إلى جانب ما عرفته فيك من مزايا إنسانية رفيعة وميزات دبلوماسية، اكتشفت فيك جانب الشعر، وقلما يهب اللّه لأحد هاتين المنقبتين معاً..! لقد رجعتم بي إلى أيام خلت عندما زرتكم في بيتكم بمدريد وأنتم تقومون أحسن قيام بعملكم الدبلوماسي معزّزين بالسيدة الفضلى حرمكم التي كانت تنير دربكم بثقافتها وحصافة رأيها وطيب أخلاقها... لم أكن أعرف أنني بجانب شاعر أصيل أسكته مؤقتا عالَم الدبلوماسية الذي يتطلب في صاحبه أن يعرف كيف يتثاءب من غير أن يفتحَ فمه! على حد تعبير السفير الفرنسي في واشنطون كيرفي هافاند (KERVE HAFAND) قبل قرنِ من الزمن.. لقد أبى هذا الشاعر التهامي إلا أن يعود إلى أصوله الأدبية التي أينعت وترعرعت في تطاون التي اكتسبت وصف «الحمامة» من جد شاعرنا الذي كان مثلاً يحتذى في أدبيات الشمال.. عاد، كما كان أسلافه، يتغنّى بسحر ذلك الطائر الذي يجعله الفنان مارسيل خليفة لازمة أناشيده التي رددها الجمهور معه في الموسم الثقافي الثلاثين لأصيلة: يطير الحمام يحطّ الحمام!! عاد التهامي أفيلال والعود أحمد ليبلغ رسالته إلى الأجيال التي تعيش العولمة ويقول لها: أنْ ليس هناك غير جمال الأمس وغير أصالة الأمس! لقد غرسوا حتى أكلنا، وإننا لنغرس حتى يأكل الناس بعْدنا!! ديوان التهامي أفيلال: الذي يحمل عنوان «هَدِيل»، ولو أنه ديوان مقتضب لكنه ديوان ينبض بالحياة، وبالحب، وبالوطنية، وقد أحسنت (جمعية تطاون أسمير) بنشره بيننا نحن الذين نحرم في كثير من الأحيان من أطايب تطوان، وما أدراك ما تطوان!!. كانت فاتحة الكتاب الميمية التي تيمن الشاعر بإيرادها، وتتضمن البيت الذي نعت تطوان بالوصف الجميل: تطوانُ ما كنتِ إلاَّ بين البلاد حَمَامة!! ثم يأتي التقديم الشامل الذي أتحفنا به الزميل العزيز الشاعر النحرير علي الصقلي الذي ناب عنا في الإشادة بالحمامة وأبناءِ الحمامة!! على أن ننعم بما سماه شيخنا الدكتور حسن الوراكلي «تحجيل الديوان»، وعندما ينطق أبو أيمن بكلمة التحجيل فإنه يعني ما يقول..! وبعد هذا يقلع شاعرنا التهامي من (بيت المغرب في غرناطة) حيث كانت تقيم البعثة المغربية الأولى للطلبة خلال الخمسينيات... وهنا سيرجع الشاعر بذكرياته عن الأندلس أيام زمان! في بلادٍ كان للإسلام في ظلها جاهٌ وشانٌ ونظر!! ومن غرناطة إلى «التاج»: الكلمة التي لم يكن يقصد بها الشاعر غير تطاون التي ملكت عليه الطريق... تطوان التي سماها - بعد عقود - في قصيدة لاحقة بالقمر، وهل يخفى الحمام والتاج والقمر؟! وللرجل وفاءٌ قليل النظير لأصدقائه الذين هم أصدقاؤنا كذلك، وقد كنت أقدر ما قاله وفي رفيقي العزيز الأستاذ السفير محمد ابن المفتي في الميمية التي خصه بها صيف 1999... ثم كانت النونية، إلى آخر القصائد الشيقة التي يزدان بها (هَدِيل) ولاسيما قصيدته في حفيدته، حفظها الله، سُكينة، ونحن نعلم أن الحَفدة والأسباط يكونون باقة زهور وعنصر سعادة وبهجة في البيت على نحو ما كان يردده أستاذنا أمْجد الزهاوي في بغداد. ابنُ ابنِنَا من ابنِنا أحبُّ الإبنُ قشرٌ والحفيد لُب!! كان الأستاذ التهامي وفيا لنظرته عندما عاد ليشيد بجمال تطاون في هَدِيله. لقد شبهتُه وهو يتغنى ببلدته تطاون بأبي البقاء الرندي، وهو يجثو أمام رندة التي سماها بطائفةٍ من الأسماء استوعبتها زميلتها حياة قارة في تأليفها الجديد: وبالخَضْراء في روحي وجسمي برُندة بين حل وترحال! لا أدري هل من حقنا أن نطالب الفترة الدبلوماسية التي مر بها أفيلال بالاعتذار عما اقترفته في حق الشعر عندما كممت صوته وهو يعيش تحت هيمنة الأعراف الدبلوماسية التي تنتزع من المبدعين حقهم في نشر إبداعاتهم، ومن الباحثين حقهم في مناقشة أطاريحهم بحجة أن نشاط الدبلوماسي مقصور على اهتمامات الوزارة، وأن لها الحق في مصادرة كل تحركاته خارج تلك الاهتمامات... لقد قدم لنا الشاعر التهامي أفيلال نماذج من ألبومه الشًِّعري الرفيع، ومن ثمة كان من حقنا أن نتطلع إلى المزيد من إنتاجه، إلى الاستكثار منه تبصيرا للأجيال وبعثا للحركة الأدبية في بلادنا.