عقدت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) والمعهد العالمي للفكر الإسلامي ومعهد الدراسات المصطلحية وكلية الآداب ظهر المهراز بفاس، ندوة علمية مهمة بعنوان »منهجية للتعامل مع التراث الإسلامي« وهي دورة علمية تدريبية لفائدة الأساتذة الباحثين في التراث العربي الإسلامي سنة 1417ه / 1996م، وبين يديّ أعمال هذه الندوة منسّقة مشذبة في كتاب بنفس العنوان، وهي ضميمة لمشاركات الأساتذة د،ط جابر العلواني رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ود. علي جمعة مستشار المعهد في القاهرة، وذ. محمد بلبشير الحسني مستشار المعهد بالرباط، ود. شامل الشاهين مدير مركز البلقان للدراسات والأبحاث العلمية في اسطنبول، ود. علي الغزيوي من شعبة اللغة العربية بهذه الكلية، ود. فريد الأنصاري رحمه الله من شعبة الدراسات الإسلامية بكلية آداب مكناس، ود. عبد المجيد النجار من كلية آداب جامعة العين بالإمارات العربية المتحدة، ود. أحمد أبوزيد من شعبة الدراسات الإسلامية بكلية آداب الرباط، ود. محمد المالكي من شعبة اللغة العربية بكلية آداب ظهر المهراز وذ. محمد كايزي مفتش التعليم الثانوي أكاديمية فاس. تتوزّع هذه المداخلات بين موضوعات ومحاور متكاملة من أهمها مفهوم التراث، ومنهجية خدمة التراث، ومنهجية دراسة مصطلحات التراث، ومنهجية تقويم وتوظيف التراث، ومنهجية تدريس النص التراثي. وسنسعى في هذه الحلقة، والتي تليها، إلى تقديم نبذة عامة عن هذه الأعمال العلمية التي حاول أصحابها تقديم صيغة منهجية للتعامل مع التراث الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالأزمة الفكرية والمنهجية ودور التراث في وجودها، وشكل التعامل معه من أجل معالجتها، أم تعلق الأمر بتحديد مفهوم للتراث، والبحث في تعاريفه ومحدداته وهي الأرضية اللازمة لتأسيس سليم للمنهجية، أم تعلق بخدمة هذا التراث وتهييئه لحفظ الهوية من حيث البحث في صيانته وتحقيقه واستيعابه الاستيعاب السليم، أم تعلق بمنهجية دراسة مصطلحات التراث في اتجاه إدراك سليم، وفهم قويم، أم تعلق بمنهجية تقويم التراث وتوظيفه، وذلك من أجل البحث عن تعامل مثمر مع هذا التراث لبناء المستقبل، أم تعلق بمنهجية تدريس النص التراثي لضمان بلورة مستمرة، لتحقيق أهداف الخدمة والتقويم والتوظيف. جاء في كلمة السيد مدير معهد الدراسات المصطلحية الدكتور الشاهد البوشيخي: »لاجرم أن التراث ذخيرة الأمة التي إليها تفزع، ومنبعها الفياض الثّرار الذي يجب أن تنهل منه حتى تتضلع، وغذاؤها الذي عليه يجب أن تقبل حتى تشبع، وإلا ترشحت للموت بانتهاء القوت، وما قوت هذه الأمة الأنْفَس، وثراتها الأقدس، إلاّ ما أورثَتْهُ من ربها بعد الاصطفاء. فإن حملته حمل الربانيين، كانت به سابقة، مرشحة لوراثة الأرض، شاهدة على الناس، وإن حملته حمل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها، كانت به ظالمة لنفسها، خاسرة، مرشحة لأن تداس كما تُداس الأرض، وتورث كما تورث الأرض، وما عهدُ تركة الرجل المريض ببعيد. قال المولى جل وعلا: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا؛ فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير ) (سورة فاطر 32). ثم من بعد ذلك يأتي ما استنبط من ذلك، وما اهتدي إليه في مختلف مجالات الكون والحياة في ضوء ذلك. ذلكم التراث الإسلامي، وذلكم القوت المانع لهذه الأمة من أن يدركها الموت... وعلى رأس ما يعين على تجاوز العجز، أي عجز، وتحقيق السبق، أي سبق: المنهج، أجل المنهج، إنه عصا موسى عليه السلام في الحياة والعلم، فمن فسد منهجه بذل كثيرا وحصل إن حصل قليلا، ومن استقام منهجه أسرع وإن أبطأ، وسبق وإن لم يكن أول من انطلق. (...) ولذلك كانت بؤرة موضوع هذه الدورة العلمية هو »المنهجية« منهجية التعامل مع التراث الإسلامي: أصولا وفروعا، لتحصيل أكبر مردود بأقل مجهود، ولتحسين صور استثمار أثمن الثروات: الثروة البشرية، وخصوصا النخبة منها الباحثة في التراث العربي الإسلامي. ولعل مداخلة أو ورقة أ. د. طه جابر العلواني رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي كانت أمثل مهاد، وأصوب هاد إلى الباب الذي منه يصح الدخول إلى المنهجية المنشودة، والمدخل الذي يليق بأي باحث مسلم أن يدلف منه إلى معالجة قضايا التراث والواقع الراهن معا، وهو ما قدمه د. العلواني من إشارات سديدة في موضوع »الأزمة الفكرية المعاصرة« إذ أزمة الفكر التي نعيشها أزمة حقيقية موجودة في جانب المصادر والمناهج، جانب القضايا الأساسية التاريخية التي أحدثت أسوأ الآثار السلبية على عقليتنا وفي نفسيتنا وفي طريقة تفكيرنا، والتي أحبطت محاولات إصلاح كثيرة جدا« (ص 52). ويرى د. العلواني أن على الباحثين المسلمين أن يعيدوا قراءة القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية المطهرة، وأن يقوموا بعملية تصنيفها وتوزيعها على قضايا العلوم الانسانية والاجتماعية، لنكتشف توجيهاتها وأحكامها، ولابد لهم من الاطلاع على كل محاولاتنا التراثية في مجالات وقضايا هذه العلوم الإنسانية والاجتماعية، ثم لا بد من درسة التراث المعاصر فهذا الذي يسمى بالتراث الغربي تراث إنساني، كل البشرية قد أسهمت فيه، وهم قد استفادوا من كتب أسلافنا كثيرا، وتمثلوها وعرضوها من رؤيتهم ومنظورهم. لابد أن ندرسها ولكن بغير الطريقة التي ندرسها بها حاليا. لابد أن ندرسها دراسة ناقدة فاحصة، ومعنا مقاييس الكتاب وموازين السنة النبوية المطهرة، مزودين بما في تراثنا من رؤية في هذه المجالات، ندرسها دراسة نقدية فاحصة تمكننا من غربلتها ومن التمييز بين غثها وسمينها وصالحها وطالحها ونافعها وضارها وتمثل المفيد الصالح منها بعد ذلك. ومن الملاحظات الأولية التي سجلها ذ. محمد بلبشير الحسني في بداية ورقته عن »دور المصطلح في تحديث التراث وتوسيع فضائه« أن هناك خلطا خطيرا يقع فيه، عن قصد أو عن غير قصد، بعض المتحدثين عن هذا الموضوع، وهو اعتبار الوحي حزءا من التراث، يخضعونه للنقد والتقييم، كما يخضعون التراث البشري لذلك، بيد أن معظم التراث البشري الإسلامي يجد مصدره الأصلي في الكتاب والسنة. والتراث الإسلامي يتكون من علوم دينية لا تهم إلا المسلمين، وعربية تهم لغة القرآن التي لا مناص منها لفهمه، وعلوم أخرى، يشترك فيها سائر البشر كالفلسفة وسائر العلوم غير الدينية والفنون وغيرها، اللهم إلا ما يرتبط منها بالمنهج أو الهدفية أو القيم الإسلامية، لضوابط، يتعين أخذها بالاعتبار. ثم إن هذا التراث يمكن تقسيمه الى تراث ثقافي وتراث حضاري، فالتراث الثقافي هو كل ما أنتج في سائر العلوم والآداب والفنون الموروثة والمنقولة كتابيا أو شفويا، وأما التراث الحضاري فيتكون من جميع الموروثات الثقافية والتاريخية في العمران والآثار والأنظمة والفنون الشعبية والتقاليد الاجتماعية والمهارات الصناعية والفلاحية المختلفة. ورؤية د. بلبشير لتجديد التراث تقوم على اعتبار هذا التجديد حاجة ملحة في جميع المجالات، فالتراث المتعلق بالعلوم الشرعية من علوم القرآن والحديث وأُصول الدين والمقاصد وأصول الفقه والفقه، وفقه السنة، والسيرة النبوية، كلها في حاجة إلى اجتهاد متجدد باستمرار بحكم ما يتجدد من وقائع وأحداث وما تتطور فيه الحياة الفردية والاجتماعية، ولا ينبغي أن يقتصر هذا الاجتهاد على اللف والدوران في التراث الفقهي والفكري الموروث بالتعقيب والتحشية، أو يقتصر على بعض مجالات الحياة الفردية والاجتماعية من عبادات ومعاملات وأحوال شخصية وفرائض وحدود، بل ينبغي أن يتسع الاجتهاد إلى باقي المجالات التي تتصل بالحياة في المجتمع، والتي قد تخضع لانعكاسات تشريعية فتحتاج إلى فتاوى فقهية، كما هو الشأن مثلا في المعاملات الاقتصادية والممارسات الطبية والسلوكات التربوية والاجتماعية وما يقال عن الاجتهاد الفقهي، الميسر عن طريق الأحكام والأصول والمقاصد، يقال عن الفكر الإسلامي الذي هو أيضا في حاجة إلى تقييم وتجديد، ومن الدعوة إلى أسلمة العلوم الإنسانية والاجتماعية إلا جزء من الحاجة الملحة لتجديد وتوسيع النظرة الإسلامية إلى سائر العلوم وإلى جميع مرافق الحياة العلمية والفكرية والحضارية والأدبية. وخلص د. بلشير إلى أنّ مفتاح تحديث التراث وإثرائه يتجلى في تنشيط البحث العلمي بالاجتهاد في العلوم الشرعية و انبعاث الفكر الإسلامي والتنقيب اللغوي. وتحدث د. شامل الشاهين عن منهجية البحث عن التراث بين الواقع والطموح، وذلك من خلال بيان طبيعة التراث نفسه، والذي يتمثل في المكتبة العربية التي كتبت معظمها بلغة أدبية رفيعة توجب على القارئ أن يتمتع بمستوى ثقافي يتناسب معها، بحيث لا يؤدّي هذا الفارق إلى عزلة عن التراث وأهله، ولكي تتم الإفادة من التراث لابد من الانتباه إلى أن عملية نقله ليست بالعملية السهلة البسيطة ، فإن احتمال التحريف المتعمد للقيم التراثية يعتبر من أبرز الأخطار التي يواجهها التراث، وذلك بسبب الغزو الثقافي الذي جعل من الحضارة الغربية الحضارة المنشودة، ولكي تكون الإفادة الحقيقية من التراث لابد وأن تتهيأ له أيدي مختصين مخلصين يومنون بعقيدة الأمة الإسلامية وبقيمها السامية والتي ترتكز على جذور حضارتها وتراثها. ولابد أن يكون هناك تفاعل صادق مع التراث وإحيائه بحيث يثمر هذا الإحياء في تعميق صلة الأمة بتراثها ومبادئه الحضارية، ومن ثم ترشيد التعامل معه، وتوجيه الحركات الفاعلة والهادفة التي تقوم بها المؤسسات العلمية والثقافية. ومن أهم المشاكل التي يعانيها التراث غياب منهجية البحث عنه، وخاصة عند أبنائه المخلصين الذين يريدون لهذا التراث كل السمو والرفعة، ولكنهم يخطئون الطريق ويقدمون المهم على الأهم، تاركين الأولويات والنظرة الشمولية للتراث، ومما يؤدّي الى انعدام الثقة بأهمية التراث ومكانته المطلوبة، والبحث عن بدائل في الحضارات الأخرى، والاستعداد لتقبل أيّ غزو ثقافي وحضاري وبدون أي تردد: ضعف الوعي به واستيعابه. ثم لابد من وجود ضوابط منهجية للانفتاح على الثقافات العالمية المعاصرة لمواجهة خططها البشعة ، وهناك مشكلة أخرى وهي التقليد الأعمى في تحقيق التراث والاستفادة منه، وذلك عن طرق مغلوطة مشوهة، تبنتها بعض المؤسسات العلمية والثقافية لهذا التقليد وأجبرت الباحثين عليها. ومن النواقص عدم وجود الدراسات العلمية للحركات الإصلاحية في القرنين الثامن والتاسع عشر، تلك الحركات التي نادت بالعودة إلى التمسك بالتراث الإسلامي، ومقاومة الغزو الثقافي والفكري الذي حاول جاهدا إبعاد الأمة عن تراثها والتعامل معه. ومن المعضلات أيضا الاستشراق والأخذ بقول المستشرقين وأعمالهم في تحقيق التراث، والدراسة على أيدي هؤلاء المستشرقين، ومن ثم تنفيذ خططهم في معاداة التراث الإسلامي، والإكتفاء في البحث والإبداع والتحقيق بما هو موجود. ثم الغزو الفكري الغربي الذي كان له الدور الكبير في فترة الاستعمار المباشر للأمة العربية والإسلامية وما بعدها، والذي حاول بشتى الوسائل ان يبعد الأمة عن تراثها وأصالتها الإسلامية. ولقد ساعده في ذلك التقدم التكنولوجي الكبير الذي حققه، مصورا بذلك أن التراث يشكل عائقا كبيرا للوصول إلى النهضة والرقي، وأصبحت متابعة الغرب وحضارته من الأمور الضرورية، بل هي الأمل المنشود، وأخيرا جعلت بعض المؤسسات كالجامعة والمراكز الثقافية هدفها هو تحقيق بعض كتب التراث، دون النظر في منهجية البحث عنه، مما أدى الى إشكالية كبيرة جعلت التحقيق هو الهدف والغاية من الكشف عن التراث لا التراث نفسه، وعليه فلا يخرج التراث إلا محققا، ولو تجاهلنا التحقيق التجاري الهزيل هناك عدم التنسيق بين المحققين سواء كانوا مؤسسات أو أشخاصا في تحقيق هذه المخطوطات وإخراجها، فوجب علينا أن نبحث عن منهجية لإحياء التراث الإسلامي والتعامل معه. ويرى د. شامل الشاهين أن هذه المنهجية المثلى تتلخص في أربع مراحل أولها الكشف عن التراث والتعرف على أماكن وجود المخطوطات وحصرها، أي القيام بمسح شامل لجميع المخطوطات العربية في مكتبات العالم، وثانيها الفهرسة والتصنيف العلمي للمخطوطات وثالثها الاختيار والانتقاء وتقويم المخطوطات، ورابعها إخراج المخطوطات وهو غاية المراحل السابقة، وذلك من خلال التحقيق وهو إخراج الكتاب على أسس صحيحة محكمة من التحقيق العلمي بعنوان المخطوط واسم مؤلفه، ونسبته إليه، وتحريره من التصحيف والتحريف، والخطأ، والنقص أو الزيادة، ومن خلال التصوير. وإذا تعذر التحقيق والتصوير، خاصة في ما يتعلق بالمراجع التراثية الضخمة فيمكن أن نقوم بتكشيف هذه المخطوطات، التكشيف العلمي الدقيق بدلا من الانتظار الطويل لتحقيقها أو تصويرها. والتكشيف هو دليل منجهي للوحدات أو المجموعة أي دليل إلى محتوى المواد يحللها بواسطة دوال معينة يحدد موضعها بواسطة روابط معينة. ويقترح د. شامل من أجل تحقيق هذه المنهجية إنشاء مركز أو مراكز متعاونة تهدف للتعاون من أجل تحقيق المرحلة الأولى من هذا المنهج وهي »مرحلة إعداد الفهارس العلمية للمخطوطات العربية الموجودة«. ثم أن تقوم المؤسسات العلمية والجامعية والثقافية بإعطاء الأهمية المطلوبة لفهارس المخطوطات، وأن تمنحها نفس العناية التي تقدمها لتحقيق المخطوطات وطباعاتها. وأبرز د. علي الغزيوي في ورقته عن »خدمة التراث العربي الإسلامي، عرض وتقويم واقتراح«، مدى حاجتنا إلى ا لتراث لتحقيق الأمن الثقافي والنفسي، كما تطرق لإيجابيات وسلبيات خدمة التراث، وقدم بعض الاقتراحات كآفاق مستقبلية ومنها تنقية تراثنا من الشوائب، والوعي بأن تراثنا العربي الإسلامي يعد أغنى تراث في العالم ومن شأن هذا الوعي »أن يحدد لنا الاختيار المناسب بين دعوات ترتفع بين الحين والآخر، هنا وهناك، ينادي بعضها بتغريب التراث والنظر إليه من خلال المفاهيم والمناهج والتصورات الغربية وينادي بعضها الآخر بتجديد التراث ،أو بتثويره أو بعلمنته وعقلنته ...« (ص 142 ). إذن لابد من الوعي، والخطة الاستراتيجية وتحديد الأهداف، والارتباط بالمشكلات الواقعية، وذلك بالإضافة إلى الإنسان المؤهل للإنجاز، والإمكانيات المادية لكل بحث علمي.