*مع هنري لاووست في كتابه: "نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع (6) بقلم // ذ. محمد السوسي مع توالي الأيام تزداد الأحوال في ديار الإسلام سوء وتعقيدا ويزداد ابتعاد الناس عن الأمن والاستقرار والبناء وتوفير ظروف العيش الكريم لسواد الأمة التي تعاني من ضنك العيش مع اشتداد الحروب والقلاقل واندفاع تجار الحروب وسماسرتها لاكتساب مزيد من الأموال وركم الثروات على حساب أقوات الشعوب ودمائتها التي تسيل وتسفك في كل مكان حيث لا يحترم مسجد أو مكان للعبادة رغم ما ورد في النصوص التي يدعي البعض أنه يقوم بما يقوم به دفاعا عنها وسعيا لتطبيقها وبناء أنظمة وعقد سياسات على أساسها. ومن هنا يتضح التناقض ويتضح مع هذا التضارب والتناقض بين الأقوال والأفعال الخيط الناظم لهذا الواقع المظلم الذي تعيشه الأمة وتكتوي بناره وليس هذا الخيط الناظم إلا ما تقوم به الدول التي لها المصلحة في تشرذم المجتمعات الإسلامية واحتدام الاقتتال بين الناس فيها، واستنزاف الثروات بجانب إزهاق الأرواح، وفرض هيمنة الأجانب والدول الاستعمارية القديمة والجديدة لسياساتها ومخططاتها القديمة منها والجديدة وكل السياسة الاستعمارية قديمة وجديدة إذ المبدأ القديم "فرق تسد" هو الأساس الذي تبنى عليه هذه السياسة ليأتي بعد ذلك كل المخططات الأخرى. والأغرب في كل ما يجري هو أن المسؤولين والمتصارعين كل من جانبه يعزو ما يجري إلى الأيدي الأجنبية ولا يدري من هو الأداة في التنفيذ إذ لم يكن أولئك الذين يكبرون وهم يقصفون المساجد والصوامع، وأولئك المسؤولين الذين يستعينون بالأجنبي وينفذون مخططاته وهم يدعون أنهم يسعون لإفشال المخططات الاستعمارية وسياسة التدخل والمجاوز في البلاد الإسلامية. إن ما يجري يبعث على الحيرة فمن يخدم الأجنبي ومخططاته؟ ومن هو ضد هذه المخططات؟ والواقع يفضح كل يوم تحالف هذا التنظيم أو هذا المسؤول وتآمره أو تآمرهما مع هذا الذي يلعنونه صباح مساء. إنه واقع الأمة ومع انخراط الناس في هذا المحور أو ذاك فإن الأمة فقدت البوصلة وما البوصلة إلا أهل الرأي من العلماء والقادة والمفكرين الذين يدركون بالفعل مآل ما يجري ويسعون للإصلاح وتدارك الأمر قبل أن يذهب كل شيء، فالعلماء مع الأسف الشديد بعضهم أداة في يد الأنظمة تفعل به ما يخدم سياستها، وبعضهم اختار أن يكون في ركاب الداعين إلى ضرب أرض والمسلمين، والبعض الأخر اختار أن يكون مع من اسماهم مجاهدين ظلما وزورا وما حال المثقفين الآخرين وأهل السياسة والرأي بأحسن حال من هؤلاء. لقد عمت البلوى بالاختلاف والتطاحن وانحاز كل إلى محور من المحاور التي تتصارع. وبالأمس ظهر من جديد هذا الواقع الذي تعيشه الأمة في القمة العربية الإفريقية وعندما نتحدث عن هذه القمة فهي في أغلبها تضم دولا تجمعها منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية والاتحاد الإفريقي ووجود دول افريقية لا توجد ضمن المجموعة الإسلامية أو العربية يكاد يكون منعدما إذ مراعاة الجانب الديني الإسلامي حتى في الدول ذات الأغلبية المسيحية في إفريقيا لا بلغي وجود الإسلام والمسلمين ومع ذلك فما كاد هذا المؤتمر يلتئم حتى انفجر لأن دولة عربية إسلامية تنصرف الأموال وتسعى جاهدة لشق الصف العربي والإفريقي بإقحام كيان وهمي ومصطنع من لدنها لمضايقة دولة عربية إسلامية قدمت لها ولشعبها كل خير وعون، وهذا في الواقع يصب في سياق ما اشرنا إليه أعلاه فالصراع الذي تشغله الدول العربية بعضها ضد بعض والتآمر الذي تقوم به بعضها ضد بعض لن يؤدي في الأخير إلا إلى خراب الديار وضياع ما حققته الشعوب العربية والإسلامية بتضحيات جسام طيلة عشرات السنين الماضية. وليس سرا أن هذه الأساليب التي تنهجها حكومات ومجموعات كانت وراء ما عرفه الناس في القديم من ضياع الأرض وضياع الاستقلال والوقوع في براثين التخلف والاستعمار، هل التاريخ يعيد نفسه؟ إن الأنفة الإسلامية لا تطاوع في الإجابة التلقائية، والأمل في إخلاص الشعوب لعقيدتها ووحدتها واستقلالها كل ذلاك يفتح باب الرجاء لأنه (لن يغلب عسر يسربين أبدا (واشتدي أزمة تنفرج)، فمع العتمة القاتمة تظهر خيوط الفجر الصادق ومع أوضاع تشبه بما نحن فيه وموقف ابن تيمية من ذلك من خلال حديث الجمعة لهذا اليوم. صعوبة التتبع كلما قرأت وأعدت قراءة ما كتبه المستشرق (لاووس) عن ابن تيمية وعن المرحلة الزمانية وظروفها السياسية والعلمية زادت نفسي شوقا للمزيد من القراءة والتتبع، وإذا كان ما كتب عن ابن تيمية شيئا كثيرا من لدن الباحثين والدارسين قديما وحديثا فإن تتبع ذلك من أجل التأكد أو التوضيح والتبين حول ما جاء في دراسة "لاووس" صعب والعودة إلى بعض من ذلك فقط يتعب الإنسان ويضنيه ولكن مع ما في هذه السيرة وفي أفكار الرجل وما قاله عنه موافقوه أو مخالفوه من زاد علمي وفير فإن المتعة التي يخرج بها الإنسان من هذا التتبع لشيء يهون أمامه كل تعب أو مشاق يعانيهما الإنسان. متعة وفائدة إن قراءة ابن تيمية والإحالة التي يوردها الكاتب «لاووس» سواء تعلق الأمر بإمام احمد بن حنبل كقدوة كبرى لابن تيمية أو غيره من السلف، أو تعلق الأمر بأولئك الذين يختلف معهم ابن تيمية عامة، وهكذا دواليك، شيء كثير ومتشعب ولذلك فإن أمر استحضار مواقف هؤلاء أو هؤلاء أو محاولة الوصول إليها أمر مع ما فيه من متعة وفائدة فإنه يحتاج إلى وقت وجهد هو أقرب إلى بحث أكاديمي متعمق منه إلى محاولة لتقديم خلاصة وجهة نظر باحث ودارس حول نظريات شخصية فذة ومتميزة ولها من الخصوصية العلمية والجهادية والقدرة على التأثير قديما وحديثا ما لا يخفى ومع ذلك فإنه مع ما في ذلك من مشاق وربما من انتقال من عرض كتاب إلى دراسة للكتاب مع ما يستدعي ذلك من الرجوع إلى المظان والاستعانة بها. البيئة والنشأة لقد تحدث الباحث عن البيئة السياسية والاجتماعية التي نشأ فيها ابن تيمية وأبدع فيها ما أبدع من أفكار ونظريات، وجاهد وناضل بالقلم والسيف ذودا عن العقيدة، ونصرة الأوطان واستمساكا بالحق في وجه ما يراه خروجا عن هذا الحق، والتزاما بما يأمر به الشرع الحنيف انطلاقا من الكتاب والسنة ومن أقوال السلف في فهم تلك النصوص، تبعا لما روى عنهم ونقله الثقاة من بين ما نقلوا من صحيح الآثار. وإذا كان أمر هذه البيئة الاجتماعية والسياسية والعلمية مما لا يغيب تأثيره عن القارئ والدارس فإن هذه البيئة تشبه إلى حد بعيد البيئة التي تعيشها الأمة الإسلامية حاليا في كثير من الوجوه. التلبيس والكراهية إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش صراعا قويا ضد خصومها من مختلف الأصناف والأنواع ولكن أهمها الاستعمار الغربي الذي أعاد الكرة في حروب "صليبية" جديدة، وان كان استطاع هذه المرة أن يلبس الأمر على الأمة حتى لا تسمي ما يجري باسمه الحقيقي، إذ كل حديث عن هذه الحرب الاستعمارية وإلباسها لباسها الحقيقي يرى فيه هذا الاستعمار أمرا مستهجنا لأنه يدعو إلى الكراهية ويستعدي ناسا وأقواما على آخرين وبجانب هذا الهجوم الأجنبي نجد بين أبناء الأمة من يسير في ركاب هذا الأجنبي ويقدم له العون أو هو يخدم أهدافه من حيث يشعر أو لا يشعر ويلتبس الأمر في هذا الشأن حيث يتم الركوب على بعض الفسيفساء التي توجد في المجتمعات الإسلامية كانت مذاهب أو طوائف أو عقائد أو قبائل وعشائر وأعراق. أمور أساس وهناك أمور أساس لابد من استحضارها والإشارة إليها لفهم ما يدفع نحوه ابن تيمية معتمدا على نصوص الكتاب والسنة وسلوك السلف كما تقدم لأنه يسعى إلى صيانة العقيدة وانقاد الشريعة وجعل الناس على منهاج السنة كما ورد في جل فتاواه ومؤلفاته ومن ابرز هذه المؤلفات " منهاج السنة في الرد على الروافض القدرية". وقد رأيت من ضرورة متابعة الباحث والدارس في كونه ركز في أطروحته على الجانب السياسي والاجتماعي أن اجعل المتابع معي لهذه المحاولة في فهم فكر وتوجهات ابن تيمية الإصلاحية ومآلها قديما وحديثا ضرورة الإشارة إلى ما أورده المؤلف في أمور أربعة رئيسية: الأوضاع السياسية، الصراع في ارض الإسلام ومع الإسلام. الشريعة وسلوك أمراء الممالك في مصر والشام. دور العلماء في هذا الواقع الذي يجري في أرض الإسلام. العناية بالطبقات الشعبية. 1 – الأوضاع السياسية المواجهة في الشرق والغرب وفي هذا السياق يمكن الحديث عن المواجهة في الشرق والغرب. إذ مما لاشك فيه أن ابن تيمية نشأ في مرحلة بداية نهاية الصراع مع الصليبية وبداية غزو التتار والمغول لبلاد المسلمين والصراع الذي نشأ عن هذا الهجوم الأجنبي في ارض الشام بالشرق، ولم يكن حال المسلمين في الغرب الإسلامي بأحسن مما هو عليه الحال في الشرق إذ كانت الحروب في الغرب الإسلامي مشتعلة الأوار وبدأت ثمار حروب الاسترداد تظهر في الأفق عقب الانتصارات التي حققا الأسبان في الأندلس بعد معركة العقاب التي انهزم فيها الموحدون وانحلال الدولة الموحدية وبداية الدولة المرينية التي انشغلت بالحروب الداخلية لتثبيت قواعد الحكم والسلطة ومع ذلك فان الأمر ما كاد يستتب حتى بدأ المرينيون حيث انتهى الموحدون. قطار الهزائم ولكن هذه الهبة الجديدة لم تحقق ما كان مرجوا لأن الأوان قد فات لان قطار الانهزامات قد انطلق والأرض في الأندلس تنقص من أطرافها لصالح الأسبان على عكس ما كان يجري في الشرق في هذه الفترة، حيث بدأت فلول الصليبين تحمل أمتعتها للرحيل ولكن الأمر صعب للغاية ومع ذلك فالكاتب يرى أن ابن تيمية عاش مرحلة هذا الواقع المتلاطم الأمواج سياسيا وعسكريا و وجود بوادر انتصار الجيوش الإسلامية، يقول المؤلف: حماسة الانتصار ولقد امتلأ ابن تيمية في شبابه حماسة بانتصارات الإسلام على الفرنج، كما مرت فترة رجولته وهو يعاني من فكرة غزو التتار، ذلك الغزو الذي عانى منه تجربة قاسية في طفولته، ولقد اتفقت عودة محمد بن قلاوون إلى الحكم مع عودة التهديد الثناري من جديد، فبعد أن تحرر التتار من ناحية الشرق، شرعوا يتدفقون على الشام، وكان إسلام حاكمهم «الخان غازان» عاملا هاما من عوامل الدعاية لصالحهم، ولقد اشتد التهديد التتاري على مرحلتين: الأولى بين عام 699ه وعام 802 ه بعنف منقطع النظير، والثانية عام 812ه بقيادة "الجايتو" خليفة "غاران" وشارك ابن تيمية في هذه الأحداث الأخيرة مشاركة ايجابية. فقد استولى غازان في عام 699ه على حلب وهزم جيش الشام ومصر بحمص، واحتل دمشق ثم فشلت جهوده أمام الحصن الذي أبدى فيه الحاكم "الجواش" مقاومة بطولية، وأخيرا انسحب أمام جيش آخر واضطر إلى إخلاء كل شمال الشام»، استعادة المبادرة إن هذه الأوضاع التي تتميز بشدة الحروب ومعارك الانتصار والانهزام جعلت من الرجل ذلك الإنسان الذي يرى الجهاد أساسا في تلك الظروف ومع ما حصل فإن الجيوش الإسلامية استردت المبادرة وفي هذا يقول المؤلف: وبعد عدة جولات للتتار في الشام، وبعد فشل المفاوضات بالقاهرة أعادوا هجومهم على الشام من جديد، ولكن الجيوش المصرية الشامية بقيادة محمد بن قلاوون وجيوش بيرس الجاشنكير التي تجمعت بدمشق دحرت التتار في "شقحب" فلم يجرؤ "ألجايتو" –الذي خلف غازان عام 803ه- أن يقارن نفسه بهازمه القوي وفضل الانسحاب، ومع ذلك وبعد عشر سنوات أبدى التتار رغبة عارضة في معاودة العدوان، عندما لجأ إلى "ألجايتو" أميران لم يجدا الأمان في أرض السلطان وحرضا القائد التتاري على القتال. وتم تنظيم حملة على الشام وقف آثرها في فرض الحصار على «الرحبة» في عام 712ه، ولكن وصول جيش المماليك بدد خطر العدوان، وعاشت بعد ذلك الإمبراطورية الشامية المصرية في سلام داخلي وأمن على الحدود، وتمكنت من بسط سلطانها في الخارج. 2 – الشريعة والواقع التشريع وتغيير الأحوال كان تطبيق الأحكام الشرعية ولا يزال معيار الانسجام بين الناس وبين ما يومنون به من أحكام الشرع إذ بقدر هذا الانسجام يكون الناس قد حققوا الاستقرار والاطمئنان لأنفسهم أولا وللمجتمع ثانيا، والمستشرقون يسمعون باستمرار إلى البحث عن الثغرات في هذا الصدد ليقولوا أن المجتمعات الإسلامية لم تكن باستمرار تنفذ أحكام الشرع وأن هناك سوابق للفصل بين الشريعة والمجتمع أو الدولة وفي هذا السياق يقول لاووس: «ويبدو أن الخطأ الشائع في دراسة انفصال الشريعة عن الدولة في العصر المملوكي يتركز في محاولة البحث عن خطة منظمة لهذا الانفصال، بينما كان القانون السلطاني في الواقع يتغير حسب الظروف، وينشأ عن درجات متفاوتة في التوفيق بين أحكام الفقه الصريحة وبين العرف وتحكم الأمير أو نوابه. الأحوال الشخصية ويبدو من مظاهر الأمور أن قانون الأحوال الشخصية كان معمولا به رغم أن احتجاجات ابن تيمية على التحليل، تجعلنا نفترض ان هذا التحايل قد استغل لإباحة الزنا. كما يفهم من مصادرة بيت المال للتركات التي لا وراث لها، أن تشريع المواريث الإسلامية لم يكن يراعى بدقة، وكانت شهادة الشهود هي الدليل الشرعي الأرجح ويعتقد أن (بيبرس) هو الذي نظم العمل بها داخل الجيش. ولقد ظلت مؤسسات الصدقات الشرعية قائمة، وظلت الدولة- برغم اعتمادها على استغلال الجماهير بواسطة أقلية عسكرية – مستمسكة بالإسلام إلى درجة كبيرة فكانت تساعد المرضى، وتدفن موتى المعوزين، وتضمن لليتامى حدا من التعليم ، وللفقراء صدقات جارية. تنزيل الأحكام إن المؤلف يتحدث عن الاتجاه العلماني في تلك المرحلة والسؤال هل يمكن إسقاط المصطلحات الحالية المعاصرة على ما كان يجري في ذلك العهد إنه أمر غير ممكن لأسباب متعددة وما دامت الإشارة قائمة على أن الأحكام تتغير بتغير الأحوال والزمان والمكان فإن الاجتهاد جائز وليس علمانية ولا غيرها وإنما مراعاة الأحوال في تنزيل الأحكام ومع ذلك فالمؤلف يقول: «وعلى العكس من ذلك فإننا إذا ما تناولنا هذا الاتجاه العلماني بالدراسة في إطار الشريعة، فمما لاشك فيه أن نظام العقوبات الشرعية (الحدود) لم يكن يطبق بانتظام. إذ كان بيع الخمر مباحا مقابل رسم مفروض. واشتهر يهود القاهرة بأنهم حققوا من هذه التجارة اربحا طائلة، كما كانت فرص تطبيق عقوبة الزنا وهي الرجم أو اللعان أكثر ندرة وكان قطع تعطيل عقوبة الشريعة الرادعة عن هذه الجريمة، وكان في إمكان أي فقيه أن يدعي أنه لم يكن هناك تعطيل للحدود وإنما هو مجرد استبدال لنظام العقوبات البدنية بعقوبات مالية (تأديبات). مراعاة السياسة الاجتماعية يتحدث اتلمؤلف رعن الالتزام بالشريعة وبالأخص في تحقيق سياسة اجتماعية لصالح المجتمع ومع ذلك فلم يكن إتباع «السياسة المدنية» (علمانية القانون) في صالح الدولة فقد كانت الزكاة –وهي الضريبية الشرعية الأولى- ضريبة قابلة للتصدير، إذ كان من اليسير جبايتها من القبائل والشعوب التي كانت حديثة العهد بالإسلام، أو الشعوب التي يستعصى فرض الطاعة عليها. وكانت تشبه الخلافة في أنها إحدى الأسلحة القانونية في يد الاستعمار الإسلامي المملوكي. ولم تكن هذه الضرائب شبه القانونية مقبولة عند الناس، ولذلك حرص كل سلطان على التخفيف من عبئها أو إلغاء بعضها في الحدود التي كانت تحقق له كسب رضا الرعية. وهكذا فعل بيرس ومن بعد قلاوون في فترات متقاربة مما يشكك في فاعلية مثل هذه الإجراءات بينما كان السلطان لاجين معروفا بحزمه في القضاء على الإجراءات غير الشرعية. ذلك أنه أعاد إلى أهل الشام ومصر رصيد ضرائبهم واتخذ إجراءات مشددة لحماية أموال اليتامى، وللحيلولة دون مصادرة التركات وأوقف المضاربات الرسمية (الطرح). الحد من الإسراف ومن أجل إرضاء طائفة الفقهاء والحسد من نفقات الدولة الكمالية وتخفيف عبء الضرائب، قام السلطان بمقتضى السلطات التي تخولها له الشريعة بإصدار بعض الأحكام للحد من الإسراف في الإنفاق على الكماليات. وهكذا نرى الشريعة، وهي تتجه ببطء نحو العلمانية، قد تغلغلت بروحها ونصها في واقع الحكم السلطاني لدولة المماليك أكثر مما كنا نتصور، وهذه الاعتبارات هي التي سوف تساعدنا على تفهم قضية الأقليات. الشريعة واللغة ويجب أن نلاحظ أن اللغة كانت حاضرة في معارك ابن تيمية والعلماء ولذلك لاحظ أمراء الممالك ومعهم جمهور الناس أن الاعتماد على اللغة العربية وجعلها الوسيلة الأساس للتعامل أمر لابد منه وفي هذا الشأن يلاحظ المؤلف أن الشريعة لعبت دور أساسا في هذا الباب. وثمة مجال فرضت الشريعة نفسها فيه بلا منازع، ذلك أن السياسة اللغوية لدولة المماليك كانت سياسة تعريب، والقصة التي يرونها المؤرخون العرب معروفة فقد أساء رئيس وزراء بييرس فهم أمر صادر إليه لأنه لم يكن مجيد اللغة العربية، وكان قلاوون قد عاصر هذه الحادثة، فلما أصبح سلطانا، أنشأ مكتبا وعهد إليه بالترجمة ولقد قام هذا المكتب بمهمته خير قيام، وأصبح نموذجا لتنظيمات مشابهة أنشئت في الأقاليم، وسواء أكانت هذه الحادثة صحيحة أو لا، فإنها تدل على أن سياسة التعريب فرضت نفسها –ولو عن طريق سياسة السلطان التعليمية –واستحقت إعجاب ابن تيمية. 3 – دور العلماء «كان المجتمع الإسلامي ولا يزال يولي للعلماء دورا أساسا في حياة الأمة وقد أشرنا إلى ذلك من قبل لأنهم مصدر الإرشاد والتوجيه، ورغم أن الإسلام ليس فيه مجال للكهنوت أو لرجل الدين كما هو الأمر في الديانات الأخرى إلا أن المسلمين يعطون لفتوى العلماء وما يشيرون به على الناس اعتبارا متميزا لأن المفروض لدى وفي العالم أن يكون رأيه خالصا للدين ومخلصا للأمة. إنما يقصد بذلك وجه الله سبحانه وتعالى ومن هنا راعي الباحث والدارس هذا الجانب وأعطى للعلماء مكانة خاصة في بحثه وفي هذا جاء ما يلي: العلماء والقضايا الحيوية وكان دور العلماء الاجتماعي في عصر ابن تيمية على جانب كبير من الأهمية، فقد كانوا يستفتون في كل الأمور، وفي كل الأوساط، ليس في المسائل النظرية فقط، وإنما أيضا في القضايا الحيوية الجارية، وكانت كلمتهم مسموعة وكانوا يتمتعون بمهابة عظيمة، وكان الحكام يعهدون إليهم بكثير من المهام السياسية، ولاسيما المهام الدقيقة الصعبة، وكانوا يحملون إلى السلاطين وإلى العظماء الألقاب التي كان الخليفة بخلعها عليهم. وكان من البادر أن يرسل وفد إلى بركة خان أو إلى الفرنج أو إلى المغول وليس معه فقيه أو أكثر مفوض من قبل الرأي العام. كما كانوا عنصرا من عناصر الاستقرار الاجتماعي. العلماء وتهدئة الأوضاع ويتحدث المؤلف عن دور العلماء في تهدئة الأوضاع فيقول: وكان يعول أحيانا على وساطتهم للحيلولة دون وقوع الاضطرابات العامة، وكانت روحهم الانقيادية قد وضعتهم في تبعية وثيقة الصلة بطبقة الأمراء، ولهذا لا نراهم يشاركون في الثورات الشعبية المختلفة التي كانت دائما بلا ترابط وينير إيديولوجيات، ومع ذلك فقد تدخلوا في منازعات الوراثة ومنافسات الأمراء، وكانت فتاواهم هي التبرير الشرعي الذي لا غنى عنه لقيام بعض حركات التمرد على السلطة أو للتخلص من عدو لدود ففي عام 687ه قررت فتوى لابن خلكان خلع السلطان سعيد، وكان الفقهاء يتمتعون أيضا عند العامة بنفوذ عظيم. وكانت الأحزان العامة تقام عند وفاة احد العلماء، وفي كثير من الأحيان كانت تتحول قبورهم إلى مزارات. ولقد عنى فكر ابن تيمية عناية كبيرة بطبقة الأمراء وطبقة العلماء وسوف نرى أن غاية مذهبه كانت –لاعتبارات شرعية- هي ترجيه الديكتاتورية الواقعية التي كانت تمارسها طبقة الأمراء وطبقة شبه رجال الكهزت –وهم العلماء- إلى وجهة شرعية تتجلى من جانب الأمراء في خصومهم لشريعة الإسلام، ومن جانب العلماء في استقلالهم استقلالا فعالا يجعلهم طبقة موجهة، بدلا من طبقة خاضعة مستذلة. 4 – الطبقات الشعبية العوام أو سواد الأمة كما كان يعبر في ذلك الوقت مما اعتنى به العلماء والساسة وابن تيمية على الخصوص لأنهم الحاضنة التي كانت ولا تزال ما يجعل العام أو المصلح ناجحا أو قائلا إذ بقدر ما يشعر الناس بأن ما يقوم به العالم أو المصلح أو حتى الحاكم بقدر ما يلتقون حوله ويساندونه وفي هذا الشأن فإن الدارس يرى: وليس معنى ذلك أن نظريات ابن تيمية لم تعن بالطبقات الشعبية وإنما يرجع الفضل في اهتمامه الدائم بمصيرها إلى الظروف السيئة التي عاشت فيها هذه الطبقات وغالبيتها من القرويين الذين كانوا يرزحون تحت وطأة الضرائب ولهذا جاهد من أجل التوفيق بين اعتبارين كانت تفرضها ظروف عصرة وهما مزيد من العدالة في العلاقة بين المستعمرين والمستعمرين.. ومزيد من الاستقرار في بقاء رجال السياسة في مناصبهم.