لا شك أن الرشوة تلعب دورا كبيرا في إعاقة التنمية الاقتصادية والاجتماعية و عرقلة مسلسل الدمقرطة وبناء دولة الحق والمؤسسات. إلا أن الحديث عن هذه الظاهرة والتعرف عليها والتحكم فيها ومعالجتها ، يستوجب ، قبل كل شيء، التوفر على معطيات دقيقة وإحصائيات مضبوطة بخصوص طبيعتها ومدى انتشارها والأطراف المتورطة فيها ، وهو أمر لا يمكن الادعاء بوجوده في بلادنا حتى الآن .. وحسب تعريف منظمة الشفافية الدولية : « يرتب مؤشر الفساد المدرك البلدان بحسب مدى وجود فساد مدرك في صفوف موظفي الدولة وبين السياسييين ، وهو مؤشر مركب يعتمد على معطيات ذات صلة بالفساد ، نتجت عن عمليات مسح متخصصة أجرتها مؤسسات متنوعة وذات مصداقية ، وتعكس أراء أصحاب الأعمال ومحللين من جميع أنجاء الاعلم بمن فيهم اخصاصيون ومحللون من البلد الجاري تقويمها.. » وإذاكانت ظاهرة الرشوة متفشية داخل المجتمع المغربي كما هو الشأن في مختلف دول العالم ، فإن الإحصائيات تبقى غير مطابقة للواقع لعدة اعتبارات ، من أهمها غياب معطيات دقيقة حول الظاهرة ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، وإلا كيف يمكن تفسير انتقال الترتيب العالمي للمغرب من المركز45 المسجل سنة 1999 ، إلى الرتبة 89 المسجلة سنة 2009 ، يظهر وكأن المغرب كان أكثرشفافية ونزاهة في الماضي، وأن الظاهرة أصبحت أكثر انتشارا، وهو أمر غيرمنطقي وغير مستصاغ على كل حال.. لا بد أن نعترف بأن المغرب يعاني من التداعيات السلبية، اجتماعيا واقتصاديا ، لظاهرة الرشوة ، ولكن يجب أيضا أن نعترف بالمجهودالتنظيمي والقانوني والمؤسساتي ، الذي بذل خلال السنوات الأخيرة في مجال الوقاية من الرشوة والفساد وتخليق الحياة العامة، حيث انخرطت بلادنا في العديد من البرامج والأوراش واتخذت مجموعة من الإجراءات العملية ، التي بإمكانها تحسين صورة المغرب في هذا المجال ، وظهر ذلك في التزام السلطات العمومية بتنفيذ برنامج لمحاربة الفساد وإحداث الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ، وإصدار قوانين وتشريعات مهمة، كقانون محاربة تبييض الأموال وقانون التصريح بالممتلكات، بالإضافة إلى مشروع إصلاح القضاء ومشاريع المراسيم المتعلقة بالصفقات العمومية، وإحداث مرصد للأخلاقيات ومكافحة الفساد بين إدارة الجمارك والاتحاد العام لمقاولات المغرب، ومن المنتظر أن يتعزز هذا المجهود بإصدارقانونين هامين يتعلق الأول بحماية الضحايا والشهود والمبلغين والخبراء في قضايا الرشوة ، والثاني يتعلق بحق المواطنين في الحصول على المعلومة ، والانكباب على إنجاز دراسات حول تفشي الظاهرة الرشوة في قطاعي الصحة والنقل ستتبعها راسات في قطاعات أخرى ، وتهدف هذه الإجراءات إلى ترسيخ الشفافية في تدبير و تسيير ممتلكات الدولة، و في تنظيم الصفقات الحكومية، وتطوير أنظمة التتبع والمراقبة والتدقيق، وتبسيط الإجراءات الإدارية، ودعم الإدارة الإلكترونية. ولا شك أن الإصلاحات الهيكلية والأوراش الكبرى والاستثمارات في القطاعات الإنتاجية التي توفر الشغل والثروة بإمكانها المساهمة في الحد من ظاهرة تفشي الرشوة والفساد ، خصوصا أن الدراسات أثبتت علاقة الرشوة بالهشاشة في مختلف أبعادها ، حيث يؤكد الخبراء والباحثون أن الرشوة لها تداعيات اقتصادية وسياسية واجتماعية، إنها تكرس اقتصاد الريع وتعوق التطور الديمقراطي وتوسع الفوارق الاجتماعية ، وفي هذا الإطار تؤكد منظمة الشفافية الدولية أن الدول الأكثر فقرا هي الأكثر فسادا في العالم ، حيث يشكل الفقر والفساد ظاهرتين تغذيان بعضهما البعض . إن المغرب يخطو خطوات مهمة نحو الوقاية من الرشوة والفساد ، ولكنها خطوات تستلزم المزيد من الشفافية على مستوى التشريعي والمؤسساتي والتنظيمي ، وفتح نقاش حقيقي حول خطورة الرشوة وأضرارها الاقتصادية والاجتماعية ، على مستوى السلطات والجماعات المحلية بمختلف أنواعها ، ومساعدة المقاولات على إعداد ميزانيتها وتحسيسها بمسؤوليتها في مواجهة الفساد ..إن الأمر يقتضي أيضا توفير آليات ناجعة على مستوى التحقيقات والقضاء ، بما يضمن تسريع عمليات التحقيق وسير المحاكمات ، لأن البطء في ذلك، من شأنه أن يقلل من أهمية الحجج والأدلة المقدمة ، والتأثير على القضية برمتها ، وبالتالي إقبار هذه القضية أوإصدار أحكام لا تتناسب وخطورة الفعل الجرمي .. والأهم من كل ذلك القيام بخطوات احترازية واستباقية للتصدي لمختلف أنواع الفساد الإداري والمالي قبل الوصول إلى المحاكم. إن هذه الخطوات تستلزم أيضا الكشف عن موارد ومداخيل مختلف المسؤولين في القطاعين العام والخاص ، من كبار الموظفين والبرلمانيين والقضاة وإلزام أعضاء المجالس الإدارية للشركات المدرجة في البورصة بالتصريح بمرتباتهم وممتلكاتهم ، وهو الأمر الذي يمكن تفعيله بتطبيق مقتضيات قانون التصريح بالممتلكات ، دون إغفال ملاءمة المنظومة القانونية الوطنية مع المنظومة الدولية ، وفي مقدمتها معاهدة القانون الجنائي للمجلس الأوروبي التي تعزز محاربة الفساد .. واعتماد مبدأ الشفافية البنكية وتطهير الساحة المالية المغربية من أموال الفساد والتخلص من جميع العمليات المريبة. إن هذا المجهود الذي انخرطت فيه المؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني ومختلف الأطراف الأخرى يجب أن يؤدي، في آخر المطاف ، إلى نتيجة ملموسة ، تضمن تحسين تصنيف المغرب على الصعيد الدولي وتحقيقه لترتيب ضمن الدول التي ينظر فيها إلى الفساد باعتباره ظاهرة هامشية داخل المجتمع