كنت أتقدم ببطئ بعد أن أنهكتني ثماني ساعات متواصلة من الوقوف قبالة آلة تتحرك كالبرق وكان العمال يقفون أمامها متسمرين بحركات ميكانيكية تقوم على لفّ ألياف رفيعة من سيارة " البولو " polo وقد تمسخت إنسانيتهم وهزلت أجسادهم . كانوا مثل روبوات مجنونة برمجت على الطاعة العمياء . وكان "ش " يبدواْ مثل جزار " بطبلية " بيضاء تحمل شارة مميزة تشبه شارة جندي تافه يستعرض عضلاته النحيلة ليرضي أسياده وقد انتفخ مثل قط جبان أمام كلب من فصيلة " البيتبول " .
وكان العمال الذين يشبهون العبيد في مملكة يحكمها السيد الرأسمالي مثل أفواج تسوقها لقمة العيش الذليلة إلى الإنبطاح أمام سيل قاذف من التجريح والإهانة المتعمدة والإنسانية المهدورة وتذكرت في خطواتي تلك المقولة التي تقول " إن قطعان الخراف غالبا ما تألف سكين الجزار " .
وتقدم " ش" والذي يحمل من التسميات في عالم العبيد " الشاف " وقيل في رواية استهزائية " الشاف لي ما شاف والو " إنه كان ينادي القطعان البشرية بصرخات ترتج لها الجبال حتى أني سمعت همسات العامل الأول الذي قال : - إنه كعادته يستأسد علينا . قال الثاني : - ربما يكون قد أحس بوجود " المانجير "managers . رد الثالث : - دعكم منه إنه مجرد " نكافة " .
وكنت قد وصلت إلى أحد الأبواب التي كان يتدفق منها سيل بشري هادر. منهم من يدخل ومنهم من يخرج بعد انتهاء فترة عمله / استعباده وكان البعض يبدوا شاردا تائها وأنا منهم حتى أني تمنيت أن أخرج من هذا الجحيم المستعر الذي كان أشبه" بمعتقل للنازية " وتذكرت أن صاحب المصنع رجل ألماني طويل القامة أشقر الشعر أبيض البشرة برغماتي الطباع لا يفرق بين عامل دول العالم الثالث والمادة الخام .
وأخيرا انتبهت أني وصلت لمكان يسميه العمال " البستير " وهو مكان به أقفاص حددية يسمونها " البلاكار " placar وكان المكان شبيها بسوق شعبي تعمه الفوضى من كل جانب بعد أن تحلق العمال حول "سبورة" أو لوحة تعرض بعض الملصقات والمناشير .
وبعد برهة تخلصت من زي العبيد واستبدلته بزي أخر وأسرعت بالركوب هربا من الضجيج الذي نغص حياتي . وكان زميلي يدخن سيجارته الشقراء رغم أني أعلم أنه ليس من نادي المدخنين حتى أني عرفت السبب بعد أن لمحته يحادث فتاة يعتبرها محبوبته . وضحكت لمنظر زميلي الذي اختزل الرجولة في سيجارة شقراء حتى أني تركته وجلست في مقعدي بعد أن استسلمت لغفوة مفاجأة لم يوقظني منها إلا صوت أغنية جميلة لمجموعة لرصاد " ظلومنا " ...