... من منا لم يكن له في يوم من الأيام، ذاك الهدف الجميل، وبأن يدخل البهجة لعيون أسرته، وأن يرى قلبها يرقص من شدة السرور. هكذا رسمت في أذهاننا ومخيلتنا نهاية السنة الدراسية، وبعد التعب يحلو النجاح، وبعد العياء تأتي لذة الراحة. قيمة النجاح هاته، اكتسبناها داخل جدران الأسرة، فكبر الحلم في أعماقنا، وتدفق في عروقنا وصرنا نأمله بكل نبضاتنا. لكن هنا بالضبط، قد يتسرب الخلل شيئاً فشيئاً، إلى أن يصير فيروساً يتجول في دمنا، إنها جرثومة الغش التي تلازم الكثير، منذ الإبتدائي مروراً بجميع المراحل الدراسية، فالتعليم العالي، ولم لا الغش حتى في منصب الشغل، وبالتالي حتى هذا الغش يصير «قيمة» تتناقلها الأجيال، فالابن الذي يغش اليوم، في سنته الأولى من تعليمه، قد يغش وهو طالب في الجامعة، أو في مؤسسة أخرى، ومن يضمن أنه لن يعلم نفس المبادئ والسلوك وهو أب لابنه. هنا بالضبط نلقي العتاب حتى على تلك الأسرة، التي في نظرها أنها تبني، تعلم، تربي. وإذا بها تخرب؛ عندما تطلب من ابنها أن المهم أن ينجح وبأي وسيلة كانت، حتى لو اضطر الابن إلى الغش، إنها صور اعتدنا معاينتها، حتى صارت معتادة عند المواطن المغربي وللأسف النتائج وخيمة. عندما يكبر هاجس النجاح في نفسية المتمدرس، وقد يكون المحيط العائلي أو غيره، لايوفر له شروط الدراسة، وكل ما يوفر هو العتاب المستمر، ويرى المتمدرس من نفسه فاشلا، ولايثق في قدراته الذهنية، لايبقى من حل في نظره سوى الغش، وقد يخلق لنفسه عدة ذرائع ليعطي تلك الصبغة التي تريحه من أدنى شعور بالأنا الأخلاقي، فتكون النتيجة خلق مجموعة من «الحكم» الزائفة، مثلا «من نقل انتقل ومن اعتمد على نفسه بقي في قسمه، أو أن يقول لنفسه، «ما فيها باس كُلّشي طالع هكّا»، ذرائع يخدع بها نفسه، عساه يشعر بفرحة النجاح، التي لن يشعر بها كما يشعر بها من يعتمد على نفسه حقا، وبكل مصداقية. ******************* ولايخفى علينا ما صارت تلعبه وسائل التكنولوجيا في تسهيل عملية الغش؛ فالهاتف المتنقل مثلا، صار كافياً في أقسام البكالوريا للإجابات عن جميع الإمتحانات ودون أن يكون للمتحن دور سوى الكتابة، لاتفكير، ولا ذهن يقوم بعملياته المستلزمة، بل قد لايدري حتى أي درس يمتحن فيه، وقد يحصل على نقط متفوقة، مبنية على أسس مخربة. أفليس إذن لنا الحق اليوم أن لانتحدث فقط عن «البناء العشوائي» السكني، بل وكذلك «النجاح العشوائي». اللأسف، عندما تجد المدرس، والمراقب يساعد على هذا الغش، فالطامة، هي أن أن يدع التلميذ يغش، بل عوض أن يراقب القسم المكلف به، يصير يراقب المفتش أو أحد المسؤولين أن يزور القسم في حين غفلة والأستاذ يسهل على التلاميذ سيناريو الغش. نماذج متنوعة، وأساليب كثيرة مبتكرة، تبرز الذكاء الذي يستخدم بطريقة عكسية. فمنذ الإبتدائي يبدأ التلميذ يتعلم الغش، غالباً من أحد أصدقاء القسم، وعندما يعود لحضن الأسرة، بكل طفولته البريئة يخبر الأم أو الأب، وللأسف بعض هؤلاء الآباء عوض أن يوجه، أن يربي، تنعكس الصورة، ويصير يبتسم أمام الطفل، ويتساءل هل أصدقاؤك كذلك يقومون بنفس العملية؟ فيجيب الطفل أجل، فإذا بالأم أو الأب يشجعان كذلك الطفل على القيام بنفس العملية، فيدمجها الطفل في شخصيته، التي مازالت في طور النمو، وكأن عملية الغش هاته حق من حقوقه يجب أن يمارسها، يكبر الطفل، فتزداد قدراته على الغش وتتطور، لأن هذا الغش يصير بدوره «حرفة» تكتسب ويستلزم هدوء نفسياً وتركيزاً، نفس الشروط التي تستلزمه للإمتحان. ويالها من طامة كبرى، هي الصاعقة الحقيقية بكل عنفها - البكالوريا - هذه السنة التي صار معلوما أنها سنة «التصفية»، قد تبنى الأحلام وقد تضيع؛ فالبكالوريا هي المفتاح الأساسي لكي يستطيع الشباب بناء أهدافه المستقبلية وخططه الاستيراتيجية وبالتالي الوعي الكامل بأن التلميذ لن ينجح اعتماداً على قدراته، لايبقى له من حل سوى اعتماد طرق أخرى، فالمهم أن ينجح، بل وللأسف الأساتذة الذين يظن بهم خيراً، وبأنهم أهل التربية والتعليم، منهم من يساعد على الغش، فالمتخصص في الفيزياء مثلا، يعقد صفقة مع التلميذ، ويحددان المبلغ أمام أن ينجز الأستاذ للتمليذ امتحان الفيزياء، في نفس الساعة التي ينتظر فيها التلميذ أي صدقة عليه، من خارج القسم عن طريق الهاتف النقال. أما ما يسمى ب «الحجابات» أو «التصغير».. صارت وسائل تقليدية، غير أنها لم يستغن عنها لحد اليوم، لأن الاحتياط ضروري؛ فالتلميذ يضع أمامه جميع الاحتمالات الواردة، وعندما تضيع السبل التكنولوجية، يصير الحل هو أن يدخل يديه في أحد جيوبه المرتبة، ويستخرج مواده المنجزه، ويقوم بعملية النسخ في ورقة الإمتحان. تعددت الصور، ولعل الضغط النفسي الذي يلازم هذه الإجراءات لتسهيل عملية الغش، أصعب بكثير من أن يعتمد المتمدرس على قدراته الشخصية. وكما قلنا سابقاً، حتى الأسرة تساهم في ذلك بشكل أو بآخر. فالمهم عندها أن ينجح أبناؤها، بل إن من الأسر من يشجع ذلك، ويوفر شروط الغش. فتصير بذلك المدرسة والأسرة تشتركان معاً في تخريب قيمة النجاح، وهي تدعي بكل بساطة أن معظم التلاميذ اليوم لايمكنهم النجاح إلا بالغش والمسألة صارت لاتستدعي تحريك الضمير ولا تأنيبه، مادامت الأنا الجماعية تخمد ذلك الصوت الداخلي، وتخلد في سبات، فالعالم عندهم صار مبنياً على الغش، فهل الاستثناء فقط يقف عند ابنهم الذي سيضيع مستقبله أو قد تقل فرصه في اتمام دراسته العليا. فإذن ألم يعد لنا ا لحق أن نُدلي بأن المجتمع المغربي، يعرف تغييراً في القيم وكذلك إعادة بنائها؟ أم أن هذه الظواهر كانت منذ القدم، والشيء الذي تغير فيها، هي الوسائل التي صارت اليوم أكثر تقدما، لكن مالا يمكن أن ينكره أحدمنا، هو أن هاجس النجاح عند الأسر والوعي بالدراسة. صار أكبر مقارنة مع ماكان سابقا. ولعل الصورة المنتظرة داخل صفوف الكليات، أن الطالب صار في سن تجعله واعياً بسلوكاته، مسؤولا عن تصرفاته، متيقّن بماله وما عليه. إلا أن واقع الأمر وللأسف، بعض الطلبة يعتمدون على الغش، ويعتقدون أنه حق من حقوقهم، فقد لايعرف الطالب كيف ينظم أوقات الامتحانات. فتكثر عليه ويزدحم الوقت لديه، فيبدأ رحلته التي تخرجه من الشعور بالمسؤولية. ويبدأ في إلقاء اللوم على البرامج التعليمية والتعسفات التي ترافقها في مسيره الدراسي، وإن كان بعضها موجود وللأسف، لكن لاشيء يعطي الحق في الغش. ورغم أن الأساتذة الجامعيون دائماً تسمعهم لايوافقون على الغش، لكن بعض منهم، رغم أن ورقة الإمتحان يجدونها نسخة معادة لما ألقونه في محاضراتهم، دون أي اجتهاد ولو بسيط، يعطي الأستاذ لهذا الطالب المعدل، ودون أن يسائله عن ذلك. 70% من التلاميذ يكرهون المدرسة وقد تبين من خلال التصريح الذي أبدته أستاذة علم النفس الاجتماعي، بجامعة محمد الخامس بالرباط - نادية التازي - والتي تعتبر كذلك، خبيرة نفسية اجتماعية في مجموعة من الجهات، أن ظاهرة الغش هاته غدت كارثة بكل المقاييس وتحز في النفس. وصارت بالفعل مرضا وهوسا منذ الإبتدائي إلى التعليم العالي، لايساهم فيه المتمدرس فحسب، بل مؤسسات عديدة تنطلق من الأسرة. فكيف ذلك؟ كل منا له ذكاء في مجال معين، مايجعلنا نتحدث عن ذكاءات عدة، فمنا من له ذكاء لغوي، ومنا من له ذكاء حسي حركي أو ربما اجتماعي... وهنا يأتي دور الأسرة في أن تنمي ذلك أو تعمل على احباطه. الشيء الذي يجعل للأسرة دور مهم في جعل الطفل إما أن يشعر بالتنقيص وإما بالتقدير. لكن لاتعتبر الأسرة المؤسسة الوحيدة، التي تساهم في ذلك، بل هناك أطراف مشاركة أخرى، وهنا يأتي دور المدرسة التي هي الأخرى تكمل نفس العملية، فإما أن يشعر الطفل بالأنا بشكل إيجابي وإما بشكل سلبي، فتزداد إلى تلك الخبرات الأسرية، خبرات أخرى داخل المدرسة. وكلها عوامل تؤثر على التحصيل الدراسي، فالتنمية هنا لاتحصل فقط على المستوى المعرفي، بل وكذلك الوجداني، والذي يلعب دورا مهما أولا في تقبل الذات ثم ثانيا التكيف معها، كيفما كانت وعلى جميع مستوياتها. ويلعب التواصل دوراً مهما داخل الأسرة، وبالتأكيد بقيادة الأم والأب والحضور الاجتماعي والوجداني لهما معاً، وليس الفيزيولوجي فقط، وأي غياب لهذا التواصل ينعكس داخل المدرسة، فعن طريق التواصل مع الأطفال يمكن معرفة المشاكل التي تواجههم، والتي من ضمنها الغش. كل ذلك يجعل استاذة علم النفس الاجتماعي - نادية التازي - ترى أن الشخص المغش، هو بالضرورة لايثق في نفسه، ولايمكن اغفال طبيعة المنهج الدراسي الذي بدوره يساهم في عملية الغش، وتجعل المتمدرس يرى الغش ضرورة لااختيارا بأن «يحرّر» أو تغش من أحد أصدقاء القسم، هذا بالإضافة إلى طبيعة سؤال المدرسة، التي قد تجعل المتمدرس يلتجأ بناظره مباشرة إلى صفحة معينة دون غيرها. وقد بينت الأستاذة لجريدة «العلم»، أن بعض المراهقين في المرحلة الدراسية - الإعدادي - اعترفوا بالفعل أنهم يعتمدون على الغش، وبالفعل استطاعوا تحصيل نقط مرتفعة، لكن عند مرحلة الثانوي، انتابهم الشعور بالندم، واعتبروا الأمر مسألة تافهة، بالإضافة إلى «أخلاقيات الأسرة»، التي تمنع ذلك بل وتجرمه. لكن هناك أسر تشجع الغش لولوج المدارس العليا. وأكبر دليل على ذلك مستوى البكالوريا، وهنا أكدت الأستاذة - نادية التازي - على النسق البيداغوجي، بما فيه من طول المقرر، ومبدأ «عند الامتحان يعز المرء أو يهان».. بل صار الامتحان نفسه وكأنه عقاب، ففي حين غفلة ودون اعلان عن موعد الامتحان، يظهر المدرس ليعلن عن ذلك عقابا للمتمدرسين. لذلك يجب إعادة النظر في جميع مستويات التعليم، وانطلاقاً من الإبتدائي. وإ أخذنا مثال «الإصلاح الجامعي»، فإننا سنجد أنه لم يعط نتائج إلا على مستوى الشكل فقط، لأن العيب بالأساس، هو في القاعات، في عدد الطلبة. فكيف يمكن للأستاذ أن يقوم بالمراقبة المستمرة، لعدد كبير من الطلبة. وحتى المفهوم التربوي للاستدراك فهو غائب، فكيف يعقل أن يستدرك الطالب في مجزوءة معنية، ولم يعلن عن يوم الإستدراك إلا بيوم واحد.. هذا بالإضافة إلى طريقة التدريس، التي يجب أن تبنى على التواصل مع الطالب، وليس فقط تفضيل النقطة على المعلومة، ويا للأسف أن حتى «مشروع البحث» لنيل الإجازة، أصبح هو الآخر يعتمد على الغش وغياب الإشراف الفعلي. لذلك، فلابد من إعادة النظر في النسق التربوي ومنذ الإبتدائي وإعادة النظر في طبيعة المتعلم والمعلم، وتدعيم الدورات التكوينية المستمرة، لكي يستطيع المدرس مواكبة تغيرات المجتمع، فهناك تلاميذ يرون أن ما يحصلون عليه عن طريق الأنترنيت لهو أشمل من دروس الأستاذ، فيبدأ يستهزئ منه، ويرى أن مايعطيه الأستاذ داخل القسم هو تافه، ماعدا بعض المواد كاللغة الفرنسية والرياضيات. كذلك عندما ندخل الوسائل التكنولوجية للمؤسسة التعليمية، فليس لنعتبرها «صالونا للزوار» وإما لتكييف واقع التلميذ مع التغيرات، وعدم الإعتماد على الإقحام فقط، ولابد كذلك من تصحيح المفهوم الخاطئ للدعم، والتي أصبحت قناعة في غياب المساءلة (ماذا جعل هذا التلميذ من هذا الدعم)، فليس الهدف هو ضمان النقط فقط، وإلا فذلك يعتبر ظلما في حق هذا التلميذ، فالدعم الحقيقي هو الدعم الذاتي بعد الرجوع إلى مقر السكن. لذلك لابد من إعطاء الأهمية لكل المستويات التعليمية، وخصوصاً الإبتدائي وتوفير البيداغوجيا التي لاتلائم فقط الجانب الفيزيولوجي، وإنما الوجداني كذلك وتوفر التواصل؛ فقد أشارت الأستاذة - نادية التازي - أن في مقابلات لها مع التلاميذ، اتضح أن حوالي 70% يكرهون المدرسة، باعتبارها مملة ولاتراعي ماهو وجداني، وعلى هذا المستوى ينتج الإحباط، وتنقلب تلك الصورة الإيجابية التي ترسخت في الذهن داخل الأسرة قبل ولوج المدرسة. لذلك تؤكد الأستاذة، أنه حان الوقت لتشجيع ميولات وإبداعات التلاميذ بحكم أن هناك ذكاءات متنوعة، واكتساب المعارف في سير ملائم للنمو النفسي والاجتماعي وكذلك حان الوقت لتغيير تلك النظرة للنقط والامتحانات وعدم اعتبارها المعيار الأساسي، ولكن العمل اليومي هو الذي يأخذ الطابع الأساسي.