قديما قبل عصر الكهرباء والثلاجة كانت الأسر المغربية تحفظ الماء في آنية من طين يطلق عليها اسم " الخابية " تضع فيها الماء ليبرد ويحافظ على نقائه وصفائه، يوضع عليها غطاء خشبي له مقبض وحجمها كبير يستوعب عدة لترات من المياه، يشربونه بكاس طيني مطلي بالقطران ذو مقبض يدوي يعطي الماء البارد مذاق طيب ومنعش، أما "البرادة "(الجرة) فنفس النموذج وبنفس الغاية ولكن بشكل مصغر شبه بيضوى أجوف ، كلنا يتذكر هذه الآنية الفخارية لتبريد المياه المخصصة للشرب، ما زالت صامدة إلى اليوم، وذكرياتنا معها أيام زمان جميلة، كنا نستخدمها في حواضر المدن وقراها خاصة بالمناطق الحارة لتبريد ماء الشرب قبل عصر الثلاجات وحتى بعد ظهورها، ولا يزال في البيوت المغربية من هو محافظ على هذا التراث إلى اليوم، وآخرون عادوا لاستخدامها بعد طول قطيعة وذلك للنكهة التي يستشعرونها حين شرب الماء منها، ومما لاشك فيه أن الصناعات الفخارية كانت جزءاً من تقاليدنا الشعبية والفلكلورية وكان لهذه المهنة في الماضي تاريخها العريق، و بحكم تنوع أشكال المغرب التضاريسية، وطبيعة قشرته الأرضية، تتواجد على سطحه أنواع متعددة من التربة مختلفة الخصائص شكلت المادة الأولية اللازمة لصناعة الفخار. ولا تزال " الخابية " و "البرادة " وغيرها من الأدوات الفخارية موجودة ومتداولة إلى اليوم خصوصا في العالم القروي، غير أنها بدأت في التواري في مجتمعنا المدني الحضري بسبب الهجمة الشرسة لمنتجات الصناعات البورسلين المحلية والمستوردة والبلاستيك والمعدن والألمنيوم المختلفة والمتعددة الأغراض وأيضا بسبب عدم احتياج السكان في المدن لأواني الماء الفخارية بعد تأمين مياه الشرب لاستعمال المنزلي عن طريق الشبكات المائية وأيضا عند ظهور الثلاجة، وقد تناقصت نتيجة ذلك بشكل طبيعي أعداد اليد العاملة الفنية في صناعة الفخار عموما. إن صناعة " الخابية " و "البرادة " لا تختلف كثيرا عن صناعة بقية أنواع الفخار ، يستخدم في صناعتها مواد طبيعية بسيطة لا تتعدى الماء والطين والدولاب" القالب" الذي يحرك بواسطة القدم بالإضافة إلى الموهبة الفطرية، التي تحول الطين إلى عجين يدعك جيداً، ويبدأ الدولاب بالدوران فتطلع الخابية والبرادة، وحول مراحل تصنيع " الخابية " و "البرادة " يقول الصانع بوشعيب بجماعة الغربية: "تتضمن مراحل تصنيع الفخار عدة عمليات تبدأ بمرحلة تكوين الطين ضمن أحواض الترسيب ثم مرحلة العجن بالأرجل ثم يغطى بغطاء بلاستيكي ويترك لليوم الثاني كي يأخذ حجمه الطبيعي بعد ذلك تبدأ مرحلة التصنيع على الدولاب وأخيراً مرحلة الشواء ساعات تبدأ بنار هادئة ثم تتدرج بالارتفاع حفاظا على الفخار من التشقق وتستعمل لذلك أفرانا ومعدات تقليدية الصنع وبعد الانتهاء توضع " الخابية " و "البرادة " بعد صناعتها في مكان ظليل غير معرض للشمس حتى تصبح صلبة، ويضيف المعلم بوشعيب: »إن الخوابي الكبيرة الحجم كانت تستخدم بشكل عام في عملية تبريد وتصفية الماء داخل البيوت من خلال وضعها بعد ملئها بالماء وطلي جوانبها الداخلية بالقطران تحت النوافذ، وفي مجرى الهواء التي تمر من فوق الخوابي المشبعة بالرطوبة مما يؤدي إلى تبريد الماء وأيضا تبريد التيارات وتوزيعها داخل البيوت والغرف، وبالتالي حدوث عملية تكييف طبيعية، ومن العادات الجميلة والمحبذة التي كانت سائدة في جل المدن المغربية وبالقرى تأمين المياه لعابري السبيل على الطرقات العامة من خلال خابية فخارية كانت تملأ بالماء النظيف البارد وتوضع على الدروب والطرقات العامة بقصد إرواء ظمأ العطشى من عابري السبيل في أيام الصيف الشديدة الحرارة وقد كانت هذه الخابية تحاط من جوانبها بقماش الخيش لتبريد الماء وحمايتها وكثيرا ما كانت تغطى بجذوع وأغصان الأشجار لدرء أشعة الشمس عنها والمحافظة على الخابية من الكسر وكانت توضع فوق " الخابية " المليئة بالماء البارد "غراف" طيني مطلي القطران وقديماً كان الناس يضعون هذه الخابية سبيلاً لعابري الطرقات على لطلب الأجر والثواب من الله والدعاء للموتى بالرحمة والمغفرة لهم ، وللأسف الشديد هذه العادة الحسنة في طريقها للزوال، حيث كانت سابقاً تمثل تعبيراً صادقاً عن المحبة والصداقة عند الناس ودليل أخلاق عالية تطمح لفعل الخير ونشره بين الناس وطلب الثواب والأجر من الله عز وجل، ولازلت أتذكرهنا خوابي أحياء مراكش القديمة وسويقاته من تصغير لكلمة سوق وأيضا أسواقه المتفرعة من سوق السمارين وساحة جامع الفنا في فصل الصيف المركونة بالزوايا والأركان الظليلة الرطبة بجذوع وسيقان الأشجار وفي الممرات الضيقة بين الأزقة وتسمى الصابة العطشان وما أكثرهم في هذا الفصل القائظ، حيث لا يخلوا زقاق حومة أو سويقتها من خابية ماء وكنا ونحن أطفال كلما أفرغت " الخابية " من مائها إلا ونسارع بمنتهى البراءة لملاها من خلال حمل الماء بواسطة سطل من سقاية الحومة ، فرحم الله أيام زمان، مرت الأيام وتغيرت، حب وتوادد بين الجميع، سكان كل حي كانوا أسرة واحدة، كان أي منزل ندخله هو منزلنا، كانت كل البيوت مفتوحة لنا، ندخلها ونأكل ونشرب من خابيته أو برادته، لم يكن هناك حنفيات داخل البيوت ثم نتابع لعبنا ولا وسائل تسلية غير" البينو" و"السركوس" "والجانطة" والكرة المصنوعة من جوارب الرجل التي انقرضت وغيرها الكثير.. لقد شكلت " الخابية " و "البرادة " المخصصين لحفظ الماء وتبريده جزءا من تراث المغاربة منذ آلاف السنين ومكانة بارزة عند كل الأسر المغربية حتى إن الكثير من الناس مازالوا يحافظون عليها إما للزينة أو لتخزين بعض المواد كزيت الزيتون والعسل أو لترقيد الزيتون إلى غير ذلك، تقول السيدة الميلودية من النساء اللواتي لازلن يحافظن عن هذا الموروث التاريخي " تحفظ الخابية الماء وتصفيه من الترسبات، مائها يتميز بمذاق خاص، وهي تحفة من تحف البيوت القديمة ولازالت كذلك إلى اليوم حيث تركن في زاوية البيت مشيرة الى أن " الخابية " التي تملكها في بيتها ورثتها عن والدها ولا تزال تقوم بعملية تصفية المياه وتبريده"، وإذا كان بعض الناس قد تناقص استخدامهم لها فان البعض الأخر يستخدمها ويفضلها على الآلات الحديثة في تصفية الماء وتبريده وذلك لخصوصية طعم الماء فيها. وتعتبر صناعة الخابية " والبرادة" من الصناعات اليدوية القديمة في المغرب والتي لا تزال حاضرة على الرغم من كل التطورات فهي مهنة توارثها آلا باء و ألاجداد الذين أسهموا بمهارة في صانعة الفخار المتوارثة منذ آلاف السنين وفي التعامل مع مواد الطبيعة، فرحم الله أيام زمان.