قال ابن الرومي : رقادك لا تسهر لي الليل ضلّة ً ولا تتجشم فيّ حوكَ القصائدِ ابي وأبوك الشيخ آدم تلتقي مناسبنا في ملتقىً منه واحد ِ فلا تهجني حسبي من الخزي اننّي وأيّاك ضمّتني ولادة والدِ تعجبني هذه الأبيات الرائعة للشاعر العبقري ابن الرومي , والشيء بالشيء يذكر, حول المشاحنات الأدبية والحزازات الشخصية ,والنزاعات الانانية , والصراعات السياسية التي يقع بين حبالها عمالقة الفكر والادب , ناهيك عن عامة الناس وعوامهم , متناسين في لحظات الصراع غير المشروع , ما الانسان الا نطفة من قبل , وجيفة من بعد – وانا استعير هذا المعنى من الامام علي ( عليه السلام )- فلا يبقى بينهما الا العمل الصالح , والخلف النافع , والذكر الطيب , وشاعرنا اشار الى نسبه الأولي متجاوزاً كل آبائه وأجداده كما أسلفنا , ولكن الرصافي وقع بين هذه الأحابيل , وأشد من هذا , شأنه شأن العظام , من حيث يدري او لا يدري , والعباقرة عادة لايصنعون الأحابيل , بل يقعون فيها جبراً او اختياراً , لك ان تقول ما تشاء , ونحن نسجل , كان الرجل جريئاً , ولعله من أكثر شعراء العراق المعاصرين جرأة وصراحة , لايخشى لومة لائم , ولا صولة صائل , ينتفض ثائراً , وينطق هادراً , ويقذف بحممه وجهاً لو جه حتى تصل القمة : لهم ملك تأبى عصابة رأسه لها غيرسيف التيمسيين عاصبا لقد عاش في عزّ بحيث أذلّهم وقد ساءهم من حيث سرّ الأجانبا وليس له من أمرهم غير انّهُ يعدّد أياماً ويقبض راتبا تسألني هل نحن مع هذا الشعر ام ضده ؟ وهل عراقنا اليوم أولى بهذه الابيات أم عراق أيامه ؟! وهل كان الشاعر صادقاً في قوله أم منفعلاً في طرحه ؟! فالرجل ذهب الى رحمة الله , وصار في ذمة التاريخ , ويقال ان الملك فيصل اجتمع بالرصافي بعد ذلك فقال له : ( أأنا أعدّد أياماً واقبض راتباً يا معروف ؟ فأجابه : أرجو ان لاتكون منهم يامولاي ) , وانا الان لست محللاً سياسياً , بل ناقداً أدبياً , وأفسر الأمر من حيث هو , لا من حيث أنا وانت , والذي أريد ان اقوله في هذه النقطة كان الرجل جريئاً وفي منتهى الجرأة , ومن هنا جاء العنوان ( من ثورة شموخه ) , واذا تريد أكثر , فلنرجع الى الخلف سنلاحظ ,إن الرصافي الشاعر الوحيد الذي طالب بخلع السلطان المستبد عبد الحميد عقب إعلان الدستور ( 10 تموز 1908م) أقرأ معي : في شهر تموز صادفنا لما وعدت بيض الصوارم بالدستور تنجيزا امست لنا قسمة بالملك عادلة حكماً وكانت على علاّتها ضيزى قمنا على الملك الجبار نقرعهُ بالسيف منصلتاً, والرمح مهروزا فالشاه في شهر تموز ٍ هوى وكذا عبد الحميد هوى في شهر تموزا بل ذهب أيضاً الى اكثر من هذا .. الى مقارعة الدولة العثمانية بأسرها يقول في قصيدته ( تنبيه النيام ) : عجبت لقوم يخضعون لدولةٍ يسوسهم بالموبقات عميدها وأعجب من ذا أنّهم يرهبونها وأموالها منهم, ومنهم جنودها ونحن نعذر , ولا نعجب من الرصافي , اذ كان من مؤيدي هذه الدولة المستبدة في طور من أطوار حياته , وبعد ( تنبيه النيام ) ! حتى انه وقف ضد الاصلاحيين العرب في بلاد الشام , فبعد ان مدحهم في قصيدته ( في معرض السيف ) , نجد انه قد هجاهم بمرارة في قصيدتهِ ( ما هكذأ ) و ( في ليلة نابغة ) , لذلك كتب عنه الشيخ محمد رضا الشبيبي بقساوة لاتتحمل , منها ( وكان موقف الرصافي من هذه الحركة موقف الخصم الشديد ,وهو لا يقل عن موقف أي تركي معتز بنعرته القومية...) , ويقصد الشيخ ( حركة الاصلاح ) , ولا نريد الاطالة في هذا الموضوع لانه خارج بحثنا , ولكن لكي لا يقال عن كاتب هذه السطور تناسى , ولكن مرة اخرى تجب الاشارة الى ان ليس كل الحق مع الشيخ الشبيبي , فالرصافي عاش عصره , زمن الهيمنة الفرنسية والانكليزية على الوطن العربي , وكان الرصافي يرى من المنظور التاريخي والاسلامي ان العثمانيين أقرب الى العرب , ولاسيما عندما عقد الاصلاحيون مؤتمرهم في باريس في 17حزيران /1912 م ,فوجد في ذلك تعاوناً مع الاجنبي ,ورؤية الرصافي استمرت لدى بعض العراقيين حتى أن ثورة النجف التي قادها نجم البقال سنة 1917 تصب في هذا الأتجاه , على كل حال , يقول شاعرنا في ( ما هكذا ) : لو كان في غير ( باريز ٍ ) تآلبهم ماكنت أحسبهم قوماً مناكيبا لكن ( باريز ) مازالت مطامعها ترنوا الى الشام تصعيداً وتصويبا هل يأمن القوم أن يحتل ساحتهم جيشٌ يدكّ من الشام الأهاضيبا وصدقت نبؤته من بعد , إذ دكّ الفرنسيون هضاب الشام , وقدمت الشام الآف الشهداء في سبيل نيل حريتها واستقلالها ,وهذا لا يعني الاتراك كانوا أرحم على العرب من الفرنسيين , ولكن أيضاً يجب ان نتذكر ظروف الرصافي وعصره , اذ كان يعيش في عاصمة الدولة العثمانية , ويأخذ المعلومات والحقائق عن طريق الحكام من الاتحاديين , وهم وصحافتهم وبياناتهم كانت مصدر الانباء بالنسبة له ولغيره , وكان يسمع فقط وجهة نظر الحكام مدعمة بالوثائق والأسانيد , ولا تصله أنباء ما يجري في الولايات العربية الاّ عن هذا الطريق , وألا فالرجل شعلة خالصة من الوطنية والاخلاص والحب لقومه لا تشوبها أيّة شائبة : يابني يعرب ما هذا المنام أو ما أسفر صبح النوّمِ ِ ؟ أين من كان بكم يرعى الذمام ويلبّي دعوة المهتضمِ أفلا يلذعكم مني الملام فلقد ألفظ جمراً من فمِ نرجع الى سيرة حياة شاعرنا ,لنتابع معه رحلة العمر , إذ تركناه قد تخرج أيدي شيوخه ,فنحن الآن إذن في بدايات القرن العشرين ,حيث يمارس شاعرنا مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية ببغداد ,ثم ينتقل الى مدرسة ( مندلي ) لمدة سنة دراسية , ويعود بعدها الى بغداد ليحاضر في إحدى المدارس الثانوية في الأدب العربي ,وينظم أثناء ذلك أروع القصائد في الأجتماع والثورة على الظلم , ويبعثها للنشر في الصحف المصرية ,وخاصة جريدة ( المؤيد ), ومجلة (المقتطف ) وغيرهما , وكان يرتدي حينذاك العمامة والجبة , ولم يكن الرجل في بحبوبة من العيش الرغيد, والعمر السعيد ,بل كان فقيرا , لا تسعفه ذات يد , وكم مرة صارع هوى نفسه , فتغلب عليه , واخضع رغبته وشهوته , لشهوة حالته المادية : واقنع بالقوت الزهيد لطيبه حذار وقوعي في خبيث المطاعم ِ واترك ما قد تشتهي النفس ميله لما تشتهيه قلّة في دراهمي بقى شاعرنا في وظيفته التعليمية حتى ( تموز 1908م ) , اذ أعلن الدستور العثماني , فترجم للعربية النشيد الوطني العثماني الذي وضعه الشاعر التركي المشهور ( توفيق فكرت ) , مما أدى الى زيادة شهرته , وتغلغل نفوذه في عاصمة الدولة العثمانية , وشيوع ذكره اكثر فأكثر في جميع انحاء الوطن العربي , فأختير رئيساً لتحرير القسم العربي في صحيفة ( بغداد ) وهي اول صحيفة أهلية غير رسمية تصدر في بغداد ' وقد أصدرها فرع جمعية الاتحاد والترقي , ( صدر العدد الأول منها في ( 6 اب 1908 م ) باللغتين العربية والتركية , ووردت إليه دعوة من ( أحمد جودت ) صاحب صحيفة ( إقدام ) التركية ليعمل محرراً في صحيفته , فشدّ الرحال الى الاستانة في أوائل ( 1909 م ) على ما أرجح , ولما وصل اليها خذله صاحب الدعوة , فرجع خائبا مرورا بسالونيك وأثناء وجوده فيها سمع بإنتصار المستبدة , والغاء الدستور , وحل مجلس ( المبعوثان ) , وذلك في 31 آذار 1909 م ,فذهب شاعرنا الى بيروت , وأعوزه المال هناك ,فبادر السيد محمد جمال الدين صاحب ( المكتبة الأهلية ) في بيروت الى شراء مجموعة شعره التي صدرت باسم ( ديوان الرصافي ) عام 1910 م وهو أول ديوان يطبع له , وعاد الى بغداد وعلى الأرجح الى العمل في رئاسة تحرير القسم العربي بصحيفة ( بغداد ) الى أواخر أيامها , ثم سافر الى اسطنبول ( ألآستانة ) مرة ثانية , وتولى رئاسة تحرير صحيفة ( سبيل الرشاد ) العربية أثر برقية جاءته من ( جمعية الأصدقاء العرب ) , وكُلف هناك بإلقاء محاظرات في ألأدب العربي في مدرسة الواعظين التابعة لوزارة الاوقاف , وكان الرصافي يتمتع بمنزلة اجتماعية رفيعة , وقام بتدريس طلعت باشا وزير الداخلية ,وكان هذا العمل على مايبدو هو سبب في اختياره نائباً في مجلس المبعوثان ( النواب ) العثماني عام 1912م وذلك عن لواء المنتفك , ونستنتج من شعره انّه كان عضواً فعّالاً متكلماً يبدي رأيه بجرأة , حتى انه يستهزأ من نواب بغداد الصامتين في المجلس ( هو محسوب على نواب المنتفك ) , فعندما يهجو رجلاً مغروراً جاهلاً يشبهه بنواب بغداد قائلاً : وشامخ الأنف ما ينفكّ مكتسباً ثوب التكبّر في بحبوبة النادي قد لازم الصمت عبئأً في مجالسه كأنما هو من نواب بغدادِ وفي ذلك الحين تزوج شاعرنا الكبير ثيباً من بنات أزمير اسمها بلقيس ,شقيقة طبيب تركي مشهور يدعى الدكتور( أكرم أمين بك ) , وهي زوجته كما يزعم بعض المؤرخين , فالشاعر يروي لنا ساعة توديع زوجته حين اضطر الى مغادرة الاستانة بعد خرابها , حيث أصبحت شبح عاصمة لمملكة كانت كبرى , وأصبح هو بين أحضان شعب يعاني من مرارة الهزيمة , وذلك بعد الحرب العالمية الاولى قائلاً : تقول ابنة الأقوام وهي تلومني وأدمعها رقراقة في المحاجرٍ ِ الى كم تجدّ البين عنّي مسافراً أما تستلذ العيش غير مسافرِ ولا غرو أن أبكي أسى من بكائها فأعظم ما يشجي بكاء الحرائرِ وقلت لها : انّيِ امرؤ لي لبانة ٌ منوط ٌ مداها بالنجوم الزواهرِ تعوّذت الا أستنيم الى المنى وآلا أرى الاّ بهيئة ثائرِ ِ لا طلاق ولا هم يحزنون , هذا بكاء من الطرفين , وهذا اللوم والعتاب وانكسار الخاطر , والشاعر يطمح للنجوم الزواهر , وان يرى بهيئة ثائر , وتحت قدميه ركام الاستكانة , وأمامه شحوب الآستانة , وراحل الى المجهول ,لا أهل ولا سكن ! تركها في الآستانة , وعند مكوث الشاعر في بغداد ,رغب بالعودة اليها ' وطلب سلفة على رواتبه لتذليل عقبات السفر ولكنه لم يوّفق لما أراد : قد عاقني الإملاق عن سفري الى من طال معتلجاً اليه حنيني وانا المشوق , ولست ممن شاقهم بقر العذيب ولا مها يبرين لكن قلبي لايزال يشوقه ظبيّ ٌ أقام بدار قسطنطين المهم شاعرنا قرر الرجوع الى وطنه, ولكن العراق أيضاً تحتله القوات الانگليزية أحتلالاً عسكرياً , فما العمل ؟ ! يمم وجهه شطر دمشق , ومنها الى القدس حيث جاءته دعوة للعمل كمدرس بمدرسة المعلمين في القدس الشريف , فأشتغل هنالك بالتدريس من سنة ( 1918 – 1921 م ) , وكان موضع تقدير في مجتمع مدينته المقدسة , فدعي الى المآدب والاحتفالات , وطلب اليه أنشاد الشعر , ولكن لم تهز ّه أحداث العراق ,فلم يشارك في الثورة العراقية الكبرى عام 1920 ,فلم نعثر على أي قصيدة له فيها . . ورجال الثورة وافقوا على تنصيب ( فيصل ) ملكاً على عرش العراق ,وهو قد هجا من قبل والده الشريف حسين بأبيات قاسية , لذلك عند عودته للعراق سنة ( 1921 م ) لم يسعفه الحظ الاّ بوظيفة دون طموحه الكبير , وأقل مما يستحقه بكثير , وهي وظيفة ( نائب رئيس لجنة الترجمة والتعريب في وزارة المعارف ) , فقضي فيها نحو سنة ونصف , واثناء وجوده ببغداد , أقام المعهد العلمي حفلة تكريمية لأمين الريحاني ( ايلول سنة 1923 ) ألقى الشاعر فيها قصيدة تعد من غرر قصائده فما أحوجنا اليها في هذه الايام الحالكة : لو ما ترى قطر العراق بحسنه قد فاق مقفره على مأهولهِ فلقد عفا المجد القديم بأرضه وعليه جرّ الدهر ذيل خمولهِ واذا نظرت الى قلوب رجالهِ فأنظر حديد الطرف غير كليلهِ تجد الرجال قلوبها شتى الهوى مدّ الشقاق بها حبالة غولهِ متناكرين لدى الخطوب تناكراً يعيا لسان الشعر عن تمثيلهِ فالجارُ ليس بمأمن من جارهِ والخلّ ليس بواثقٍ بخليلهِ واذا تكلم عالمٌ في أمرهم حفروا ذمام العلم في تجهيلهِ حالٌ لو افتكر الحكيمِ بكنهه طول الزمان لعُيّ عن تعليلهِ من أين يرجى للعراق تقدمٌ وسبيل ممتلكيه غير سبيلهِ لا خير في وطن ٍ يكون السيف عند جبانه , والمال عند بخيلهِ والرأي عند طريده والعلم عند غريبه والحكم عند دخيلهِ وقد أستبد قليله بكثيرهِ ظلماً وذل كثيره لقليلهِ اني اذا جدّ المقال بموقفٍ فضلتُ مجمله على تفضيلهِ