يأتي هذا الموضوع ليعرض بين صفحاته قراءة لرهان الكتابة في رواية ( اللص و الكلاب لنجيب محفوظ ) ، و يرصد المرجعية الثقافية والظروف الأدبية التي تحكمت في تأليفها و إصدارها، و ذلك وفق الأهداف و رغبات الجيل الجديد التي صممت في المواقع الافتراضية و تزغمت شرارة الثورات العربية . هكذا يمكن القول ان ما راهن عليه نجيب محفوظ في عقد الخمسينيات من خلال ثنائية اللص و الكلاب ينطوي اليوم على رهان الفايسبوكيين في الالفية الاولى و لنا في دلك المقاربة التالية و الغبرة لمن اعتبر: 1 -الرهان الموضوعي : ويتجلى بوضوح في محاولة الكاتب ملامسة واقع المجتمع المصري في أعقاب ثورة الضباط الأحرار لسنة 1952م، من خلال سرد حياة (سعيد مهران) الذي راهن «على جمع الثروة وتحسين وضعه الاجتماعي انتقاما ممن سرقوا أحلام أمثاله وعمقوا الهوة بين الفئات الاجتماعية. وهذا ما قاده إلى غياهب السجن، ومن ثمة ارتدت آماله إلى الدرك الأسفل، وتعرضت أسرته إلى التمزق والانحلال. وبما أنه لم يجد أحدا يؤازره في محنته ويشد على يده فقد عادى الخلق وأصبح لا يثق بمودتهم. كان يتمنى أن تفتح أبواب السجن يوما لا ليغير حياته في الاتجاه الصائب، وإنما ليبث الرعب في وجه الخونة الذين مرغوا أنفه في التراب وحطوا من كرامته وكبريائه. فهو لم يستسغ أن تخونه زوجته مع صديق قدم له العون حتى اشتد عوده، ثم تجاهل فضله عليه»( ). -«ترى بأي وجه يلقاك ؟، كيف تتلاقى العينان ؟، أنسيت يا عليش كيف كنت تتمسح في ساقي كالكلب ؟، ولم تنس وحدك يا عليش ولكنها نسيت أيضا تلك المرأة النابتة في طينة نتنة اسمها الخيانة»( ). -«اجمعهم حولك يا جبان، إنما جئت أجس حصونك. وعند الأجل لا ينفع مخبر ولا جدار»( ). -«هذا هو رؤوف علوان، الحقيقة العارية، جثة عفنة لا يواريها تراب ...»( ). ويظهر أن الكاتب يتوخى من مقاربة حياة (سعيد مهران) استجلاء، «ما حصل من مفارقات بين شعارات الثورة، وآمال الجماهير العريضة، وإبراز ما آلت إليه أوضاع الناس من انحلال وسرقة وخيانة إثر انسداد الآفاق أمامهم، وتحول القيم الأصيلة إلى أوهام خادعة»( ). 2-الرهان النفسي : ويبحث عنه الكاتب في رحاب الواقع النفسي للفرد أيام الثورة، والذي يتأرجح بين الثبات على القيم النبيلة والتحول عنها إلى بدائل ذهنية وسلوكية سلبية تطبعها الانتهازية وسيادة المكر والخداع لبلوغ أهداف وقضاء مآرب شخصية ضيقة في تناقض تام مع مبادئ الثورة الناصرية ووعودها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبذلك، راهن الكاتب على فضح القيم الفاسدة في المجتمع المصري عن طريق مساءلة الواقع ومحاكمة رموز الفساد فيه، في زمن لا يأس له ولا يشعر معه بالاطمئنان، من خلال التعمق في شخصية البطل (سعيد مهران)، الذي تعرض لخيانات اجتماعية وسياسية، خلقت نموذجا بشريا دائم القلق والحيرة، مندفعا في عبث نحو الثأر والانتقام من أعدائه الخونة. فجعله يمثل رمزا للتضحية والفداء وخلاصا لملايين من البشر يعيشون مثله. «إن من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه»( ). 3- رهان الخطاب : لعل الكاتب راهن على التجديد في الكتابة الروائية، وراهن أيضا عل التجريب عن طريق الخروج على الأنماط التقليدية للرواية الكلاسيكية القديمة. هكذا، راهن على تكسير عمودية السرد فلون روايته بالأنماط الجديدة للرواية الحديثة، فأنتج نصا روائيا على مقاس آلان غوب، وجون ريكارد وباختين، وغيرهم من الروائيين الغربيين المجددين. ويمكن أن نجمل الأهداف التي كان يسعى الكاتب إلى تحقيقها فيما يلي : *-تكسير المبدأ الذي ألفناه في الرواية التقليدية التي كانت تجعل الشخصية المحورية (البطل) صائبة وخيرة ومنتصرة، وأن من يحارب الفساد في الأشرار سيفوز دائما. *-الانتصار للروح الجماعية والوعي الكلي، على حساب المحاولات الفردية لتغيير الواقع، واعتبار العمل الفردي والانتقام من أجل عنصر ذاتي (الثأر) فعلا فاشلا وعبثيا. «انقطع الأمل ونجا الأوغاد ولو إلى حين»( ). «ونجا الأوغاد وحياتك عبث»( ). *-الارتقاء بالعمل الروائي إلى المستوى الذي يؤهله على مساءلة الواقع ونقد الفعل فيه، ومحاولة إصلاحه، فضلا عن محاكمة رموز الفساد والخيانة. *-شجب «مؤامرة الصمت التي اجترفت طبقات اجتماعية وفئات من المثقفين وأعمتها عن فضح ما يحفل به الواقع الثوري من تناقضات صارخة ومشاكل متفاقمة وذلك حرصا على تحقيق أغراضها الشخصية»( )، تماما كما جسده في شخصية (رؤوف علوان). من هنا فإن أهم الأبعاد التي توحيها الرواية، أن نجيب محفوظ يميل فيها إلى الحديث عن الواقع الاجتماعي والسياسي لمصر، بعد ثورة جمال عبد الناصر على النظام الملكي، ومنها التركيز على تلك المفارقات الاجتماعية والنفسية التي أفرزتها التجربة الناصرية وهي في بداية مشوارها، بعدما علقت عليها الجماهير المصرية آمالا عريضة لترسيخ القيم الأصلية (المساواة والعدل والحرية وحقوق الإنسان ...) لكنها لم تكرس في سلطتها إلا ما يناقضها، بسبب تخلي رموز الثورة ودعاتها عن الشعارات البراقة التي خدعت بها عامة الشعب، فالتجأ إلى اللصوصية لاسترداد حقوقها (سعيد مهران وأمثاله) أو إلى الفساد والدعارة لتحقيق حاجاتها (نور وأمثالها). على أن أهم دلالة يمكن أن نستخلصها من الرواية هو أن نجيب محفوظ، جعل من "اللص والكلاب"، ذاكرة حية لرصد سلبيات الواقع المعيش، والانفتاح على أثرها في المجتمع المصري ومحاولة تجاوزها وإصلاحها. و بعد اليس ما كان بين اللص و الكلاب في مخيلة نجيب محفوظ هو نفسه سيتكرر مع نشطاء الفايسبوك و زعمائهم اخاف ان يعاد نفس السيناريو و لنا في ما بعد الهدنة كلمة الفصل .