اعتاد متلقي الشعر العربي إلى حدود منتصف القرن الثاني الهجري على شعر نمطي يسير على طريقة واحدة و يخضع لبناء لا يختلف في سائر القصائد إلا في النادر،وقد كان الشعراء يسيرون على الطريقة التي اختطها الأسلاف و ارتضاها نقاد الشعر وعلماء اللغة،وهكذا حرصوا على تقيل خطى من سبقهم، وعد النقاد الملتزم بعمود الشعر جديرا بأن يسمى شاعرا مقدما ،أما من سولت له نفسه التطاول على طريقة الأسلاف في طريقة قول الشعر وبناء القصيدة فقد جر على نفسه الويل والثبورمن لدن النقاد الحارسين للقديم الرافضين لكل دعوات التجديد. أولى المحاولات التجديدية:-1 يكاد لا يختلف اثنان أن أية محاولة تجديدية في أي مجال من المجالات تلقى في البداية مقاومة ورفضا وهي لعمري ظاهرة صحية ومسألة عادية،ذلك أن التعود على أمرما والسير على نهج معين زمنا طويلا يجعل تقبل غيره لا يستساغ خاصة في الوهلة الأولى، لكن مع مرور الزمن يعاود المرء النظر في أحكامه ويقبل على ما كان قد رفضه بالأمس،وكان هذا ديدن كثير من الناس في عصر حكم بني العباس ، ويمكن إرجاع أولى المحاولات التجديدية الرامية إلى الانفلات من ربقة القصيدة الجاهلية ما قام به أبو نواس، الذي سعى جاهدا على أن يجدد في مقدمات القصائد و الأغراض الشعرية، حيث وجدناه متيما بالمقدمات الخمرية وهازئا بأسماء النسوة اللائي كان يرددهن الشعراء مفضلا التغزل في الوقت نفسه بالغلمان،ولعل رغبة أبي نواس وإصراره على الثورة على المقدمة الطللية والغزلية نابع من قناعة مفادها أنه لا يمكن أن يصف ما لم يره ،فهو يعيش في بيئة حضرية حيث البنايات والرياض والحانات فلا يعقل في تصوره أن يصف النؤي والديار الدارسة ويبكي هندا أو دعدا،وقد جر عليه هذا الاستهزاء بالأسلاف ويلا وثبورا فأنبه هارون الرشيد على ذلك فما كان من أبي نواس إلا أن اعتذر لإساءته للأطلال المقدسة راجعا عن غيه الذي ارتكبه فقال: أعر شعرك الأطلال المنزل القفرا فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا دعاني إلى وصف الطلول مسلط لا أملك أن أرد له أمرا ولا شك ان اعتذار أبي نواس عن عدم وصفه للأطلال وجعل شعره حكرا على وصف الخمرة كان بدافع الخوف أو ما يسمى بالتقية، ولم تقف المحاولات التجديدية عند هذا الشاعر بل تجاوزته إلى شعراء مجان آخرين كوالبة بن الحباب وأبي العتاهية الذين خلصوا الشعر من صلابته ورصانته المعهودة وأخذوا ينظمون على البحور المشطورة والسريعة والمنهوكة تماشيا مع جو اللهو والمجون والعبث. ويعد بشار أبا المحدثين وأول المجددين يليه مسلم بن الوليد الذي يعد أول من فتق باب البديع وهو أستاذ أبي تمام رائد التجديد والتحديث آنذاك،وقد استطاع هؤلاء الشعراء وغيرهم بما أوتوا من براعة وحذق وشاعرية قل نظيرها أن يحدثوا خلخلة وزلزالا في الساحة الثقافية ،وبما أنه لكل محاولة تجديد ضريبة غالية فقد دفعوا الضريبة من الهجمات التي لم ين أنصار القديم في توجيه سهامها المصمية صوب إبداعهم إلى أن وصل الأمر بهم إلى التشكيك في شاعريتهم واعتبار ما يقولون ضربا من الخطب التي ليس لها من فضل سوى كونها موزونة. إن قراءة عميقة لردة فعل أنصار القديم ليبرز قوة الهزة الفكرية التي تعرضوا لها ، لذا ينبغي ألا نعجب من هجومهم الشرس على كل محدث، فبقدر قوة الهزة تكون قوة ردة الفعل،وإذا كنت ردة الفعل قد انحصرت في أحيان كثيرة في مقاطعة أشعار هؤلاء وعدم روايتها، فقد انتقلت إلى ما هو أخطر من ذلك وهو أن علماء اللغة لم يتخذوا من أشعار أبي نواس ولا مسلم ولا أبي تمام مرجعا لغويا استشهاديا مقتصرين على شعراء ما قبل 150 ه، إلا ما حدث مع بشار الذي احتج سيبويه بشعره اتقاء لقوارص هجائه،ويحدثنا الأصمعي أنه جلس إلى أبي عمرو بن العلاء الذي عرف بميله لنصرة القديم فما سمعه يحتج ببيت إسلامي قط ،وقد كان عمرو بن العلاء معروفا بعدائه للقديم وميله الشديد عن الحديث فهو القائل :"ما كان من حسن فقد سبقوا إليه،وما كان من قبيح فهو من عندهم" ،وعلى الرغم من أن أبا نواس ومثله أبو تمام كانا إمامين في اللغة لم يحتج علماء اللغة بأشعارهم، ولكي يبعدوا عن أنفسهم تهمة الإساءة إلى هؤلاء وضعوا شرطا زمنيا للاحتجاج والاستشهاد . 2- أبو تمام وتهمة الإساءة للأسلاف: اختط ابو تمام لنفسه طريقة مختلفة في النظم والإبداع عن القدماء وهو ما جر عليه الويل والثبور واتهم بالخيانة العظمى ، واتهم تبعا لذلك بالإساءة والعقوق لمن سبقه من الشعراء وكأن البر لا يكون إلا في تقليدهم والسير على نهجهم وعدم الميل عن الجادة التي رسموها، وهكذا كان أول اتهام جوبه به هذا الشاعر هو انقلابه على عمود الشعر الذي اتخذه النقاد معيارا للحكم على الأشعار بالجودة أو الرداءة ،على الرغم مما قد يوحي به التزامه بالبناء العمودي والأوزان الخليلية المعروفة والأغراض الشعرية الموروثة ،وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة فما الداعي إلى هذا اللغط والصراع؟ إن تتبع إنتاج أبي تمام ومعه ملاحظات معارضيه يبين أن الصراع ينصب على تجديد أبي تمام في أشكال البديع، خاصة ،في مجال التصوير فقد أتى باستعارات لم توجد قط واخترع مجازات غريبة ما خطرت على قلب شاعر بالمرة من ذلك قوله: لا تسقني ماء الملام لأنني صب قد استعذبت ماء بكائي هنا أتاه رجل بكأس طالبا منه أن يملأها له بماء الملام فقال له أبو تمام في إجابة تكشف عن فرط ذكاء وبلاغة : حتى تأتيني بريشة من جناح الذل في إشارة إلى الآية المعروفة، هنا نستفيد أن أبا تمام في استعاراته وتمثيلاته لم يكن يخرج عن محاولة تقيل طريقة القرآن التصويرية والتعبيرية. وتتكرر مثل هذه المواقف كثيرا مع هذا الشاعر دون غيره ، ولعل السبب في ذلك إما الرغبة في الإحراج أو الحسد من قدرته الفائقة على الإتيان بأشياء لم تجر بها العادة أو استعصاء شعره على الفهم،لهذه الأسباب وغيرها كانت العلاقة بين أبي تمام (الشاعر) ومن لا يستسيغ شعره(المتلقي ) مبنية على التوتر، وفي اعتقادي أن المبدع لا يمكن ان يرضخ لشروط قبلية استنها أناس عاشوا في عصر مغاير وإلا لم يسم ما يقوله إبداعا ،ثم إن المتلقي أيا كان-ناقدا ،لغويا،جمهورا- عليه ان يدرس إبداع الشاعر كما أنتجه وألا يفرض وصايته القبلية عليه وكأنه قاصر أو يحتاج لمن يوجهه،وأظن أن أبا تمام كان مدركا لهذا الجانب لذلك استغل ثقافته الواسعة وموهبته الفذة وبلاغته في إخراس الألسنة التي تلوك إبداعه،وهكذا كان يبدع دون أن يبالي بانتقادات الآخرين الذين غالبا ما تحركهم دوافع لا علاقة لها بالنقد العلمي. 3- الحرس القديم وأبو تمام
كانت علاقة أبي تمام بأنصار الشعر القديم ظاهرها الوفاق وباطنها التوتر ،فلم يكن هؤلاء يرون في إبداعه شعرا يستحق عليه الثناء، لا لشيء إلا لأنهم يعتبرون الشعر الجاهلي والإسلامي النموذج الذي ينبغي أن يحتذى والمثال الذي يجب ان يقتفى ،وهكذا رأيناهم يحكمون أحكاما مختلفة على شعره فهذا أبو حاتم السجستاني يقول" ما أشبه شعر هذا الرجل إلا بخلقان لها روعة،وليس لها مفتش" ،أي إن شعر الرجل لا يصمد للتجربة وسرعان ما يخفت بريقه ويذوي غصنه، ومعلوم أن حكما مثل هذا لأبي حاتم السجستاني يحترز منه لأنه كان لا يفهم كثيرا من معاني شعر أبي تمام، والمرء عدو ما يجهل. وقصة أبي تمام مع ابن الأعرابي تنحو هذا المنحى، فالرجل لا يعجبه العجب ودائم الوقوف في صف المعارضين له بل هو قائدهم كيف لا وهو القائل "إن كان هذا شعرا فما قالته العرب باطل" ، فقد أطلق هذا الحكم التاريخي في سياق سماعه لشعر لم يستسغه ،شعر يخالف ما تعود عليه ، وهو ما أحدث صدمة ورجة خلخلت كل معلوماته عن الشعر،وإذا كان ابن العرابي عالما لغويا متعصبا لكل قديم فقد كان من الشعراء من يسانده في موقفه هذا وعلى رأسهم دعبل الخزاعي الذي كانت بينه وبين أبي تمام شحناء خفية ،ولهذا نعتقد أن آراءه النقدية فيه لا يبعد أن يحركها الحسد من اتساع شهرة أبي تمام،من ذلك قوله( لم يكن أبو تمام شاعرا،إنما كان خطيبا،وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر) ،ومما يؤكد تأثر حكمه هذا بما أسلفنا ذكره قول الصولي:(وكان يميل عليه ولم يدخله في كتابه الشعراء) ، وإضافة إلى اعتبار دعبل شعر أبي تمام كلاما عاديا يخلو من أي شعرية فقد اعتبر أن ثلثه هو الصالح فقط : (ثلث شعره سرقة،وثلثه غث-أو قال غثاء،وثلثه صالح) . ولعل ما دفع هؤلاء وغيرهم إلى التحامل على الرجل وشعره هو سنه لطريقة جديدة في الإبداع عجزوا عن اختراع مثلها كما عجزوا في وقت لاحق تمثلها في شعرهم،أضف إلى استشكال شعره عليهم خاصة إذا استحضرنا طريقة أبي تمام في توليد الصور واختراع التعبيرات الجديدة من ذلك قوله في قصيدته التي يرثي بها القائد محمد بن حميد الطوسي: كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فما لعين لم يفض ماؤها عذر توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر فالعين قد فاضت ماء وليس دمعا ،والآمال توفيت، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من مثل هذه الاستعارات البديعة. إن صدمة التلقي التي أحدثها شعر أبي تمام في عصره جعلت الكثيرين لا يفهمون شعره نظرا لتضمينه العلاقات المنطقية و غرابة التخييل وقليلا أو كثيرا من الفلسفة،الأمر الذي حدا ببعضهم أن يسأل سؤاله المشهور إما إحراجا أو لوما: (لم لا تقول من الشعر ما لا يفهم؟) ،فما كان من أبي تمام إلا أن افحمه بجواب بليغ قائلا: ( وأنت يا أبا سعيد ،لم لا تفهم من الشعر ما يقال). المصادر المعتمدة:
1-ينظر العمدة لابن رشيق،ج1 ص 90 2- نفسه ج1 ص 90-91 3- الموشح للمرزباني،ص 377 4- المصدر نفسه والصفحة نفسها 5- الموشح ً 377 6- نفسه 7- االموشح ًص 278 8- الموشح 406 9- نفسه -العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده،ابن رشيق ،تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد،دار الجيل،الطبعة 4، 1972 -الموشح مآخذ العلماء على الشعراء في عدة أنواع من صناعة الشعر،المرزباني،تحقيق علي محمد البجاوي،نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع،بدون تاريخ