كان شديد الإضراب عن الطعام، شديد التضامن مع مُنتهي المدينة ولم يبخل عليهم بالندب والتضامن عقب كل كبيرة وحقيرة من آفات الحي الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، أما الثقافية فمازال علمها عن الرب وحده. عندما قامت رئاسة البلدية بإنجاز مشروع الهدم المجيد الذي طال ما يسمى "دار الثقافة"، قصد تحويلها إلى "دار العجزة"، قام أبو قمامة الجوي بتنظيم تلك المسيرة السوداء التي جاءت على وزن المسيرة الخضراء وذهبت على وزن هولاكو. جاءت عملية الهدم في إطار الاستجابة الشاملة لموضة العصر الحديث ومن بينها إنشاء دور العجزة التي انتشرت في مختلف أصقاع الغرب على الأقل. ولقد كان على رئيس مجلس المدينة أن يواكب عصر العولمة على هذا الصعيد، بالإضافة إلى غير ذلك من المخططات و الأوراش المفتوحة هنا وهناك، حتى يستكمل عناصر الانفتاح بالمدينة وقيادتها على باقي الكون من خلال حسن التفاعل مع التحولات والفتوحات الحضارية العالمية. لما تناهى ما قذفته مقاليع الأحداث إلى مسامع سيادة الرئيس وعلم بأن عدد قراء المدينة لا يتجاوز نصف واحد في الألف، وأن هذا النصف لا يعدو أن ينقسم إلى نصفين فرعيين حتى تستقم النسبة في علاقتها بالواقع التعيس، لم يكن منه إلا أن أقدم على إنجاز هذا المشروع مع العلم أن النصف الفرعي (ربع القارئ في الألف) لا يقرأ غير المصحف الشريف دون أن يتمكن من فهم الفرق بين الناسخ والمنسوخ ولا التباين بين المحكم والمتشابه، بل إن ذلك لا يعنيه وكفى، أما الربع الثاني فلا يهمه أكثر من ترديد البرهوتية خلف أسراب الشياطين المفلسة مثل المعظم الماحق من منتهي الوطن و"شمكارته". لما ارتأى الرئيس بأن مواكبة الموضة الغربيةالجديدة، المتمثلة في مشروع بناء دور العجزة، خطة لا بد ولا بأس منها لم يقبل الأهالي طبعا ولذلك دعوا إلى تنظيم مسيرة سوداء لكي يحتجوا من خلالها ويضعوا حدا لعجرفة الرئيس. كان أبو قمامة الجوي في مقدمة هذه المسيرة التي تقرر في ثناياها الانطلاق من قعر المدينة إلى قمة المجلس الجهوي. والحق أن الحشد لا يضم فردا واحدا له ما يكفي من العلم بأن هناك عاصمة للبلد. كان الوعي الجغرافي عند أذكى الحشد يقاس بالأمتار وليس بالفراسخ. هم يعكسون أوطانا مقتضبة وهناك من لا يفرق بين كاليفورنيا وزمبابوي، لا بل هناك من اعتقد، ذات ضلال بعيد، بأن البرتغال قبيلة تقع في هملايا على أن الأخيرة ربما توجد في السماء أو في مكان لم يصل إليه ذو القرنين في رحلة نزهته الشهيرة التي كاد يختتم وقائعها حالما ارتطم بقبيلتي ياجوج وماجوج فما بالك لو ارتطم بهؤلاء المحيطين بأبي قمامة الجوي. زمخر الكل وزمجر الجمهور الغفير منهمرين أفواجا صوب مقر المجلس الجهوي لأسباب قد لا تكون أصلا من اختصاص هذا المجلس. لقد كان مجلس الجهة، في حقيقة الأمر، متخصصا في استيراد الخيول وتصدير البغال في إطار قانون طوارئ تم إصداره تماشيا مع ارتفاع نسبة الطلب، والتي توسعت، بطبيعة القيل والقال، في تلك الآونة الحقيرة، لتشمل حتى فئة الحمير بعد أن تأكدت بعض الدول الأجنبية من جودة الحمير التي تتم تربيتها في هذا البلد. ولذلك سمحت الدولة للمجلس الجهوي بأن يتنازل مؤقتا عن مشروع البث في جميع الملفات ما عدا البيع والشراء من هذا الطراز. كان المجلس يبعد عن نقطة اشتعال الجمهور بحوالي عشرين كيلومترا. تحرك القطيع، ولأول مرة بلغ قلب السيد رئيس البلدية حنجرته وخاف أن يؤدي ذلك إلى الإطاحة بصنمه. أما أبو قمامة فقد انبرى وحكته التجارب والنضالات فأصبح شديد الحساسية تجاه أدق الأخطاء الإدارية. حدث أن كان هو الحاصل الوحيد على الإجازة في هذه المدينة. أما غيره فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على جنبه، مثل السلطعون، ومنهم من يمشي على أربع وهكذا. على أن منهم من يطير طيرانا في غبار السماء بحيث لا يمكن الإمساك به. فهو لا يثبت على موقف ولا يستقر على رأي. حكته التجارب وتعلم أبو قمامة الجوي، منذ أيام الجامعة، بأن المسؤولين لا تجدي معهم سوى الصرامة. حتى شيخ القرية المجاورة قرر أن يساهم، بما تيسر من البدو المحنكين، في هذا الضجيج، لا لشيء إلا لأنه لم يفهم ما هي دار العجزة، فهو لم يفهم بأنها قد تم تخصيصها لأمثاله. وأيضا لم يفهم، من قبل، ما هي دار الثقافة لكن فاتته الفرصة في الاشتعال. أما الآن فها هي فرصته التاريخية ليظهر طاقاته في الاعتراض على القرارات المنفرد بها من طرف كل رئيس وبئيس. فهو بين الدارين لا يعرف سوى الاندفاع نحو الأمام لكي يرسخ ذكره أكثر، في تلك الأذهان التي تبدو وكأنها مصنوعة من التبن، ليس على المستوى المحلي فحسب وإنما قد يذاع صيته على مستوى المدينة أيضا. هذا إن بقي في المدينة من يهتم لمناقب الشيوخ وشموخهم. يقال إن مصائب قوم عند قوم فوائد. فالشيخ لم يفهم دوره الصحيح وإلا لربما سعى إلى تأييد دار العجزة. أما الحق فإن المدينة لا تتوفر على عجوز واحد يمكن إقناعه بالانخراط في هذه الآخرة المصغرة. تجمهرت الحشود. و بعد أن أحس الرئيس بقوة احتمال أن ينجح هؤلاء في مسعاهم، رغم رهانه الماضي والحاضر المطلق على كونهم يتضورون جهلا وغباءً، اشتعل خوفه. فلطالما كان مقتنعا بأنه لو اجتمعت إنس هؤلاء وجنهم على أن يحركوا ساكنا أو يسكنوا محركا، في شأن من شؤون المدينة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. لكن الرئيس الآن بدأ يشك في صدق نظريته وداهمه الإحساس بأن أركانها قد بدأت تتضعضع. بات الرئيس بين مطرقة ضرورة التناغم مع تيار العولمة، في إطار المنافسة التي بات يخوضها بلا هوادة مع باقي عادات الوطن، وسندان هذا الجمهور الذي لا يتجمهر إلا من أجل لا شيء ولا شيء يوجد بين عنصريه إلا كره مسؤول من المسؤولين. فربع القارئ في الألف طالما استبشر لها سماسرة الانتخابات الجماعية والتشريعية والذين يبيعون ويشترون البضاعات الناخبة. أما الربع الثاني فهو أيضا يتصدر ما تيسر من الأميين. لقد تم إغرائهم وتأجيج غرائزهم بالقول أنه مادامت هناك حاجة للتخلص من دار الثقافة فيجب أن تتحول إلى مؤسسة لمحاربة الأمية. أما المدمنون على شم "السيليسيون" والمعروفين ب (طبقة الشمكارة) فقد قيل لهم خفية بأن هذه الدار كان على الرئيس أن يحولها إلى منتجع عمومي، وبالتالي يصبح بإمكانهم أن يمارسوا من الشم والتصعلك ما يشتهون إلى يوم يبعثون. وكذلك يمكن لغيرهم أن يمارس هناك ما تشتهي النفس والنحس من العادات السرية المأفونة على مستوى الوعي لما يسمى "المجتمع". أما الصف الأعوج والأخير من هذا الجمهور الحقير فهو يتكون من طبقة المجانين والمعاتيه والخرقى بالإضافة إلى الحمقى الذين تم إدراجهم في نفس الكيس الطبقي نظرا للقرابة الذهنية القائمة بين كيلا النوعين. وقد قيل لهم بأن رئيس البلدية كان عليه أن يحول دار الثقافة، التي هدمها، إلى مستشفى للأمراض العقلية والعاهات النفسية بالإضافة إلى مختبرات خاصة للبحث العلمي عن العقول المفقودة هنا أو هناك. بما أن الحشد كان يتوجس خيفة من أن تنسحب فئة المجانين من مشروع المسيرة، في أية لحظة أو حدب أو صوب، فلقد قرر أن يجعلها بين أميي المدينة وأميي البادية. مع العلم أن أميي البادية معروفون بالنخوة وعدم التخلف عن النزال كما أن القتال وارد بالقوة لكون الحشد لم يتسلم رخصة الانفجار البشري من وزارة الداخلية التي طبعا لا يمكن الاتصال بأحد من أعوانها. فهي مؤسسة اعتبارية كما ينص على ذلك القانون الإداري في إشارته إلى الفرق القائم بين الشخصيات الفيزيائية والميتافيزيقية.. إذن فعلى الجميع أن يدرك، ضمن الجمهور الهائج المائج، بأنهم ليسوا مهدوري الدماء فحسب وإنما الجلود أيضا خاصة وأن جلود الماعز أصبحت مطلوبة في الأسواق المحلية والوطنية نظرا للازدهار الذي حققته الدولة في مجال السلخ والدباغة كردة فعل على تراجعها في مجال التحنيط. من هنا يمكن للقوات السالخة المدججة بالعصي والهراوات أن تتهاطل عليهم بالإفناء الجماعي في أية لحظة. كل هذا كان أبو قمامة الجوي، وغيره من أفراد اللجنة التنظيمية، يدركونه جيدا رغم ترسانات الجهل التي يجرونها خلفهم. تحركوا مرددين شعارهم التاريخي بأصوات صاخبة رغم أنها متنافرة وغير منسجم بعضها مع البعض الآخر. أما الرئيس فقد بقي غارقا في الولولات والبصاق والشتم لهذه الساكنة المختلة جميعا. فمن المعلوم أنهم لم يتحركوا حتى أنهى مشروعه بحيث أصبح من الصعب أن يتراجع. ولما وصل الحشد إلى مقر المجلس الجهوي وجده قد أُغلق لأن الشمس كانت قد أوشكت على الغروب. وكان على الحشد أن يقضي ليلته في العراء. في البداية فرح أعضاء اللجنة التنظيمية إذ لم يجدوا من زبانية الأمن أي سوء. ولكن ما إن انتصف الليل حتى انسحبت فئة المجانين بالكامل وبأعجوبة. لم يفهم أحد من أفراد اللجنة التنظيمية كيف تم هذا التوافق والاتفاق بينهم وبهذه السرية والدقة والسرعة. تفرق المجانين عبر الأزقة وشوارع المدينة. وعندئذ أقسم شيخ القرية بأن يقاتلهم قتال أهل الردة مستدلا على مشروع سلخهم بما حل بمسيلمة الكذاب على يد خالد بن الوليد في عهد الخليفة الراشد أبي قحافة الصديق رضي الله عنه. أقسم أن يقاتلهم ولا شيء يوقفه عند حده إلا إحدى الحسنيين؛ النصر أو الشهادة. إنها حرب مقدسة كما قال الشيخ ومن مات فيها، من مقاتلي البدو، سوف يكون من شهداء المسيرة بلا شك. لم يشترط شيخ القرية على صف المجانين إلا أن يعودوا إلى أماكنهم ويواصلوا التظاهرات، أمام مقر الولاية بلا أدنى مراوغات، وإلا فالسلخ. اندلع القتال، بعد لحظات بين صف المجانين، الصعب تطويعهم على ما يبدو، وبين أميي البدو الأكثر منهم شراسة وبأسا على كل حال خاصة وأن المجانين أغلبهم من المدينة، وبالتالي فهم ليسوا بمستوى الخشونة التي يتمتع بها أهل القرية والذي لا فرق أحيانا بين صفعة أحدهم والذبحة الصدرية. اشتعلت المعركة بقيادة شيخ القرية للبدو في مقابل صف المجانين الذي لا أحد يقوده طبعا. أصيبت اللجنة التنظيمية بدهشة وخيبة أمل مما حل بالمظاهرة. ازداد خوفهم من تدخل الشرطة الآن وقد يتدخل الجيش بأكمله بعد قليل كما قال أحد الأعضاء وهو يشاهد كيف أن أحد البدو حمل مجنونا وضرب به عرض الرصيف حتى كسر به الأسمنت اليابس وخلط دماءه بالزفت، بعد ذلك، في قارعة الطريق دون أدنى انتباه لمرور السيارات. بعد أن ظهر تفوق واضح للبدو على المجانين صرخ أبو قمامة في الجموع الطاحن وهو يخشى من حدوث ما لا تحمد عقباه إذ خاف من انفجار معركة جانبية بين أميي المدينة وأميي القرية تضامنا مع صف المجانين مع العلم أن أكبر شريحة منهم ينتمون إلى المدينة. وبالفعل لم يكمل تدخله حتى انقض أميو المدينة على أميي البلدة إلا أن هؤلاء البدو لم يظهروا تراجعا إلى الوراء قيد أنملة لأن الضرب باليدين لم يؤثر فيهم فهم يحملون رؤوسا بحاجة إلى فؤوس حتى تتكسر، أما الأجساد فلا يزيدها الضرب إلا اشتعالا مما ينعكس سلبا على الضارب أكثر من المضروب. بدأت الأمور تنفلت من بين أيدي اللجنة التنظيمية. وبعد قليل تدخل رجال الأمن ليضعوا حدا للمهزلة. هو ضرب أسود لم يستثني، من هذا الجمهور الغفير، أميا ولا بدويا ولا معتوها. فالكل سواسية أمام الهراوات. الجميع تمت تسويته الأرض. وأخيرا تمكن الكل من العودة إلى ما تبقى من الصواب. وقد طلع النهار وها رئيس المجلس الجهوي واقف بالباب محملقا بهذا الحشد الجرار. فغر فاه. وبعد مدة من الزمن التفت إلى أحد حاشيته قائلا: - من هؤلاء؟ أهو مهرجان من نوع أخر أم مسرح أم ماذا؟ - كلا سيدي الرئيس لقد جاءوا ليحتجوا - يحتجون؟... على ماذا يحتجون؟ - يقال إن رئيس بلديتهم..... - ومالي ورؤساء البلديات؟ - يقال بأنه قد هدم دار ثقافتهم وجعلها دارا لعجزتهم. - أو يمكن لدار الثقافة أن تحرك هذا الذي أراه أمامي؟ (كان يعني أحد المجانين) - كما ترى سيدي الرئيس. - كلا، لا تكن غبيا..هؤلاء لا يعرفون ما هي الثفافة أصلا فكيف يتحدثون عن دارها أو جحرها؟ - ولكن سيدي الرئيس.. - كفى ! تقدم أفراد الجنة التنظيمية نحو السيد الرئيس الذي قال لهم: - ماذا يحدث؟.. أعني يمكنكم التحدث إلي من هناك فأنا أسمعكم جيدا. قال أبو قمامة الجوي: - سيادة الرئيس..لقد قام رئيس بلديتنا بتحويل دار الثقافة إلى دار للعجزة و... - آه ..فهمت لقد أخبرني نائبي للتو بذلك..حسنا..لدي حل لكيلا الطرفين؛ الرئاسة والرعية. - ما هو سيدي الرئيس؟ - بعد انتهاء فترة رئاسته أعطيكم الإذن بأن تصوتوا على غيره. دخل رئيس المجلس الجهوي حالما أكمل هذه العبارة.