ادريس الفينا: ارتكاز الجزائر على احتياطاتها الطاقية دون سياسات تنموية موازية تحد من الاختلالات النقدية يجعل إصلاحاتها النقدية عقيمة. وفقا لمصادر متطابقة فإن البنك المركزي الجزائري على وشك اتخاذ قراره الرامي إلى حذف الأصفار من العملة الجزائرية، للخروج من الأزمة الخانقة التي ما دأب الخطاب الرسمي الجزائري يحاول مداراتها بأرقام مغلوطة ومعطيات زائفة ترسم من الضباب بسمة الترف على وجه البؤس الاقتصادي بأرض الواقع. فعلى ما يبدو أن الأوضاع الاقتصادية الجزائرية جد متردية وأن الجزائر مشرفة على إفلاسها، خصوصا وأن هذه الأزمة بلغت تداعياتها عقر بيوت الأسر الجزائرية وفاحت أخبارها لتفجر غضب الشعب الجزائري عبر مواقع التواصل الاجتماعي، و قرار البنك المركزي الجزائري الرائج هذه الأيام بتغير قيمة الدينار الجزائري فضح ما خفي من الأمور حول فشل الإصلاحات طيلة العشر سنوات الماضية، والتي تبين أنها لم تبلغ عمق العلة. الكثير من الخبراء يعتبرون هكذا قرار هو أسهل إصلاح نقدي لمواجهة التضخم والازمات الاقتصادية، و هو نفسه الذي قسم ظهر الاقتصاد الفنزويلي وتسبب في انهيار الصرف في البنك المركزي لكاراكاس، رغم أن دول أخرى مثل الصين وروسيا وتركيا نجح الامر معها لأن تغيير قيمة العملة وحذف الاصفار كان مصاحبا لإجراءات واصلاحات جذرية وعميقة، الأمر الذي لن تفلح فيه الجزائر، نظرا لأنه بالنسبة لصانعي القرار العاملين في الخفاء في البلاد، فإن أي تغيير أو إصلاح جذري سيتسبب لا محالة في فقدانهم لمزاياهم المالية وبالتالي يعد من المحظورات. حول مبررات هذا القرار الذي تروج له بعض المنابر الاعلامية الجزائرية منذ تراجع أسعار النفط وازدادت حدة الحديث عنه خلال الاسابيع الاخيرة، يقول الدكتور إدريس الفينا، أستاذ الاقتصاد بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، أنه عادةً ما تلجأ الدول إلى سياسة إلغاء أصفار من العملة للخروج من مأزق ما، وكانت إيران هي المثال الأحدث الذي صادق على تنفيذ خطوة كهذه خلال السنة الماضية، لتنضم بذلك إلى آخرين مثل فنزويلاوتركيا والأرجنتين والبرازيل. مضيفا أن حذف الأصفار هي عملية تعني استبدال العملة القديمة بأخرى جديدة قيمتها تقل عن السابقة بمقدار عدد الأصفار المخفضة، وتوجد أسباب مختلفة قد تدفع الحكومات لاتخاذ قرار بإزالة الأصفار من قيمة العملة لكن هناك عدة دوافع أساسية أهمها: الحصول على الائتمان الدولي، واستعادة الثقة، إضافة إلى السيطرة على سوق العملات، وتقليل الضغوط التضخمية، فضلاً عن منع عملية استبدال العملة بعملات أجنبية، وتحفيز القدرة الشرائية. وحول الأسباب التي ربما تدفع الجزائر لاتخاذ مثل هذا القرار، أوضح الخبير الاقتصادي المغربي، أن الجزائر تعيش وضعا اقتصاديا صعبا أساسه عدة تراكمات لمشاكل متعددة الأبعاد، أهمها ارتكاز الاقتصاد الجزائري على الصادرات الطاقية، و استيرادها لجل احتياجاتها من الخارج مما يجعل اقتصادها هشا كونه مرتبط بالأسواق الخارجية، يتصدع لتصدعها ويتعافى لتعافيها.
وأضاف الاقتصادي المغربي أنه بالموازاة مع هذا الواقع الاقتصادي الصعب تعيش الجزائر وضعا ماليا أصعب جاء نتيجة تراجع مداخيل تصدير المواد الطاقية خلال العشر السنوات الاخيرة، والذي تسبب في تقهقر وتراجع مخزون العملة الصعبة بشكل كبير، هذا التراجع كانت له عدة انعكاسات سلبية على الاقتصاد الجزائري من بينها التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته. عن هذه الانعكاسات تحدث الدكتور إدريس الفينا أيضا عن بروز ما يسمى بالكتلة النقدية الموازية في السوق السوداء، والتي تناهز حسب الخبراء 60 مليار دولار أي بمعدل 45 في المائة من مجموع الكتلة النقذية المتداولة في الجزائر.
وقال ذات المصدر، "إن هذا الوضع خلق عدة مشاكل انضافت إلى الاختلالات النقدية التي افقدت المواطن الجزائري الثقة في المنظومة البنكية لبلاده، فيلجأ إلى تخزين أمواله خارج الأبناك أو تهريبها إلى الخارج بالنسبة للطبقات الثرية والحاكمة".
وختم ذات المصدر في تصريحه ل "العلم" أن اللجوء إلى إصدار عملة جديدة قائمة على حذف أصفار العملة الحالية لتغيير قيمتها النقدية يبقى أسرع وأسهل حل قد تعتمده الجزائر خلال القادم من الايام على أمل الخروج من ازمتها الخانقة وتجاوز تحديات منظومتها المالية الحالية، لكن نجاج هذا المقترح من فشله، أظن ان الأيام هي من سيحدد النتيجة وفقا لنجاعة السياسات الموازية والمصاحبة لهذا القرار و القادرة على التحكم في السيولة، لذلك فإن اي اصلاح نقدي أمام ارتكاز الجزائر على احتياطاتها الطاقية وبلوغ الاختلالات النقدية ذروتها أمام فقدان مصداقية المنظومة البنكية وارتفاع قيمة الكتلة النقدية في السوق السوداء، فهو عقيم دون منازع. وعلى ذكر نجاح التجربة من عدمه، فإنه و بالنظر إلى تجربة تركيا، نجد أنها قد تكون مثالاً إيجابياً على نجاح سياسة "إزالة الأصفار" عندما تكون مصحوبة بسياسات أخرى تتحكم في السيولة، ولم تكن تركيا حالة شاذة أو فريدة في هذا الوضع الذي لم يتكرر، لكنها كانت سياسة فعالة وناجحة نسبياً بشهادة صندوق النقد الدولي بسبب القدرة على مكافحة التضخم.
على خلافه من المتوقع أن تجربة الجزائر لن تختلف عن تجربة فنزويلاوزيمبابوي التي تعرضت إلى أزمة تضخم جامح دفعتها لإزالة 3 أصفار من العملة في عام 2003، لكن من البديهي فشل هذا الإجراء الذي استمرت كفاءته لفترة قصيرة في ظل عدم تحرك الحكومة للقيام بأيّ خطوة أخرى فيما يتعلق بالسيطرة على التضخم، لتعاود الكرة مرة أخرى بعد مرور نحو 6 أعوام، وتزيل 12 صفراً من قيمة العملة بأثر فوري؛ ما يعني أن 1 تريليون دولار زيمبابوي أصبح يعادل دولاراً زيمبابوياً واحداً.
وقد حذر مرارا خبراء جزائريون من التراجع المستمر للدينار الجزائري والمنعرج نحو الأسوأ، خصوصا وأن حكام الجزائر يرفضون باستمرار أي حل لأزماتها الاقتصادية يؤدي إلى إثقال كاهلها بالديون الخارجية . مرور عقود من السياسات الفاشلة وحركات الإصلاح التي لم تعمل سوى على تجنب التعامل مع الأزمات، لا تزال تلاحق الاقتصاد الجزائري، ولم تُفاجئ هذه الأخبار عن هذا القرار الذي لم يصدر البنك المركزي الجزائري الى حدود كتابة هذه السطور أي بلاغ رسمي عنه بالمقابل روج له اعلاميا لجس نبض الشارع الجزائري وموقفهم الأولي من الامر، لكن هذه الأخبار لم تفاجئ الكثير من الاقتصاديين الجزائريين الذين ظلوا يحذّرون من الوصول إلى هذه الحالة الخطرة للاقتصاد منذ 2014، وذلك عندما بدأت أسعار النفط العالمية بالانخفاض لأول مرة.
ومع تفشي فيروس كورونا هذا العام والانخفاض غير المسبوق في أسعار النفط انتقلت المشكلات الاقتصادية في البلاد إلى مستوى جديد، وقبل سنة دقّ رئيس الوزراء الجزائري عبد العزيز جراد ناقوس الخطر لأول مرة من خلال تسليط الضوء على "الأزمة متعددة الأبعاد" غير المسبوقة التي تواجهها البلاد التي يمثل النفط أكثر من 90% من عائداتها.
ونتيجة لذلك ودعت الجزائر عام 2020 وهي تعاني انكماشا اقتصاديا بنسبة 5.5% حسب صندوق النقد الدولي الذي توقع أيضا أن يبلغ العجز المالي الجزائري 14.8% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2021. كما تشير بعض الارقام ان الجزائر استنزفت احتياطاتها من العملات الأجنبية في الأعوام القليلة الماضية، حيث كافحت لتمويل العجز المتضخم، وبعد أن كانت احتياطيات العملات الأجنبية عام 2014 في حدود 200 مليار دولار، فإنه تراجع الى ما يراوح 44 مليار دولار بحلول 2020. وخوفا على نفاد احتياطاتها من العملة الصعبة والتي تراجعت بأرقام قياسية، ستضطر الجزائر إلى خفض قيمة العملة بحذف عدة اصفار، مما قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم وسط التقشف المتصاعد، في الوقت الذي تحاول فيه موازنة الحسابات العامة. وعلى الرغم من توقع أن تنضب احتياطات النفط والغاز في الجزائر بحلول 2050، فقد فشلت البلاد مرارا وتكرارا في تنويع مصادر العائدات بعيدا عن النفط. في ذات السياق نقل عن الكاتبة داليا غانم، الباحثة المقيمة في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أن "صانعي السياسة يتجاهلون ببساطة الإشارات ويعتقدون أن تحسين وضع السوق سينقذهم، مما يعني ارتفاع أسعار النفط، ولقد تم تحذيرهم منذ أعوام للتحرك ومناقشة مسألة التنويع بجدية، لكنهم بدلا من ذلك، لم يفعلوا أي شيء واستمروا في المماطلة". في المقابل يقول ريكاردو فابياني، محلل الاقتصاد السياسي في مجموعة الأزمات الدولية، إن اعتماد الجزائر المفرط على احتياطاتها من النفط والغاز كان السبب الجذري لمشكلاتها الاقتصادية.
ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في انهيار الاقتصاد الحر، القيود المفروضة على القطاع الخاص، وسوء الإدارة الذي لم يتم التعامل معه، والمشكلات الهيكلية، وسيطرة الجيش على الأعمال. وأدى انخفاض الإيرادات إلى إجبار الدولة على وقف المشروعات الوطنية، وخفض الإنفاق على الخدمات العامة بنسبة 50%، مما يهدد بغضب الشارع الجزائري الذي طالب باستمرار بوضع حد للفساد المستشري الذي استفاد منه قادة البلاد وترك الشعب في أزمة خانقة. و وفقا للكاتبة داليا غانم، فإن المهمة التي تنتظر البلاد، المتمثلة في معالجة الوضع الاقتصادي وتجنب مزيد من الانهيار للدينار، ستكون صعبة، خصوصا وأن الاستثمار الخارجي في الجزائر في تراجع مستمر مقارنة مع دول الجوار.