بطلنا الذي سنسرد سيرته هو تاسع سلاطين الدولة المملوكية البحرية، ومن أبرز سلاطين الأسرة القلاوونية والدولة المملوكية، هو السلطان الملك الناصر أبو الفتح ناصر الدين بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون، ولا شك أن البيت القلاووني تمتع بأهمية ومكانة خاصة في التاريخ الإسلامي، فقد مثلت فترة حكمهم عصر الازدهار وكانت رمزًا للقوة والعظمة والاستقرار والنهضة في الداخل، والأمن والسلام في الخارج، وهو ما نصبو إليه في مصر الجديدة اليوم بعد ثورة 25 يناير المجيدة، ولذلك أحببت أن أقدم تجربة قائد وعظيم من عظماء أمتنا حقق فيها الاستقرار والتقدم والازدهار بعد فترة من التدهور والانهيار ممن نهبوا البلاد والعباد من أمراء المماليك. نسبه ونشأته في منتصف المحرم سنة 684ه/ 1285م، بزغت شمس محمد بن قلاوون في سماء مصر، حيث ولد بقلعة الجبل من ديار مصر، وسمي بمحمد لتفيض عليه أنوار بركة هذا الاسم الشريف، ونعت بالناصر لأنه نعت حسن التعريف، ولقد وردت البشرى إلى والده وهو يحارب الصليبيين بالقرب من دمشق أثناء محاصرته لحصن المرقب، فاستبشر الملك المنصور قلاوون بمولده، نشأ الناصر محمد في قلعة الجبل، مقر السلاطين بالقاهرة، محاطًا بالأمراء والنبلاء وأرباب الدولة، واعتنى به أبوه المنصور قلاوون، فأنشأه على الأخلاق القويمة ورباه تربية سليمة، في تلك البيئة التي نشأ فيها الناصر والتي كان لها أثر على شخصيته وطباعه بعدما كبر، استطاع من خلالها أن يمارس الحكم أكثر من ثلاثين عامًا، ظهر فيها حسن أخلاقه، وأثر التربية والتنشئة التي نشأ عليها. صفاته تجلت شخصيته بصورة واضحة وهو ابن الخامسة والعشرين من عمره، أرخى لحيته فإذا له هيبة يحس بها كل من يلقاه، وكان له في الحديث طريقة كاد ينفرد بها عمن سواه ممن هو في مثل مكانته ومركزه، إذ كان عفَّ اللسان، لا يفحش في القول سواء أكان غاضبًا أم منبسط الوجه، ينادي الناس بأحسن أسمائهم وأجلِّ ألقابهم، ولا يؤاخذهم فيما يتورطون فيه عن حسن قصد بل يقابل أعمالهم بصدر رحب ونفس سمحة. وكان الناصر محمد بن قلاوون رزينًا غير متهور إذا غضب على أحد، لا يُظهر له ذلك بل يتروى في أمره ثم يعفو عنه أو يعاقبه فيما بعد، وكان لا يميل إلى الهزل في موضع الجد، فإذا خرج أحد على هذه القاعدة واستغل حلم الناصر غضب أشد الغضب، كان لا يميل إلى الزخرف في لباسه واكتفى بما كان معتدلاً في قيمته، فترك معظم ما كان يتحلى به سلاطين المماليك قبله من الملابس الغالية الثمن، وكان يتجمل في غير إسراف، وكان عطوفًا كريمًا حافظًا للأنساب، وكان فيه ذكاء ووقار. عبادته كانت للسلطان الناصر محمد بن قلاوون نزعة للتدين يشهد بها أن خاتمه الذي كان يوقع به على أوراق الدولة كان مكتوبًا عليه "الله أملي"، ويدل عليها أداؤه لفرائض الدين، وحرصه على أن يحج إلى بيت الله الحرام، كلما سنحت له ظروف أعماله، فكان يهرع إلى البقاع المقدسة ليغسل عن نفسه ما تورط فيه من ذنوب، ويستمد العون من الله على مواصلة جهاده في سبيل شعبه، وكان يكره شرب الخمر ويمقت شاربيها، ولعل هذا راجع إلى شدة تمسكه بالدين. مكانة العلماء عنده كان يحب العلم والعلماء ويقدرهم خاصة المؤرخ المشهور إسماعيل أبو الفدا. علاقته مع أهل بيته كان الناصر محمد مثال الزوج الوفي والأب الحكيم، فعلى الرغم من كثرة مشاغله لم يكن ينسى أن عليه واجبًا لزوجاته لا يقل عن واجبه لدولته، وعليه واجب لأولاده لا يقل عن واجبه كسلطان، فهو زوج وأب كما هو سلطان للبلاد، ولذلك كان يخرج للنزهة مع زوجاته وبناته، وكان عطفه على بنيه وبناته مشوبًا بالحزم، فقد كان يُعنى بتوفير وسائل الحياة الرغدة لهم، ولكنه لم يكن يسمح قط بأن يخرجوا بحكم كونهم أبناء السلطان عن الطريق السوي أو أن يستغلوا هذه الصلة في انتهاك حرمات الآخرين، كان يطمع في أن يكونوا مثالاً يحتذى في الأخلاق الطيبة وقدوة لغيرهم في السلوك الحسن. توليه الحكم في مصر ولي الناصر محمد بن قلاوون السلطنة ثلاث مرات الأولى من 693ه/ 1293 إلى 694ه/ 1294، والثانية من 698ه/ 1299 إلى 708ه/ 1309، والثالثة وهو في سن الخامسة والعشرين من عمره من 709ه/ 1309 وحتى وفاته في عام 741ه/ 1341، ودام حكمه في هذه المرة إحدى وثلاثين سنة، ويمثل ذلك العصر بالذات أعظم حلقات تاريخ المماليك ازدهارًا وأكثرها رقيًّا واستقرارًا، وامتد فيها نفوذ الدولة المملوكية من المغرب غربًا حتى بلاد الشام شرقًا ومن بلاد النوبة جنوبًا حتى آسيا الصغرى شمالاً.