تسارع حكومات العديد من الدول في مختلف مناطق العالم إلى رفع سعر الفائدة بوتيرة وبشكل غير مسبوقين في تاريخ الاقتصاد العالمي المعاصر، وهو إجراء، يبدو من حيث الشكل عاديا حينما يتعلق الأمر بحالة منعزلة لاقتصاد قطري يواجه تحديات طارئة، لكن أن يتحول إلى ملجإ اضطراري للعديد من الدول، فإن ذلك يكشف عن حقائق ومعطيات ترتبط بالأوضاع الاقتصادية العالمية فرضتها ظروف طارئة جدا خارجة عن السيطرة . هكذا سارعت الإدارة الأمريكية التي تقود أحد أقوى الاقتصاديات في العالم إلى رفع سعر الفائدة الذي حدده مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) في 75 نقطة ليصل إلى 3,25 بالمائة، وألمح إلى مزيد من الارتفاع، والذي قد يصل إلى 4,40 بالمائة في المدى القريب، كما التجأت دول كثيرة، بما فيها الدول الأوربية والنفطية إلى هذا الإجراء الذي يؤشر على أن الاقتصاد العالمي يعيش حالة ضيق مزعجة جدا. الأكيد أن قرار رفع سعر الفائدة ليس معزولا عن سياق اقتصادي وسياسي عام يجتاز العالم تفاصيله الدقيقة والصعبة، فقد تسببت تداعيات انتشار وباء كورونا التي فرضت أجواء إغلاق اقتصادي عام، تعطلت فيه حركات الإنتاج، وتوقفت سلاسل التسويق، في انكماش اقتصادي عالمي غير مسبوق في التاريخ القريب والبعيد، وما أن خفت حدة الانعكاسات التي تسببت فيها الأزمة الصحية التي هزت أركان العالم، وبدت معالم انتعاش اقتصادي جديد، حتى اشتعلت حرب في القارة الأوربية التي مثلت فترة مواجهة مباشرة بين القوى الاقتصادية والعسكرية العالمية، ودخل العالم مرحلة أزمة جديدة من نوع آخر، لا تزال تداعياتها السلبية تلقي بظلالها على الأوضاع الاقتصادية العالمية، وبسبب هذا التراكم في عوامل ومظاهر الأزمة، والتي ألقت بتداعيات جديدة تجسدت هذه المرة في ارتفاعات مهولة في أسعار مختلف المواد الطاقية والاستهلاكية الأساسية، مما أفضى بدوره إلى مرحلة ركود اقتصادي خطير بسبب تدهور القدرات الشرائية لمختلف الفئات من الأشخاص في أرجاء المعمور، وانتهى إلى كساد وإلى تضخم اقتصادي كبير فرض على العديد من الحكومات في العالم الالتجاء إلى الكي كآخر دواء للوعكة الصحية التي أصابت الاقتصاد العالمي . هكذا يكون العالم بصدد بذل ما يجب من جهود لكبح جماح التضخم للخلاص المؤقت من حالة ضيق التنفس، ولكنه بكل تأكيد لن يمثل الحل الأمثل للخروج من هذه الوضعية الصعبة، لأن انعكاسات رفع معدلات الفائدة قد لا تقل خطورة عن تداعيات التضخم نفسه، فمن الناحية النظرية، فإن قرار رفع سعر الفائدة يزيد من عبء القروض الجديدة والقائمة على أساس سعر فائدة متغير، وهذا سيؤثر لا محالة على قروض الاستهلاك والاستثمار، مما يعني بصفة مباشرة تراجع مرتقب في حجم هذه القروض، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا التراجع على سوق الشغل التي ستفقد ملايين المناصب لهذا السبب، كما أن انخفاض حجم القروض سيقلص من السيولة النقدية وتراجع الاستهلاك، كما أن رفع سعر الفائدة سيغري المودعين بإيداع أموالهم للاستفادة من ارتفاع سعر الفائدة ، مما يعني تجميد أموال كانت ستساهم في إنعاش الحركة التجارية والاستثمارية وفي رفع وتيرة الإنفاق الاقتصادي. الإشكال فيما يحدث، أن قرار سعر الفائدة غير مرتبط هذه المرة بعوامل داخلية ذات صلة بالكتلة النقدية داخل القطر الواحد يمكن التحكم في تداعياته، بل إنه مرتبط بعوامل خارجية، وبأسباب مستوردة من الخارج، قد لا تكون تقتصر على تداعيات تطور الأحداث العالمية من تداعيات الأزمة الصحية العالمية والحرب الروسية الأوكرانية، بل قد تكون ناتجة أيضا عن انتهاز كبريات الشركات الاقتصادية في العالم الظروف الصعبة والحرجة التي يجتازها العالم باحتكارها لبعض المنتوجات وتحكمها في بعض القطاعات التجارية، بهدف الرفع من العائدات المالية، مما يكشف عن سلوك انتهازي خطير يستثمر في المآسي الإنسانية من أجل مراكمة الأموال. وهكذا فإن دولا كثيرة وشعوبا متعددة ستكون مجبرة على دفع فاتورة غالية لأزمة ليست مسؤولة عنها، بل إنها ناتجة عن تطاحن القوى العظمى، وعن استغلال أوساط اقتصادية نافذة في العالم للظرفية الصعبة، و لذلك فإنه يمكن القول بأن قرار رفع سعر الفائدة قد يكون الدواء غير الملائم للوعكة الصحية التي أصابت الاقتصاد العالمي، لأنه في هذه الحالة يصبح آلية نقدية لمعالجة قضية وإشكالية ليست نقدية خالصة، لأنها شديدة الارتباط بعوامل وأسباب سياسية ولها علاقة مباشرة بالحسابات الجيو استراتيجية للقوى العظمى فيما بينها، ولذلك فإن رفع سعر الفائدة قد يحد من التضخم وكبح جماحه، لكنه في المقابل لن يخلو من أخطار حقيقية سيفرز لا محالة تداعيات أخرى، إذ سيتسبب في انخفاض معدل النمو الاقتصادي بما يعني ذلك من تقلص مناصب الشغل وتعميق الهشاشة الاجتماعية وتنامي ظاهرة الهجرة من الهوامش إلى المدن وتقليص في حجم الخدمات وإلحاق الأذى بالقدرة الشرائية للأشخاص. ومن المؤكد أن قرار رفع سعر الفائدة لن يكون القرار القاسي والمؤلم الوحيد في سياق ظرفية عالمية مكتظة بالأخطار، بل المحقق أنه سيكون قرارا مؤذيا في سياق قرارات أخرى ستزيد من تعميق وضعية الأزمة في الاقتصاد العالمي، والتي سيدفع الصغار تكلفتها غاليا جدا، وهذا ما شهدت به المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية وهي تخاطب المشاركين في المنتدى العام السنوي للمنظمة، الذي انعقد قبل أيام في جنيف السويسرية، حيث أكدت أن قرار الرفع من معدلات الفائدة ستكون له " مفاعيل خطيرة على الدول النامية التي ستواجه ارتفاعا في أعباء خدمة ديونها، ونبهت إلى أهمية تحديد أسباب التضخم لمعرفة ما إذا كان ناتجا عن الطلب القوي أوعن أسباب بنيوية من جهة العرض، وأكدت على أنه " إذا كان الأمر يتعلق بعوامل لها ارتباط بالعرض، فإنه لا يمكن السيطرة عليها، عندها فإن الاستمرار في زيادة معدلات الفائدة سيأتي بمفعول عكسي."