تحل يومي فاتح وثاني شتنبر 2008 الذكرى الواحدة والسبعون لمعركة ماء وادي بوفكران أو «كيرة الماء لحلو» كما يطلق عليها العامة والتي كانت ساحة الهديم بمكناس مسرحا لها يوم ثاني شتنبر 1937م ولقد مرت هذه الأحداث بمرحلتين في هذين اليومين: أولها المظاهرة السلمية لفاتح شتنبر 1937، التي نظمها الوطنيون احتجاجا على إبعاد السلطات الفرنسية لممثلي المدينة عن المشاركة في أعمال اللجنة المكلفة بتوزيع ماء بوفكران لفائدة معمري «تانوت». وثانيها المواجهة الدموية التي اندلعت صباح يوم ثاني شتنبر من نفس السنة بعد إصدار باشا المدينة آنذاك أحمد السعيدي حكمه بالسجن على خمسة من الوطنيين، فاستشهد وجرح فيها العديد من المواطنين. أراقت هذه القضية حبرا كثيرا على المستوي الدولي والوطني، وأثارت موجه من الحماس الشعبي. واستقطبت اهتمام صحف العصر، وأصبحت مادة غزيرة يزخر فيها الأرشيف الفرنسي بمركز الوثائق الدبلوماسية بمدينة نانط Nantes الفرنسية، وكتب فيها الكتاب والمؤرخون. وكانت موضوع بحوث، ورسائل جامعية لأمثال الأستاذ بوشتة بوعسرية في رسالته وكتابه «المقاومة المسلحة والحركة الوطنية بمكناس وأحوازها (1911 1956)»، وكتاب : التبيان لمعركة ماء أبي فكران للشيخ ابراهيم الهلالي بالاضافة الى مداخلات بعض الندوات التي تنظمها بالمناسبة المندوبية السامية لقدماء المقاومة وأعضاء جيش التحرير، والتي كانت كلها موضوع إثراء هذا المقال. ينابيع وادي بوفكران الذي كان يعرف بوادي فلفل: تغذيه مجموعة من العيون المائية الموجودة بآيت بورزوين بعين معروف قبيلة ابني امطير الحاجب. وكانت مياه هذا الوادي تستغل في الشرب والسقي بمدينة مكناس وضواحيها. كانت قبل سنة 1912 تابعة للمؤسسة الحبسية، تعمل إدارة الأوقاف على توزيعها بين المنتفعين، وبعد هذه السنة ضمته إدارة الحماية الفرنسية إلى الأملاك العامة (قرار 28 إبريل 1912) أصدره المقيم العام بالمغرب الجنرال ليوطي (1912 1925) لتتخلى الأحباس عن إدارة المياه للبلدية. لكن هذا القرار رفض من طرف الأوقاف، وجاء قرار 12 فبراير 1937 المسجل بالجريدة الرسمية عدد 1268 بتاريخ 12 ابريل 1937 تم بمقتضاه توزيع ماء بوفكران على المعمرين الفرنسيين، وأوكلت الإدارة الاستعمارية الى المهندس «بوشار» تنفيذ التوزيع الجديد الأمر الذي لم توافق عليه ادارة الأحباس صاحبة الحق الشرعي في تدبير المياه حسب الرسوم والوثائق المتوفرة لديها. * يتحول الماء الى ضيعات المعمرين، وليبق على ما يسد رمق أهل مكناس. بدأت الإجراءات لتحويل الماء عن مجراه الطبيعي، ووضعت الحواجز والسدود الصغيرة لتحول بين السكان والماء الذي هو مصدر حياتهم. نضب ماء النافورات، وجفت أنابيب السقايات العمومية ويبست الحقوق والبساتين الناس في كل مكان: «أيعقل أن يعيش مكناس بدون ماء لحلو؟» كما جاء في بعض كتب التاريخ. تحول الهمس أول الأمر الى احتجاج بواسطة العرائض التي تم تحريرها في أربع نسخ ارسلت واحدتها الى الملك محمد الخامس يوم 16 يونيو 1937 والثانية للمقيم العام الجنرال نوكيس والثالثة للجنرال كايو رئيس دائرة مكناس وكلها تتضمن الحالة المزرية التي وصلت إليها المدينة بمرافقها وحدائقها، مع المطالبة بضرورة اعادة المياه الى مجاريها الأصلية. وقع هذه العريضة نحو 1486 مواطنا من جميع الشرائح المكناسية، الى أن بلغ طولها 3 أمتار و 30 سنتيمتر، وعرضها وصل 59 سنتيمتر، وبعد تقديم هذه العرائض تصدت الصحافة الوطنية لشرح الوضعية الكارثية لمدينة مكناس (جريدة الشعب عدد 46 بتاريخ 7 يونيو 1937). قرار الدفاع عن المياه المغصوبة لارجعة فيه: تأسست لجنة للدفاع عن هذه المياه، وكان شعارها: «الماء ماؤنا تفديه أرواحنا» فقامت بزيارة خاصة إلى ينابيع ماء وادي بوفكران الأمر الذي اثار حفيظة الإدارة الاستعمارية، التي لفقت لأعضاء هذه اللجنة تهمة محاربة الظهير البربري بقبيلة (بني مطير وطالبت محاكمتهم في اليوم الموالي بمدينة الحاجب، حيث نفت اللجنة التهم الموجهة اليها، واحتجاجا على ذلك عم الاضراب جميع الحياة بمدينة مكناس، وحملت الإدارة الاستعمارية على التراجع عن هذه التهمة. اجتماعات ماراطونية لم تأت بنتائج: عقدت عدة اجتماعات بين الأحباس وإدارة الأشغال العمومية والبلدية ولم تؤد إلى أي اتفاق عملي نظرا لتعارض الآراء والمواقف وآخر اجتماع كان يومي 28 أبريل و 27 ماي 1936 لتبرير الترخيص للمعمرين بتانوت لأخذ حصة 20 لتر / ث لسقي حوالي 145 ه من الأراضي التي استولوا عليها دون موجب حق. من أصل 1955 ه التي كانت تسقيها 44 ساقية. وكان أخطر القرارات الصادر في شأن توزيع هذه المياه هو قرار الصدر الأعظم محمد المقري بتاريخ 16 نونبر 1936 الذي قلص من صبيب الماء المتجه نحو المدينة مما جعل السكان يعارضونه، فتراجعت الإدارة الفرنسية على تطبيقه، وعوضته بتوزيع جديد يوم فاتح وثاني شتنبر 1937 حيث قلصت حسب زعمها من حصة مياه المستعمر، وسكان حمرية، غير أن ذلك لم يكن مرضيا للمكناسيين الذين تشبثوا بأحقيتهم في ملكية الماء دون توزيع. وبذلك يكون قد رفض توزيع 16 نونبر 1936، وتوزيع 3 غشت 1937 وتوزيع فاتح وثاني شتنبر 1937، فتطورت الأحداث، الى ما لا تحمد عقباه. مظاهر سلمية يوم فاتح شتنبر 1937 صباح يوم الأربعاء فاتح شتنبر 1937 لم تسفر الاتصالات التي أجراها ممثلو المدينة مع الإدارة الفرنسية عن نتائج ايجابية وفي غيابهم ورغما عنهم تقرر توزيع مياه بوفكران حسب أهواء هذه الإدارة. تسرب الخبر الى عموم المواطنين الذي حجوا حوالي الساعة 9 والنصف بكثافة نحو 4000 الى 5000 مواطن الى مقر بلدية حمرية بشارع محمد الخامس كما قام الحزب الوطني آنذاك بتنفيذ قرار الإضراب الى جانب أعضاء الحركة القومية. توقف الاجتماع الذي كان يرأسه رئيس البلدية ابرونيل الذي طالب من السكان من أعلى الشرفة التزام الانضباط وتفريق المظاهرة. وطمأنهم بانتداب مجموعة من الأشخاص لتمثيلهم في مفاوضات هذا اليوم، فعاد هؤلاء الممثلون بخفي حنين، وزاد غضب المكناسيين، عادت الجماهير الى مسجد جامع الزيتونة لتدارس الوضع.. وتحركت أجهزة المخابرات الفرنسية لاعتقال خمسة من الزعماء الوطنيين لمحاكمتهم في اليوم الموالي بتهمة التحريض على التظاهر والإضراب والمشاركة فتقرر استدعاء ادريس المنوني ومحمد بن عزو، ومحمد ولد مدان السلاوي، وامحمد الطاهري ومحمد الأجاني لمحاكمة يوم ثاني شتنبر 1937 اليوم الأسود في تاريخ مدينة مكناس.. يتبع