مثل ذلك المعتقل القابع وراء القضبان في معتقل تقليدي ، كان يوما " قصر ضيافة " لأحد قواد الاستعمار، حاولت في خيالي التحرش بفتاة رسمتها بمداد قلمي الأسود. كنتُ مثله أقبع في زنزانة جسدي الرطبة، أقاوم رتابة الزمن المنسوج من نبضات قلبي البطيئة. أتطلع إلى الطيور المحلقة حرة في سماء فسيحة ، تطير بأجنحة الحرية و تدور حول نفسها دورانا بهلوانيا . و فتاتي بين أسطر كراستي تمشي الهوينى أمامي ، و تلتفت بين الحين و الآخر تختلس النظر إلي ، وترسم على طرف ثغرها ابتسامة الأميرات. هكذا أردتها " أميرة " فوق الأميرات.. أميرة ذات قسمات حبشية وجسد زنجي و لسان موريتاني ، تقرض الشعر وتغنيه بصوت " معومة بنت الميداح " . سميتها " خُنَيْسْ " . قلت لها : - واصلي المشي أمامي يا خُنَيْس . التفتتْ تتصنع الدهشة من الاسم . قلت : امش يا محبوبتي القادمة من" العقد الفريد" ، جسدك كلمات تغري بأنس الليالي في فيينا . تحرشَ بك قلمي و أنا أركب الحافلة . أجلستك مكاني على المقعد الذي قمتُ منه إجلالا لك مقابل ابتسامة ناطقة بعشق ضيعته ثلاثة عقود قد خلت .. أعرف ابتسامتك منذ صغري .. راقبتك تحملين أسطل الماء من الحنفية الوحيدة في الحي عبر مسافة الزقاق المترب . كنتِ تمشين على سجاد أحمر نسجته لك من شرايين قلبي .. وكنت تتعمدين دلق الماء ، لتعاودي المرور أمامي ثانية و ثالثة ، وأنا أبحث في القواميس عن كلمات الاستجداء لأبني منها جسرا معلقا للوصول إلى قلبك ، ثم أهدم الجسر لأقطع الطريق على من حاولوا الوصول إليك . شاهدتك يا خنيس ، ترقصين في الأفراح العائلية و ترددين أغاني " المعلومة بنت الميداح " و " هيام يونس " . كنت شعلة من نور عَلِيَتْ في العليين ، و خلبتْ عقول أولائك الذين عادوا من المهجر .. تسابقنا عليك .. خطبوك الواحد تلو الآخر من نفسك ومن أهلك . قَبِلَ أهلك ورفضتِ أنت لأني أردتك أن ترفضي بحبر قلمي الأسود ..
ها أنت الآن تتحفزين للنزول من الحافلة .. ترددتُ في النزول وراءك . و أشرتِ إلي أن أجلس مكانك والحافلة لم تتوقف بعد . وجلست ، فأحسست بحرارة جسمك الملتهب تأمرني بالنزول وراءك فنزلتُ ، وبحثت عنك بين النازلين و علامات الاستفهام تتطاير أمامي كفراشات الأدغال . توقظني من حلم اليقظة هذا . وتساءلت إن كنت أعاني من عقدة في هذا السن المسكون بالإحباطات العاطفية الملعونة . " فاتك الركب أيها الهرم " . وعاتبت نفسي بنفسي على هذا اللّغو الصبياني، كيف أهدر فيه قلمي ، وكأن نبع المواضيع قد جفّ ، ولم يبق إلا هذا الموضوع . لتظهري لي في نهاية الشارع . انعطفتِ يمينا ، فناديتك بأعلى صوتي المبحوح .. جريت وراءك .. رأيت طيفك يركب سيارة يابانية رباعية الدفع . تجمدت أوصالي و تساءلت كيف لك أن تفلتي من قلمي ، و تتحولين إلى كائن من لحم و دم ؟. ضغطت على القلم فتوقف محرك السيارة أو هكذا تخيلت . و فتحت الباب لأسحبك ، لكنك لم تكوني أنت . كانت فتاة أخرى تلبس نفس ملابسك .. جريت إلى المنعطف الآخر من الشارع أبحث عنك .. غبت عني في لمح البصر ، فلم أعثر عليك .. وتذكرت أقصر طريق يمكنني من الوصول إليك .. آثار قدميك .. ستكون بلون الحبر .. أنت كائن حبري . أيا خنيس !!