العدوي تقدم عرضا أمام مجلسي البرلمان حول أعمال المجلس الأعلى للحسابات    إضراب التنسيق النقابي يشل المنظومة الصحية..    الرباط.. حفل بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة 2975    بورصة الدار البيضاء تفتتح تداولات الأربعاء على وقع الارتفاع    العدوي.. يتعين الحفاظ على مجهود الاستثمار العمومي والسعي لأن يلعب دور الرافعة للاستثمار الخاص    اختيار جامعة محمد السادس لقيادة قطب الاستدامة بمنتدى مستقبل المعادن بالرياض    المحققون في كوريا الجنوبية ينجحون في توقيف الرئيس المعزول    استثمارات خليجية تنقذ نادي برشلونة من أزمته المالية الكبرى    نادي مولنبيك البلجيكي يتعاقد مع بنجديدة على سبيل الإعارة    العثور على جثة ستيني داخل فندق بالحسيمة في ظروف غامضة    مديرية حموشي تفتتح مدرسة جديدة لتكوين حراس الأمن بمراكش    فاروق لايف: التغيير بدأ قبل حملة التنمر وسأجعله مصدر إلهام للآخرين    دوري أبطال أفريقيا.. طاقم كيني لقيادة مواجهة الجيش الملكي وصن داونز    "جبهة دعم فلسطين" تنظم يوما وطنيا للتنديد بالتطبيع ووقف الحرب    المبادلات التجارية بين المغرب وإسبانيا تحقق أرقاما قياسية    "حافلات البرد" تنقذ المشردين من صقيع الشتاء عبر المدن الألمانية    وفد من الجهاد الإسلامي يصل الدوحة    حالات الإصابة ب"بوحمرون" داخل السجون ترتفع والعدوى تطال الموظفين    اليوبي: الوضعية الوبائية "عادية" وفيروسات الموسم مألوفة لدى المغاربة    تسجيل 25 إصابة بداء بوحمرون في السجن المحلي طنجة    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الأربعاء    الاتحاد العام للصحفيين العرب يؤكد مساندته للوحدة الترابية للمملكة ودعمه للحكم الذاتي في إطار السيادة المغربية    رسميا.. "الكاف" يعلن تأجيل بطولة "شان 2024"    أرسنال يفتقد خدمات مهاجمه البرازيلي خيسوس بسبب الاصابة    رفض نقابي لإلغاء صفقة ومطالب بالتحقيق في اختلالات بجامعة بني ملال    لا لتحجيم الحق في الإضراب!    الاتحاد العام للصحفيين العرب يجدد دعمه للوحدة الترابية ولسيادة المغرب على كامل ترابه    توقعات أحوال الطقس اليوم الأربعاء    تقرير يكشف أن 66 قضية أمام المحاكم تخص نساء ورجال التعليم خلال 2024    79 إصابة بداء "بوحمرون" بين نزلاء 13 مؤسسة سجنية.. و7 إصابات في صفوف الموظفين    عاجل.. اندلاع حريق مهول في غابة جبل أغاندرو بجماعة عبد الغاية السواحل نواحي الحسيمة    للمرة الثانية.. تأجيل إعلان ترشيحات جوائز الأوسكار بسبب حرائق لوس أنجلس    بلقصيري تحتفي بالكتاب الأمازيغي والغرباوي في "آيض يناير"    إيض يناير 2975: الدار البيضاء تحتفي بالتقاليد والموسيقى الأمازيغيين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    مؤتمر إسلام آباد يدعم تعليم المرأة    استضافة الجزائر لتنظيم كردي في تندوف يدخلها في مواجهة مع تركيا وسوريا الجديدة    العاهل الإسباني يؤكد على الطابع الخاص للعلاقات مع المغرب    طنجة: وفاة زوجين اختناقا بسبب تسرب غاز البوتان    لجنة الأوراق المالية الأمريكية ترفع دعوى ضد إيلون ماسك بسبب "تويتر"    تساؤلات تطال مدونة الأسرة بشأن رهانات التعديل وإشكاليات المقاربة    العيون تحتفل بحلول "إيض إيناير"    الناظور.. افتتاح الدورة الثانية لمهرجان "انيا" للثقافة الأمازيغية    رسميًا: الكاف يؤجل بطولة أمم إفريقيا للمحليين إلى 2025    الزنيتي ينضم إلى الوصل الإماراتي    زيارة لتعزيز قطاع الصناعة التقليدية بجهة سوس ماسة : خطوة نحو التنمية    التردد الحراري.. تقنية حديثة لعلاج أورام الغدة الدرقية تُعوض الاستئصال    عروض الشهب الاصطناعية تُضيء سماء أكادير احتفالاً برأس السنة الأمازيغية 2975 (الفيديو)    تفشي داء بوحمرون يحيي أجواء كورونا في محاكم طنجة    إسبانيا تفرض ضرائب قاسية على عقارات المغاربة    الدورة ال49 لجائزة الحسن الثاني وال28 لكأس الأميرة لالة مريم للغولف من 3 إلى 8 فبراير المقبل بالرباط    الناصيري يكشف سبب حجب "نايضة"    الدار البيضاء .. أمسية موسيقية احتفاء برأس السنة الأمازيغية الجديدة    المديرية العامة للضرائب تحدد سعر صرف العملات الأجنبية    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية
نشر في طنجة الأدبية يوم 09 - 04 - 2012

أول الكلمات التي نطق بها هي:«بابا... ديدّي1... أنا»؛ فاهتزّتْ أمُّه فرحا لكون ابنها مصطفى تكلّم وهو لم يتعدَّ سنته الأولى. فضمّته إلى صدرها وأغرقته بالقبل ورفعته إلى السماء ورقصت به. لكن فرحتها انهارت لمّا رأته يقدّم لها إصبعَه الخِنْصِر وقد قُضِمَ ضُفرُه وقليلا من لحمه:«بابا ديدّي أنا... آيْ... ديدّي» وشرعتْ تفحصُ أظافره الصغيرة.
هل قلّمتَ أظافر مصطفى يا أبا مصطفى؟
أجل!
ولكنّك قضمتَ بنانه... الظاهر أنّه بكى من الألم؛ لماذا لم تخبرني؟
لم أستطعْ التمييز بين ظفره ولحمه...
فجأةً صرخت الأم:«إنّه لم يتكلّم... إنّه روى ما حدث له معك...» ومنذ تلك اللحظة لم يكفَّ مصطفى عن الرواية.
كان يروي وهو رضيع ما يحدث في البيت بصدق الأنبياء ولدرجة أنّ والديه صارا يخافان من أنْ يروي عنهما بعض الأشياء التي يقوم بها الوالدان أمام أطفالهما الرُّضّع من دون أيّ تحفظ.
ففي زيارة لجدّته من أبيه، وهي تداعبه، أزال الرضّاعة الزجاجية من فمِه وقال لها:«بابا... بيزو2 ماما» ومثّل بفيهِ الصغير قُبلةً في الهواء؛ فضحكتْ الجدّة في خجل ابنِها وكِنَّتِها وقالت:«هذا الطفل موهوب من عند الله».
بعد انصراف الجدّة، قامت أمُّه توبِّخه:«إيّاك أن تحكي ما يجري بيني وأبيك لأحد! هل فهمت؟» فوضع مصطفى رأسَ سبّابتِه على فمِه بما يعني [لن أرو شيئا عنكما أبدا].
في نفس الليلة دار حديث مخدّة بين الأب والأم:
أرى أن جارتَك حكيمة لم تعُد تزرك؛ هل تخاصمتما أم ماذا؟
إنّها غاضبة منّي منذ حفل ختان مصطفى.
ولماذا تغضب منك؟
لقد سبق أن أخبرتُك. إنّها تقول بأنّني ازدريتُ هديتَها له.
آهْ أذكر... كانتْ جاءتْ بدفتر من الحجم الكبير ومجموعة من الأقلام...
وهل هناك امرأة عاقلة تقدّم هدية من هذا النوع لرضيع؟
ألمْ تقولي لي بأنّها قالتْ:«هذه لمصطفى لكي يدوّن رواياته لأنّه إنْ تكلّم في سنة فلا بدَّ أن يكتُبَ في سنتين»؛ ولكن ما العيب فيما قالت؟
العيبُ هو ما قالت بعد ذلك.
وماذا قالت؟
قالت:«والله لو لم أكن أعرفك ومتى تزوجت لقلتُ بأنّ مصطفى كان راقداً في بطنِك عشرين سنة على الأقل».
في تلك الليلة كان مصطفى في غرفته المجاورة لغرفة والديه يمصمصُ رضّاعته البلاستيكية ويسمع ويدوِّن.
آنذاك خطرتْ لأمِّه فكرة شيطانية.
في الغد صرفت الخادمة وقبل أن تنصرف وزوجها إلى عملهما، طرقت بيت حكيمة ورجتها أن تحتفظ بمصطفى إلى حين عودتها ظهرا.
شكراً لك يا عزيزتي حكيمة وسامحيني مرّة أخرى.
كانتْ لهفتها عظيمة لسماع ما سيروي لها طفلها الرضيع.
هل أطعمتك؟ ماذا أطعمتك؟ هل أعطتك الدواء؟ هل بدّلتْ حفّاظاتِك؟
وكان ردُّه بتحريك رأسِه (نعم... نعم...).
هل جرى أمرٌ بينها وزوجِها السيد كمال؟... أعرف أنّ علاقتهما ليست على ما يُرام. إرْوِ! هل جرى بينهما شيء؟
آنذاك استلَّ مصطفى الحَلَمَة الصناعية من فمِه وقال:
عمّي كمال طَطَحْ3 عمّيتو4 حكيمة... عمّيتو ديدّي...
في دار الحضانة، صار مصطفى يروي لحاضناته كل ما يجري عندما يغبن عن مهامِّهِن، ويسمّي الأحداث بأسمائها، وأبطالَها وبطلاتها يصفهم بأدقّ الوصف، ويحلّل ويحكم ويقرّر:[عدنان أكل حلوة هند...مروة باستْ ياسين... محمد أطلَّ من تحت تنّورة ليلى...]
عندما بلغ السابعة حفظ القرآن والحديث والرواية. وكان ما أعجبه كثيرا في علوم الدين هو تلك الشخصية التي روت عن النبي كلّ ما قال وفعل؛ وكان أن سأل أستاذه:
كيف لرجل أن يروي ألف رواية وألف؟ هل كان لا ينام ولا يسترزق؟
ومنذ أن قال له:«هذه موهبة من عند الله» تذكّر قول المرحومة جدّتِه وقرّر أن يبزَّ تلك الشخصية في فنّ الرواية.
البداية الرسمية كانتْ حين جمّعَ ما يليق وما لا يليق من أخبار عن أساتذته وشرع يرويها لأصحابه بدقّة الصحافي المتمرّس؛ بالأسماء والشهود والحيثيات والملاحظات من قبيل تواتر الخبر أو عدمه، نزاهة من روى له أو انحيازه، ظروف الرواية هل ليلا أم نهارا، إبّان الصيام أم خلال الإفطار، عن رجل أم امرأة... في هذه الحال الأخيرة، كان يستعين بشهادة امرأة ثانية للتصديق على رواية الأولى.
هل كان يدوّنُ ما استقصاه من أخبار كما تنبّأتْ له من قبل الجارة حكيمة؟ لم يحدث ذلك لأنّ مصطفى كان يتميز بذاكرة خارقة وبقدرة ثاقبة على ترسيخ ما يروي في أذهان المروى لهم، فتصير ذاكرتهم السند الذي يتمُّ عليه التدوين.
في العشرين، بلغ الدراسات الجامعية برصيد من الروايات يقدّر بالمليون على الأقل. وعندما وجد نفسه يروي ما سبق أن رواه؛ قال لصديقته نعيمة:
لا أع رف ما ذا ج رى لي... أشْشْشْ عُر بِ ثقل في لسْسْسْسْاني و كَ أنّي سَ سَ سأصبح أبْبْ كَم.
فقال له الطبيب:
جهازك العصبي سليم... الظاهر أنَّ مشكلتَك نفسية.
بعد ثلاث زيارات لاختصاصي الاضطرابات النفسية لا غير؛ تبيّن داؤه:[التكرار والاجترار] ولكي يعالج نفسه بنفسه (كما قال الاختصاصي)؛ بدأ يذهب إلى سوق لقريعة، وسوق درب غلّف، وگراج علال، وگراج بنجدية، ويتجمهر حول حلقات المهرجين مثل خلييْفة والكرايْمي، ويزور جلسات المحاكمة، ويحظر الأعراس، ويتسمّر في المقاهي الشعبية لأجل أن يمتلأ بما يمكن أن يتحوّل إلى مادّة روائية.
بل إنّه سافر إلى مراكش؛ ساحة جامعالفناء، السمّارين، ضريح سيدي بلعباس، سبعة رجال، قبر يوسف بن تاسفين العريان، الخمّارات بالرغم من أنّه لا يشرب. كما سافر إلى مكناس إلى ضريح سيدي الهادي، وإلى طنجة إلى الخمارة التي كان الأديب محمد شكري يحتسي فيها الشراب، ومنها إلى كتامة حيث الحشيش، إلى مولاي يعقوب بضواحي فاس... إلى أن جمّعَ مليون رواية.
آنذاك قال لخطيبته نعيمة:
الحمد لله ما عدتُ أتأتِئ، ولكنّي قلقٌ بشأن مخزوني من الروايات. فردّتْ:
لا تقلق، إنّ الكتب معك!
فرأوه يستحم ويروي، يحلق ويروي، يأكل ويروي، يعمل ويروي، يجري ويروي، يتعشّى ويروي، و... ويروي.
في السنة الثانية من زواجه بنعيمة، أُصيبتْ هذه بالصمم؛ أو أنّها افتعلتْ داء الصمم حيلة منها لكي تركّب على أذنيها آلة السمع تسمع رواياته متى شاءت ولا تسمعها متى تريد.
وهو مشرف على الخمسين، لم يكُفّ عن الرواية. أقلتَ:«سأروي لكم روايةً يقشعرُّ لها البدن» إنّها في رأسه. أم تقول:«سأخترع رواية وأرويها لكم اللحظة» إنّه يعرفها.
وها هو مُطِلٌّ على التقاعد. صحيح أنّه ما زال في مثل الشباب، ولكن كلامَه لا يخلو من خروج لسانه بعدما استطال بسبب ما رواه منذ كان رضيعا. المسكين اكتسب عادة وضع رأس سبّابته على لسانه لكي يدخله إلى جحره.
ومع ذلك ما زال مصطفى «لَمْعاوْدَة» (الراوية) يروي الروايات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.