كنا عشرين أستاذ فلسفة من جامعات عربية مختلفة مجتمعين بفندق في العاصمة المغربية نناقش قضية فلسفية شائكة (هل هناك قضية فلسفية غير شائكة؟): قضية المعقول واللامعقول. وقد قدمت في اللقاء الفلسفي الهام ورقة ختمتها بالعبارة الساخرة التالية: وعلى أية حال، فاللامعقول الذي تعرفه خير من المعقول الذي لا تعرفه. ويبدو أن الصيغة الشكية والمستفزة للعبارة أزعجت أستاذا مصريا يحب أن ينعت بأستاذ العقلانية العربية المعاصرة ، فاقترب مني أثناء استراحة الشاي ، و علق ساخرا: والجهل الذي تعرفه خير من الجهل الذي لا تعرفه.أليس كذلك يا أستاذ؟ تجاهلت، واكتفيت بهز الكتفين والقول: ربما! و تحولت سخرية الأستاذ المصري العقلاني الخفية إلى جدية كاملة وقال: - يعني ،يا أستاذ ، المعقول واللامعقول زي بعضه. قلت متضاحكا: لا يا أستاذ، اللامعقول الذي تعرفه خير من المعقول الذي لا تعرفه. وكنا في جوار المسبح الفارغ إلا من معلم السباحة المشغول بتعليم أطفال - من أولاد النزلاء- قواعد السباحة. وطاب لي أن أمازح الأستاذ المصري وأخرجه قليلا من جديته الكاملة ، فسألته: هل تعرف يا أستاذ نكتة الفيلسوف الكبير والرجل الغلبان؟ وبدون أن أنتظر رده رحت أحكي: واحد فيلسوف كبير ركب قاربا يجدفه رجل غلبان.وخلال التجديف سأل الفيلسوف الكبير الرجل الغلبان: - هل تعرف يا رجل ما هي الفلسفة؟ رد الرجل الغلبان صادقا: لا. فنفخ الفيلسوف مزهوا ومتذمرا وقال: أنت يا صاحبي أضعت نصف عمرك. وفجأة ضربت موجة كبيرة القارب فقلبته وسقط الاثنان-الفيلسوف الكبير والرجل الغلبان- في الماء.فسأل الرجل الغلبان الفيلسوف الكبير: هل تعرف يا أستاذ كيف تعوم ؟ قال: لا. فرد الرجل الغلبان: أنت يا أستاذ ضيعت عمرك كله! وضحكت ضحكة صافية واكتفى الأستاذ المصري بالابتسام. وكان معلم السباحة لا يزال في الجوار يعلم الأطفال قواعد السباحة. وصفق أحد أعضاء لجنة التنظيم لكي نلتحق بالقاعة. وكان العرض التالي عبارة عن تحليل لقولة هيجل الشهيرة: كل ما هو واقعي هو عقلاني وكل ما هو عقلاني هو واقعي. وكان الأستاذ العارض - وهو مترجم لبناني مشهور لنصوص هيجل الصعبة- يتكلم في ثقة تامة عن العقل الموضوعي الذي يتخلل الواقع ويقود التاريخ...لما علت ، فجأة، أصوات صخب وهرج قوية قادمة من جهة المسبح. وترددت عبارة: وقع معلم السباحة في المسبح وغرق! و طنّت العبارة في أذني طنينا غريبا وأنا أهرول مع المهرولين: هل هذا أمر معقول؟ يغرق معلم السباحة!؟ معلم السباحة يغرق!؟ ووقفنا بجوار المسبح نشاهد عملية إخراج الجثة من الماء.وقال مدير الفندق محاولا بدون شك طمأنة الزبناء الحاضرين والمذهولين: زلق معلم السباحة وسقط وارتطم رأسه بالحافة ففقد الوعي وغرق (وتنهد) حادث مؤسف حقا. وتبادلت والأستاذ المصري-العقلاني حتى النخاع- نظرات خاصة. و بدا استئناف أشغال الندوة ? بعد حادث غرق معلم السباحة- ثقيلا وصعبا.فاقترح مدير الجلسة تأجيلها إلى المساء. فلم يعترض أحد. كان لا يزال في البرنامج عرض بعنوان:المعقول واللامعقول بين وحدانية الجوهر وتعددية الصورة.ولما جلسنا في البهو ننتظر ميقات الغذاء قال الأستاذ المصري ? أستاذ العقلانية الصارم- وهو جالس قبالتي: - الظاهر أن اللامعقول ،يا أستاذ، ضرب ضربته التي فتت الجوهر وبعثرت الصورة. كانت قولة تجريدية أحسست فورا بفراغ مبناها ومعناها...تماما مثل فراغ فكري .., و عقلي... في هذه اللحظة بالذات. وفي المساء تغيبت عن الجلسة متعللا بصداع نصف رأسي- ولم أكن كاذبا: فبالفعل، كان رأسي مقسوما قسمين،قسم يحلق ويسبح في الفكر الفلسفي المجرد و اللامحدود ،وقسم زلق وسقط وارتطم بالحافة ففقد الوعي وغرق.غرق معلم السباحة.