الذين علموا قدر الدنيا الزائلة وأيقنوا بقدر الآخرة العظيم، هم الزهاد المسارعون في الخيرات، وقلوبهم معلقة بربهم، يغدون السير واعين بأن العمر رحلة مهما طالت قصيرة، وأن السفر مهما امتد فإلى نهاية وشيكة. هؤلاء قارنوا بعقول صافية، وقلوب خاشعة، بين لذة تزول وتفنى، وملك باق خالد في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فآثروا ما يبقى على مايفنى، وسارعوا إلى الطاعات والتزموا التقوى إلى أن لقوا خالقهم. هؤلاء هم صفوة الأمة الإسلامية على مر العصور، لأنهم عملوا بما علموا، فأورثهم الله علم ما لم يكونوا يعلمون. وقذف في قلوبهم نورا قرب إليهم الآخرة، وأبعد عنهم دار الغرور. مع هؤلاء ينبغي أن نكون، قلبا وقالبا، ومع هؤلاء ينبغي أن تتفتح قلوبنا في رياض الذكر، وتلاوة الآي الحكيمة، حيث الملائكة تحف الجمع، وتنزل على أصحابه السكينة، ويذكرهم الله في من عنده. هؤلاء هم الذين أرشدتنا هذه الآية الجليلة لأن نصبر أنفسنا معهم لأنهم لايشقى جليسهم، أرشدتنا إلى ذلك من خلال الأمر الإلهي لقد وتنا وحبيبنا سيد الذاكرين، وإمام المرتلين، وقدوة الدّاعِين وصفوة عباد الرحمان المخلصين، سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. قال الله عز وجل: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه، وكان أمره فرطا) (سورة الكهف: 28) أمر إلهي كريم للنبي صلى الله عليه وسلم بصبر النفس مع المتبتلين إلى الله، الذين يدعونه صباح مساء، لا يبتغون بذلك إلا وجهه يرجون أن يفوزوا برؤيته يوم المزيد، وينعموا برضاه يوم الخلود. ونهي إلهي كريم للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا عن أن تعدو عيناه عن هؤلاء الداعين ربهم بالغداة والعشي، بأن يريد زينة الحياة الدنيا بدلا عن تبتلهم وقنوتهم لربهم بالدعاء.. وبالذكر... وبالصلاة.. وبتلاوة القرآن المجيد.. لأن الالتفات عنهم، والانصراف عن إقبالهم على ربهم وهذا ما لايتصور من سيد العابدين صلى الله عليه وسلم وإنما هو تعليم لنا نحن الغافلين يعني اتباع من نسي الله فأنساه نفسه، وأغفل قلبه عن ذكره، وتركه وهواه، فانفرط أمره، وما وجد لجمع شمله سبيلا، ولا للم ِّشعثه طريقا. وهذا ما نهى الله تعالى نبيه عنه، تعليما لنا وإرشادا، ورحمة بنا وإنقاذا. معنى كل هذا أن الدعاء والاجتماع على الذكر والعبادة أمران جليلان، ومقامان رفيعان، يقتضي الالتزام بهما حمل النفس على ذلك، ونوعا من الاصطبار أو المصابرة بصيغة المفاعلة التي تقتضي أن يعين البعض البعض الآخر على الصبر على هذا الأمر الجليل العظيم الفضل وذلك ما أشارت إليه الآية 4 من سورة العصر : (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). من هنا أخذ المغاربة على عاتقهم أن يلتزموا بقراءة حزبين راتبين، جماعة وجهرا وترتيلا في المساجد والزوايا، أحدهما بعد صلاة الصبح، والآخر بعد صلاة المغرب. والتزم الصوفية الأبرار بوظيفتي الأذكار الجماعية بالعشي والإبكار، كما التزموا بأوراد فردية يذكرون الله بها ويصلون على نبيه الكريم صباح مساء. هذا أصل قرآني صريح، نجد أول تطبيق له في عهد النبوة، وعلى عهد الصحابة الكرام والتابعين. الصفة الأولى المميزة لهؤلاء الداعين الذاكرين التالين آيات الله بالغدو والآصال هي الإخلاص وابتغاء رضوان الله. الصفة الثانية هي الزهد في متاع الدنيا القليل، وإيثار الدار الباقية على الدار الفانية. الصفة الثالثة التي نفهمها بمفهوم المخالفة من النهي الأول في الآية السابقة هي حياة القلب (وضدها «من أغلفنا قلبه عن ذكرنا») الصفة الرابعة التي نستخلصها انطلاقا من مفهوم المخالفة أيضا من النهي الثاني في الآية هي: اتباع الهوى. والنتيجة أو الثمرة العظيمة التي يجنيها الذاكرون الداعون ربهم بالغداة والعشي: اجتماع قلوبهم على ذكر الله، واجتماع شملهم، ووحدة أهدافهم، والانسجام الروحي على المستويين الفردي والجماعي. أما الثمرة المرة التي يجنيها من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه فهي انفراط أمره، وتشتت أغراضه، وتمزق كيانه، واضطراب شؤونه، الداخلية والخارجية. هذه بعض قيم الدعاء والذكر والصبر عليه مع الصادقين. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا مع الصادقين) [التوبة: الآية 120]. وهذا هو مفهوم الإرادة الروحية، التي شرح علماء التربية مقاماتها ومدارجها الإسلامية والإيمانية والإحسانية. فالآية، من هذه الناحية كذلك، أصل قرآني صريح للسلوك الروحي التربوي الذي بين ابن القيم الجوزية مثلا مراحله في كتابه النفيس «مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين». رحمه الله وأجزل له المثوبة.