افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 2 نوفمبر 2023 بعيدا عن الإنسان الذي جعلتنا وحشيته هذه الأيام نشك في آدميتنا، أستحضر مُنحازا لعالم الحيوان، هذا المقال من كتابي "هزائمي المنتصرة" الصادر عن مؤسسة مقاربات بفاس عام 2019 . تعيشُ مِقْدار ما تعيش ميِّتاً في هذه الحياة، وحتى لو كان وجودكَ كعدمكَ مِنَ الذين لا يفعلون شيئاً، يكفي أن تكتفي بالسَّمع والنظر، لتكْتسب مع انصرام السنوات، خِبرةً في اسْتِقراء النُّفوس وفهْم الدّوافع وحتى المدافع، تلك التي تُحرِّك سُلوكيات بعض بني وبنات البشر، وستزْداد في فهمكَ لهذه النُّزوعات النفسية عُمْقاً لن يُوصلكَ إلا للسَّطح، فما أكثر ما تختلط في شَعْر رأسك الأفكار بالقشور، وما ذلك إلا لأنّك مَلَلْت المُشاهدة من مسافة تجعلكَ عُنصراً غير مُشاركٍ في صراع كلاسيكي دائر منذ الأزل بين الخير والشر، ثم تُقرِّر فجْأةً أن تقْلِب مع المعْطف القناة للتَّفرُّج على عالم الحيوانات، صحيح أننا نستطيع بسُلوك الحيوانات على اختلاف أجناسها تفسير بعض السلوك البشري المُسْتشْرِس الذي حوَّل مجتمعاتنا إلى غابة مترامية في أطراف القَرَف، ولكنَّني لا أقْلب القناة لعالم الحيوانات إلا لأجل المُتعة، أو ربما لأشعر للحظة أنني أعيش ولو استيهاماً قريباً من طبيعة بعض الناس! أقْلب القناة إلى عالم الحيوانات، لأشاهد الأسد الذي نصَّبه المُتخيَّل الإنساني ملِكاً على الغابة، ولكن بمعايير قد تكون غير مُنْصفةٍ، فليس فروة أشبه بالتاج على الرأس، مع احترامي الكبير لجلجلة الزئير إذا أرسلت خطابا قويا يهزُّ الأشجار، وقد لا أكتفي أحيانا بالمُشاهدة، بل أسْتنجد بسِعة الخيال لأنخرط بوجداني هارباً من الأسد مع الهاربين حيث ينتظرني حتْفي، كان يمكن أن أتصوَّر نفسي فِيلاً وأواجه الأسد برفْسةٍ واحدة من قدمي الثقيلة أرديه صريعا، ولكن أُفضِّلني دائما مُصْطفّاً إلى جانب كل الضُّعفاء دون أن أنوي التَّرشُّح للإنتخابات، وهل ثمة أجْمل من الرَّكض جزَعاً بعد شرْبة ماء صافية وهنيئة من الغدير قرناً لقرنٍ بجوار إحدى الغزالات، لن يُحْزنني أنْ أقع فريسة بين أنياب الأسد، لأنّي أخضع لسلسلة غذائية مشروطة بمنطق الغابة غير المحكوم بعقل، والطبيعة لا تظْلم أحداً فهي ليست مُجتمعاً بشريّاً سنَّ قوانين وشحذ سكاكينها بالمَضَاء الذي يُبرِّرُ ذبْحي، أو وِفْق مصالح تجعل الأسد يأكل لحْمي نيِّئاً وهو مُرتاح الضمير! أقْلب القناة إلى عالم الحيوانات، ولأنِّي لم أتعوَّد على المُشاهدة دون أن أعيش كل الأدْوار لدرجة الحُلول الوَبريِّ طبْعاً وليس الصوفي، فَلنْ يضيرني أن أكون حماراً وحشياً مُخطَّطاً في فريق أو قطيع من لباس مُوحَّد، ستُعْجِبني بلادتي التي اخْتلق وهْمَها البشر عن كل حمار، والحقيقة أنَّنا لا نحْتاج رؤية أذنين طويلتين للاسْتدلال على بلادة بعض البشر، لنْ يضيرني أن أَكْلأ مع الكالئين وآكل العشب دون أن آكل الشَّعب فخير الله نابتٌ في حزامنا الأخضر على امتداد الطبيعة حتى أعالي الشجر، ولا أحد يُهدِّدُ بأنْ يَحْشُر رأسي في علَّافة تجعل التفكير لا يتجاوز حدود البطن واحتياجاته بمقدارٍ من الشَّعير، سأتزاوج بكلِّ ما أوتيتُ من رغبة وأنتمْ أعْلم أنَّ رغبة الحمار مَهِيبةً في العرض والطول، وأغدو بين الأتَان سُلطان الحمير، سأنْجب من صُلْبي أسْراباً من الحُمُر الوحشيَّة ما أجملها وهي جُحوش صغيرة تكاد تُزقْزق عوض أنْ تنْهق، تحْسب خطوطها مع انْعِكاس الشَّمس وهي تُعْلن النَّفير، جسوراً يمكن أن تتبيَّن من حوافرها الدقيقة رغم ما تثيره من غبار الطريقَ إلى المستقبل، والمحظوظُ من أغْرتْه بامتطائها فبلوغ المآرب بنجاحٍ اليوم لا يكون إلا على ظهور الحمير! أقْلب القناة إلى عالم الحيوانات، فصغيرتي تُحِبُّ برامجها أكثر من قنوات عربية أصبحت بشدَّة تعطُّشها لتغطية الحروب، مسرحاً لِسفْك الدِّماء، صغيرتي تُصفِّقُ فرحاً حتى تُطيِّرني من مكاني حين ينتقل مُخْرج الوثائقي بكاميراه إلى مُجتمع القرود، ولا أعرف ما الذي يسْتثيره القرْد في خيالها بسُلوكيَّاته الشاذة فهو معْفونٌ يُقزِّزني، خصوصاً حين يُقرْفِص ليسْتَفْلي القمل من رأس صغيره توا إلى فمه، لذلك ربما ادَّعى داروين أنّ الإنسان كان في أصوله قرداً، وهو لا يريد بادِّعائه سوى الانتقام من ظُلم وعُدْوان البشر، أعتقد أن صغيرتي تجده أقرب في هيئته من الإنسان وتتساءل في نفسها ناسيةً أنه مُجرَّد قرد، كيف لامْرىءٍ أن يتعايش مع كل هذه القذارات فاسداً في الأرض دون أن يطاله عقابٌ من أحدٍ: إنه يقفز.. يقفز.. صاحتْ صغيرتي أكثر من مرة في طبْلة أذني كما لو وجدتْ جواباً عن السؤال الذي يُخالجها، أما أنا فاكتفيت بالابتسام مُحدِّثاً نفسي بما لا يعني أحداً، فالقرد قد يقفز على الأشجار كما يقفز البعض هذه الأيام على كل القوانين، ولكنّه لن يستطيع القفز على قانون الطبيعة، خصوصاً حين يقع فريسة بين فَكَّيْ تِمْساح يلْتهِمه ويرثيه في نفس الآن بالدموع! لعالم الحيوانات أقلب القناة، فلا أجد مكرا في ذئاب البراري وهي تجتمع متآزرة في عشيرتها تعطي أبلغ الأمثلة عن التَّكافل الاجتماعي، كما تُعْطِيه في الحُبِّ وهي تُمَارس طُقوسَها في الغَزَل بطريقةِ العُواء والنداء حين بزوغ القمر، ولن أبالغ إذا قلتُ إنَّ من اخْتلق قصَّة الناطور حارس حقل العنب الذي مكر بهِ الثعلب، قد شوَّه سُمعة كل الحيوانات، وذلك شرٌّ ليس ببعيد عن مكر الإنسان، فلا وجود لملك في الغابة أو وزير أو مستشار أو قاضي أو وزير إعلام اختاروه من صنف الطيور هدهدا بعد أن أتى بالنبإ على غير ما هو عليه من سبأ، فقط نحن بمُخيِّلتنا المُسْتعْبدة وهي تبْتدع من يحْكمها، وزَّعنا على الحيوانات هذه الأدوار، بينما هي تحيا على طبيعتها بريئةً من كل التفاوتات التي تنخر المجتمع الطبقي، للأسف حتى الحيوانات ونحن نثقل كاهلها بوظائف بشرية، لم ندعْها تعيش في طبيعتها بسلام !