لا حاجة للقول إن للفظ الموضوعية تثمينا بالغا عند أتباع مناهج الفكر الوضعي ومعاييره المعتمدة في المفاضلة بين النتاجات المعرفية. فمنذ إعادة التأسيس العلمي الوضعي لمعارف الإنسان عن الوجود، اتخذت الموضوعية طابع الشرط المعرفي الضروري لتحصيل المعرفة العلمية والقطع مع المعارف العامية والذاتية. فالفكرة وإن كانت من إبداع ذات، فإنها لا تصير «علمية» إلا إذا تحررت من ذاتية مبدعها؛ لأن الموضوعية –لاحظ اشتقاقها اللغوي - تحيل على الموضوع، وفي ذلك توكيد على أنها المعرفة التي تتحرر من أهواء الذات، وتأخذ معنى موضوعها منه هو ذاته، لا من الذاتية العارفة، وإسقاطاتها الشعورية والذوقية... في هذا السياق ومع تأسيس المنهج التجريبي تم وضع الملاحظة بوصفها المنطلق المعرفي الأساس في عملية التفكير العلمي، وأولوية الملاحظة معناها عند أحد أهم مؤسسي الفلسفة التجريبية (فرنسيس بيكون) هي «الإنصات إلى الطبيعة». ولتقريب ذلك يمكن أن نقدم هذا المثال للإيضاح: بدل أن تستمر البشرية في النظر إلى القمر بذلك المسبق الشعري أو الميتافزيقي الذي يخلع عليه من المعاني ما يجعله كائنا نورانيا، أو حتى عقلا مفكرا – كما هو زعم الفلسفة الإغريقية – يجب ملاحظته ابتداء دون إسقاط تلك المسبقات الجاهزة. وعند الملاحظة وتدقيق وسائلها وأجهزتها تبين للوعي البشري أن القمر مجرد كوكب صخري مظلم لا نور لديه ليضيء به، فضلا عن بصيرة يعقل بها ويفكر! إذن فالقطع مع هذه التمثلات الميتافزيقية الشاعرية لم يتحقق إلا بفضل الملاحظة الموضوعية. غير أن هذا المثال الذي أوضحنا به فضل الملاحظة العلمية هو من التبسيط بحيث يستسهل فكرة الموضوعية، ويخفي الكثير من إشكالاتها! ولبيان ذلك يمكن أن نشير هنا إلى: أولا من الخطأ والإعتساف على تاريخ الفكر الإنساني الظن بأن الملاحظة لم تبدأ إلا مع التأسيس الميتودلوجي للمنهج التجريبي. ثم ثانيا إن الاعتقاد بأن عملية الملاحظة في مأمن تام من المسبقات هو اعتقاد يفتقر إلى الحس النقدي. فعندما نراجع الكثير من الملاحظات العلمية سنجد أنفسنا مضطرين إلى استعادة القول الكانطي «إننا لا نجد في الأشياء إلا ما سبق أن وضعناه فيها». وإذا كان كانط قد قصد بقوله هذا الإشارة إلى الدور القبلي للمقولات، فإن مراجعة محصول الفكر العلمي وتاريخية تطوره، يثبت أنه حتى الملاحظات المجهزة بأدوات عملية دقيقة لا تخلو من موجهات معرفية مسبقة تحرف الاتجاه نحو مسارات خاصة. ثم ثالثا : إن الوعي العلمي – كما الوعي الفلسفي – يسكنه اعتقاد بأن الواقع الملاحظ طبقات عدة، إنه ظاهر وباطن، أو بلغة كانط إنه «فينومين (ظاهر)» و«نومين (شيء في ذاته)». والظاهر من الواقع لا يعبر عن حقيقته؛ لأنها أخفى من أن تعطى على السطح! وهذا الفارق الذي يقسم كينونة الواقع الموضوعي بين ظاهر خادع وباطن تحايثه الحقيقة، ليس فقط فكرة علمية، أو فلسفية، أو صوفية... بل تبدو عنصرا مكونا لبنية التفكير البشري، حيث نجده حاضرا حتى في الفكر العامي. إن ثمة اعتقادا راسخا في نظام التفكير البشري ينزع إلى اعتبار أن الحقيقة توجد في الماوراء! إنها ماوراء المعطى الحسي المباشر، ومارواء الكينونة المادية الظاهرة، وماوراء العالم! أجل إن الحقيقة عند مختلف تجليات الفكر ومذاهبه غيب يتخطى المشاهدة السطحية!