهر على مواصلة إصلاح القضاء الذي يتعين عليه أن يطور موارده البشرية وأجهزته ومساطره ليستجيب لمتطلبات العدل والتنمية ،عن طريق ترسيخ سيادة القانون والشفافية والنزاهة والانصاف والسرعة في الإنجاز على مستوى إصدار الأحكام، وتنفيذها، مشيعين بذلك روح الثقة المحفزة على الاستثمار». وهو العزم نفسه الذي جدد جلالة الملك التأكيد عليه في خطابه بمناسبة افتتاح دورة المجلس الأعلى للقضاء، حيث أبرز جلالته أن المهام المنوطة بالقضاء تهدف إلى السهر على ضمان النظام العام، وتأمين السلم الاجتماعية وبناء المجتمع الديمقراطي وسيادة القانون ومساواة الجميع أمامه وتعزيز مناخ الثقة السبيل لتحقيق التنمية الاقتصادية... وهو التوجه نفسه الذي التزمت الحكومة بتنفيذه، حيث تضمن البرنامج الحكومي تأكيدا صريحا على أن القضاء الفعال يعتبر الأداة الضرورية لحماية الحقوق والحريات والعنصر الأساس لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتشجيع الاستثمار وتأمين استقرار المعاملات. والواقع أن الدعوات الى إصلاح القضاء وضمان استقلاليته ترددت كثيرا خلال العشرين سنة الماضية، سواء داخل الحقل السياسي أو الحقل الحقوقي أو الحقل المهني. وفي هذا الإطار خصصت جمعية هيئات المحامين مناظرتها الوطنية الأولى لموضوع «استقلال القضاء الواقع والمؤثرات»، وهي المناظرة التي انعقدت بمدينة فاس خلال يومي 16 و 17 فبراير من سنة 1990، وخرجت هذه التظاهرة بالعديد من التوصيات والمقترحات التي تهدف الى تقوية دور القضاء وضمان استقلاليته لتعبيد طريق بناء المجتمع الديمقراطي.. ويظهر من التوجهات العامة لمختلف المبادرات التي تهم ورش إصلاح القضاء في بلادنا، أن التنفيذ يجب أن يركز على مجموعة من الجوانب، تهم بالأساس، تسريع المنهج الإصلاحي ليأخذ وتيرته القصوى، والتعبئة الشاملة للجهاز القضائي بكل مكوناته، والقطع مع جميع مظاهر الاختلال من رشوة وعرقلة وتخاذل وتردد وانتظارية، وتعزيز الضمانات التي يكفلها الدستور للقضاء ، والتركيز على مكافأة خصال النزاهة والاستقامة والجدية والاجتهاد والاستحقاق، وتوطيد استقلال القضاء، والعمل على مصالحة المغاربة مع المؤسسة القضائية واستعادة الثقة في جهاز العدالة.. والحقيقة أن إصلاح القضاء يتطلب أيضا النهوض بمهنة المحاماة باعتبارها جزءا لايتجزأ من أسرة القضاء، وباعتبار أن القاضي والمحامي وجهان لعملة واحدة، حيث إنهما شريكان أساسيان في تحقيق العدالة.. ولاشك أن الاقتناع حصل بأن بناء المجتمع الديمقراطي الذي تعزز فيه منظومة حقوق الانسان، وتتحقق فيه التنمية الشاملة، لن يستقيم دون فصل حقيقي للسلط الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويعتبر إصلاح القضاء وضمان استقلاله عنصرا مركزيا لترسيخ هذا التوجه. إذ لايمكن الرهان على تحقيق العدل والمساواة والاستقرار والتنمية داخل المجتمع في غياب سلطة قضائية مستقلة تتمتع بالقوة، وتتوفر على جميع وسائل العمل الضرورية، ولذلك يبقى دور استقلال القضاء حاسماً في بناء دولة المؤسسات، وصيانة الحقوق، واحترام الواجبات، وتوفير الأمن، وتحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي. والواقع أن هذه الاستقلالية لا تهمّ فقط الجهازين التشريعي والتنفيذي وإنما تمتد إلى مختلف مجالات الحياة، وفي مقدمة ذلك الاستقلال عن سلطة المال والجاه، وعن سطوة الإعلام والسياسة. إن استقلال القضاء يعني بالضرورة قدرة المؤسسة القضائية على القيام بأدوارها ووظائفها في إصدار القرارات والأحكام والعمل على تنفيذها دون الخضوع لأي تأثير أو وصاية من أي جهة كانت. إن استقلال القضاء يعني اعتماد مبدأ العدل والإنصاف وضمان حقوق المتقاضين، وهو ما يستلزم تحصين وتمنيع المؤسسة القضائية على جميع المستويات المهنية والقانونية والمادية والمعنوية ،والخضوع فقط لضابط الضمير المهني وليس لشيء آخر غير الضمير المهني. إن استقلال القضاء يعني أيضا قدرة المؤسسة القضائية على فض النزاعات والفصل فيها ومعالجة الملفات المعروضة عليها، بأقصى سرعة ممكنة، فلا معنى لإصلاح القضاء مع بقاء أكثر من 40% من الأحكام الصادرة ضد الإدارة دون تنفيذ، منها أحكام صادرة ضد وزارة العدل نفسها، ولا معنى لاستمرار الملف نفسه معروضاً أمام المحاكم لمدة عشر سنوات وأكثر دون أن يجد طريقا للحل والتسوية، عن طريق الاجتهاد في إعمال مبادىء العدالة، وهي الحقيقة التي تعرفها مع الأسف الشديد، العديد من الملفات، حيث يرث الأحفاد نزاعات وخصومات الآباء والأجداد في الوقت الذي كان من الضروري أن يجْتهد القضاء لتحقيق المصالحة بين هؤلاء. إن إصلاح القضاء وضمان استقلاليته، يعني أيضا تحقيق الانسجام بين التشريعات الوطنية والمواثيق الدولية وخصوصا الإعلان العالمي حول استقلال العدالة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، حيث من الضروري الأخذ بعين توصيات منظمة الأممالمتحدة التي بلورتها في مؤتمر ميلانو سنة 1985، والتأكيد على احترام المبادئ الأساسية لاستقلال القضاء في التشريعات الوطنية.