جاءني عبد السلام إلى السيبر يطلب خدمةً، وأنا لم أبخلْ بشيءٍ. أخيراً، اهتدى عبد السلام إلى الفايسبوك. أيام قليلة كانت كافية لكي يتعلّم كيفيات تشغيل الفأرة والفتح والإغلاق وتكوين صفحة. وقطعاً، لم يكن له أن يدركَ هذه المهارات لوحده لولا مساعدتي أنا محمد، صاحب هذا السبير. الآن، يتقنُ عبد السلام هذه المهارات، وربّما يعلمُ مهارات أخرى، ولا سيما في كيفية إشاعة خبرٍ. في الواقع، إنّ منْ أوعزَ لعبد السلام بارتياد الفايسبوك هو ما جرى في بلدان العرب في الشهور الأخيرة. من هذا اهتدى الرجلُ، فيما أحسبُ، إلى الفكرة، فجاءني، مساء يوم، يلتمسُ هذه الخدمة. وما عتمَ أن شرع في إنشاء صفحة خاصة به حملت اسمه الكامل وصورة شخصية بالألوان. لم تكن صورة عاديةً هذه التي ركّز في خانة صورة البروفيل. صورة بالألوان، لكن مع ترتيب دقيق، وموزون، لوضعة القعدة وزان عدسة المصوّر. تطويعٌ للشّعر كي يبدو في تمام الوقار. نظرٌ مباشرٌ صوب الناظر إلى الصورة. ثمّ تلك الابتسامة التي تعرّشت على شفتين رقيقتين مقشّرتين، كأنّما هي ابتسامة الموناليزا! ابتسامة مخاتلة، تكشفُ بما لا تفصحُ. قلتُ له: إنّك برعت يا عبد السلام في التقاط الصورة. ردّ عليّ، وهو يرسلُ ضحكته الطويلة: إنّ المصور صديقي. داخل نطاق الإعلان، كتب عبد السلام: «انا عبد السلام بن عبد السلام ابلغ من العمر 35 سنة متزوج واب لبنت واحدة في تسع سنوات من عمرها بقال ومعروف عند اولاد الحومة جمعت قدرا من المال منذ الانتخابات السابقة ارغب الان في الترشح الى البرلمان ان شاء الله فهل من حزب يزكيني جزاه الله عني خيرا». عيبُ عبد السلام في أنّه لا يستشيرُ أحداً في ما ينتوي القيامَ. وما خاب من استشار. هذا عيبٌ من عيوبه. الرجل طيبٌ. ما في ذلك من شكّ. لكن، منْ يا ترى من الأحزاب سيصدّقه؟ والأحكمُ، أيّ حزب سيقبلُ به؟ أنا أراهنُ: لا أحد سيفعلُ. لم أقلْ كلامي هذا لعبد السلام. احتفظتُ به لنفسي. لستُ من الماكرين، أو ممّن يحسدون الغير حدّ أن أقذفَ بالكلام ملءَ الوجه. أعرفُ أنّه سيظلّ ينقرُ، في كلّ مساء بالسيبر، على "بارتجي" دون فائدة. والسببُ بسيطٌ، لا أحد من الفايسبوكيين سيطلبُ صداقتَه. سيقولون إنّه أحمقٌ. لكن عبد السلام سيواصلُ البحثَ عن صداقاتٍ. متأكدٌ أنا من ذلكَ. سيفعلُ دون جدوى. سيتعبُ في النهاية، وسيحذفُ الصفحة. شخصياً، لا أصدّق أنّه سيترشّح إلى البرلمان. كيف تريدُني أن أصدّق؟ أبناء الحومة، هم الآخرون، لنْ يصدقوه. منْ يكون عبد السلام هذا في الأمّة حتّى يطمع في البرلمان؟ سيقولون. وسيفكّرون، فيما هم يديرون رأسَ السبابة عند الصدغ: إن الرجل حقاً أحمقٌ! بيد أنّ عبد السلام، وضداً على التيار، يصرّ على الاحتفاظ بالصفحة. وهذا من عناده. رغم مرور الأسبوعين ما تزال الصفحة قائمة، ولا حزب أشّر. الانتخابات في 25 نونبر، ونحن في بداية شهر سبتمبر. سوق الانتخابات حامية على أشدّها. الباحثون عن التّزكيات، من ذوي الضيعات والشركات ومراكب أعالي البحار، ومن تجار المخدرات والسلع المهربة ومقالع الرمال والعقار، هؤلاء جميعهم، غمروا السوق. والصحف تنقلُ أخباراً عن مترشحين سابقين ينوون تجديد الترشيح. وأنا أخاف على عبد السلام. الرجل طيبٌ، وعلى نيّته. لم يخبر حياة الأحزاب. وينقصه فهم السياسة. أنا لم أصدّقه. وهذا الكلام قلتُه قبل حين فقط، لذا لم أستجبْ لرسالته الإيميل، يطلب صداقتي. لستُ مستعداً لإضافته إلى لائحة الأصدقاء. أطلّ على صفحته من وقتٍ لوقتٍ، فلا أجدُ من الأسماء غير خمسة؛ أسماءٌ أجهلُها. لائحة بخمسة أسماء، هل تصنعُ برلمانياً؟ وها عبد السلام لم يعدْ يأتي إلى السيبر. وهذا جديدٌ. منذُ أربعة أيّام لم تطأ قدماه المحلّ. لعلّه صار يرتادٌ سيبراً آخر. وعشية اليوم فقط، صادفته بالمقهى يقتعدُ طاولةً مركونةً، ويحتسي قهوةَ "نص نص"، ويشفطُ سيجارةً. وأنا أمدّ له اليدَ بالمصافحة، ضغط على أصابعي كي أجالسَه. قلتُ له لربّما في مرة قادمة، فأنا الساعة على عجلة من أمري. وكنتُ أكذبُ. في الحقيقة، كنتُ أخشى منْ أن يفاتحني في موضوع الانتخابات. ولعلّه يستمزجني رأياً. والحال، أنّني بتتُ أكرهُ الحديث في السياسة. كرهي للسياسة من كرهي للأحزاب. حين ألحّ، اقترحتُ عليه عشر دقائق، لا أكثرَ. وكنتُ أتيتُ المقهى لأشربَ قهوتي بمفردي، ثمّ أعودُ إلى السيبر. وها عبد السلام يترجّاني مقاسمتَه القعدةَ. لم يترجّاني باللسان الفارز، وإنّما فعل باليد والعينين. في نظره، في تلك اللحظات بالذات، ما يجعلكَ حقاً تشفقُ عليه. قلتُ له عشر دقائق فحسبُ، فإذا بالجلسة تستغرقُ حوالي الساعة والنصف. قال عبد السلام، في ما قال، إنّ الفيسبوك لم يأت بنتيجة تُذكر، كما كان يظنّ. أخطأتُ التقدير، صرّحَ، فيما هو يمدّ فوامة السيجارة إلى فمه ويستفّ جرعة طويلة، ثمّ يدفع بالدخان من منخريه إلى شماله، حتّى لا يمسسني بلطشٍ منه، أنا الجالس قبالتَه. وقال إنّه طاف بمقار أحزابٍ يعرضُ بيانه بطلب التزكية، فكان المسؤولون يأخذون البيان، ويستمهلونه التفكيرَ والرّدَ. آخرون، قالوا له، بينما هم يتبادلون النظرات: إن شاء الله الرحمان الرحيم! عبد السلام كان يحكي، وأنا كنتُ أقولُ في خاطري: اللئامُ، كانوا يضحكون عليه في سرّهم. وربّما انفجروا ضحكاً عقبما فارقهم. وقد يكونوا صبَعوا عليه بالوسطى، فيما هو يولي عنهم بالظهر. اللئامُ! عبد السلام رجلٌ طيبٌ، أقسمُ بذلك. طيّبٌ، لكنّه لا ينفعُ للسياسة. في تلك القعدة، التي جمعتني به في المقهى، رأيتُ الرجل حزيناً. شاهدتُ حزنهُ في أوقاتٍ ماضيةٍ، لكن لم أشاهدهُ على ذاك النحو من الحدّة. هذا حزنٌ مغموسٌ في مرارةٍ لاذعةٍ. كان يمتصّ السيجارة إلى غاية أن تشتعلَ النارُ في العقبِ. نادراً ما رأيتُ امرءاً يفعلُ. كيف؟ حتّى العقب أيضاً؟ أنا أعرفُه. عبد السلام لا يتحشّشُ. كان يتحشّشُ. اليوم لم يعد. وكان يسكرُ أيضاً. مذ أن فتح حانوت بقالة بالحي تخلّى عن الحشيش والشراب. لا يزالُ يدخنُ. ولعلّه في الأسابيع الأخيرة راح يدخنُ بزيادة ملحوظةٍ. شفتاه المقشرتان تفضحان سرّهُ. عيناه الغائرتان الحمروان تُنبئان بأنّ الرجل يسهدُ. أكيدٌ أنّ تفكيرَ عبد السلام مشوشٌ، مشغولٌ. لا يقدر أن ينامَ. كيف يطيبُ له النّوم، وهو لم يحصل على التزكية بعدُ؟ مسكينٌ عبد السلام. الرجلُ على نيّته. بهذا سلّمتُ في تلك العشية المعلومة، وأنا أنقدُ النادل الكأسين، وأغادرُ المقهى إلى سيبري، عند عطفة الدرب. تفاديتُ الإقبالَ عليه في الأيام اللاحقة. أنظر إليه على مسافة مقدّرة، في السيبر كما في المقهى. وأنا أدلفُ إلى المقهى، أغضّ الطرفَ، وأتحاشاهُ إلى الطاولات البعيدة. في ساعاتٍ أخرى، رأيتُه جالساً يمزّ السيجارةَ مزّاً، فيما هو يرتشفُ من كأسه "نص نص" رشفاتٍ تكاد تُسمع من موضعي في الزّاوية النقيض. في نفسي، أقول: عبد السلام ينتحر! يحدثُ أن ألقاه، أحياناً، خائضاً في كلام مع جُلاس. يشيرُ في الفراغ بيديْه الاثنتين معاً. اليدُ التي تمسكُ بالسيجارة، واليدُ التي تضربُ في الهواء. كأنّ الرجلَ يسعى إلى الإقناع برأيٍ. سمعتُه مرةً، من مكاني، يخاطبُ أحدَهم بجملةٍ لا أعرفُ لم التصقت بطبلة أذني كالغرّاء دون سواها؟ قال عبد السلام لمحادثه: إنّني أتوفر على حظوظ. الجملةُ بلغت أذني في صفائها. الآن، الرجلُ بات يتكلّمُ عن الحظوظ؟ أيّ حظوظٍ، يا السي عبد السلام؟ أفقْ من سباتك يا صاحبي! علقتُ في سرّي. لو فقط، كان عبد السلام يطالعُ الصحفَ. للأسف، لا يفعل. لو كان يفعلُ لأقتنعَ بالعدول عن الفكرة، ولزمَ الحانوت. أنا قلتُ له في السيبر، ذات زيارة: يا عبد السلام، السياسةُ صعبة. بيد أنّ الرجلَ عنيدٌ. قال لي لحظتها: ساعدني أنتَ في فهم كيف أدبّرُ حركة الفأرة، وأجولُ عبر الشاشة، والباقي عليّ. وأنا قدّمتُ له الخدمةَ. وإلى ذلك، قدّمتُها مجاناً. وها أنذا أتلصّصُ بالنظر، من حين لآخرَ، على صفحته، فلا أجدُ سوى الإعلان يتصدّرُها ما يزالُ. لا استجابة من حزب، ولا تعليق، ولا تأييد. إعلانٌ يتيمُ، ينتظرُ نقرةََ عطفٍ من أحد العابرينَ، أو السابحينَ، أو التائهينَ. ثمّ تراني أتمتمُ بألفاظ أسفٍ، وأحولقُ وقتما ألقى لائحة صداقاته تراوحُ مكانَها. لا أشمتُ في الرجل، لكنّ خمسةَ أسماء، أو عشرةَ حتّى، لنْ تصنعَ أنصاراً. وحتماً، لنْ تفضي إلى برلمان. لو أنّه يحذف الصفحة، يكون فعلَ خيراً. في أوقاتٍ، لاحظتُ أنّه يوكل أخاً له، لعلّه الأصغر، على البقالة، وينصرف هو بالكامل إلى الفايسبوك. حذّرته من الإدمان. لكنّه الساعة هجرَ السيبر. لربّما صار يرتادُ سيبراً آخر، في دربٍ آخر. لعلّه لم يعدْ يطيقُ سماع كلامي، فبدّل سيبري بسيبر في الجوار. لا أقطعُ بشيءٍ، لكن من المحقّق أنّني فقدتُ زبوناً. وهذا ليس من قواعد التجارة الناجحة. وقد يكون اقتنى الجهاز. ومنْ يدريني؟ في الواقع، إنّ دواعي استطراداتي هذه، هو اختفاء الرجل هده الأيّام. لا أثرَ لعبد السلام. أين يكون؟ وأعترفُ بأنّ الغيابَ المثير للرجل عن الحانوت حرّك فضولي. أمرّ قدام الحانوت، فألتفتُ إلى دافنها من غير إمعانٍ. لا أجرؤ فأستفسر أخاه. أخافُ أن يعتقدَ، هذا إن بلغه خبري، أنّني تراجعتُ عن حكمي على ترشّحه، وقد جئتُه مستخذياً أبغي ودّه. هيئته وهو يغادر، في آخر حضور له بالسيبر، لا تكاد تفارق صندوق دماغي. أذكرُ أنّه استشاط غضباً، وقذفَ بالفأرة جانباً، وهو ينتصبُ واقفاً، لمّا قلتُ له إنّ الفاسدينَ هم وحدهم الذين أمسوا يدخلون البرلمان. لم يردْ في حينه بلفظٍ. وقفَ وقفتَه الغاضبة تلك، ورمى بالفأرة، ثمّ خرج. في ذلك المساء، خرج عبد السلام، ولم يعدْ. والظاهرُ، أنّني تمالكتُ نفسي لأيّام، قبلَ أن أعقدَ العزمَ، هذا الصباح، فأخطو، وإن بتردّد فاضح، إلى حانوت البقالة، وأسألَ الأخَ. تثبّتني الولدُ ملياً ببصره، ثمّ قال، وعلامة ابتسامةٍ تحفرُ في قبوة الفم: عبد السلام سافرَ إلى الجنوب. لم أفهم كلام الولد. ولعلّه فطنَ، هو أيضاً، لحالي، فتابع: عبد السلام سيترشّح بتافراوت، ألمْ ترَ صورتَه بالجورنان؟