أتعبنا هذا القاص الرائع في دربه المجنون، وأثار لقارئه النفس اللوامة! من خلال هذه القصة التي ترسم لوحة للجنون الذي حصل في قطاع غزة، والذي دخل في دائرة المستحيل، من هذا الذي هوى من السماء – هل هي القوة التي سادت واصطدمت بالواقع المرير ولم تصرخ، ولم تمت؛ ففتحت الأبواب ودخلتها في واقع شديد العتمة والضبابية. من فوهةٍ معلقةٍ في السماءِ هوى، تقلب مذهولا إلى أن اصطدم بالقاع البعيد، لم يصرخ؛ بل تحسس جانبيه، ثمَّ نهض، فصدَّه بابٌ انقفل، هاجمه، ولمّا انفتح، غرق في ضبابٍ غليظ! ثم نراه يواجه صعابا أخرى والأبواب المقفلة تتفتح بعد لأيٍ لتقاذفته، والموتُ ينتشر يتبعه الخراب، أما هو فيقف مذهولا ، لا يرى في الوجوه سوى صفرة الموت! خطا؛ فردَّه بابٌ جديد، وفي نهر الضباب تقاذفته الأبوابُ، فإذا هو في بهوِ يغصُّ بالجثث، فوقف يفغرُ فاه، ويقولَ: - هنا عزرائيل هجم؛ أطفأ الوجوه، وبالكركم رشَّها، ثمَّ مضى!
وأتعبه القتال والموت؛ فجال ببصره مستنجدا بدواء عليل قليل، وعلاج ضيق كميسم إبرة، فحاولت ممرضته حياكة الجراح المنتشرة في جسده الممزق! وخارت بقاياه، فسقط؛ لكنّ بصره ظلَّ يجول، فالتقط ممرضةٌ بين الأجسادِ تحوم، حتى شارفت قامته الممددة، فأشهرت حدقتين في خيطٍ تدخله في ميسم إبرةٍ هائلة، ولمَّا في صدرِه ضربتها؛ ارتجف، فأجلسته بين راحتيها؛ تخيطُهُ كخرقة بالية!
وفجأة انتفض المتعبون والمنهكون ببقايا أسلحة! ولم ينفع في هذا الوقت العلاج الهزيل فانقلبت البقايا المتعبة عليه كأنها ثعابين ترقص في الجنون وانتشرت فوضى الذبح والقتل وزاد الهرج والمرج واشتد القتل!
لكن على غِفلةٍ هبَّت الجثث، تحملُ بقايا سيوف، وممرضته أرخت صدرَه، لتضع في فمِها طرفَ فستانها، وتغادره راكضة، فداسته الأقدام، وصلصلت السيوفُ ثعابين راقصة، وأخذ الرجال يذبحون رقابَ الرجال، وفي الالتحامِ كان الهتافُ يتلوه الهتاف، والشرايين تنفضُ الدماءَ شاخبة، ورأى الخلقَ يجرون زاعقين، ثم يهوون حولَه خرافا خامدةُ! ثم اصطدم بواقعه ورأى نفسه والواقع الذي ألم به، وصرخ يستنجد: يا ربي! فقام يجري؛ فتراقصت رجلاهُ، حتى صدمته مرآة، رأى فيها شبيهه شهق، فأشاح بوجهه، ثم بصق، فهاله أنَّ الذي في المرآة يفعلُ ما فعل، فصاح: - يا ربي! واستمر قطع الرؤوس والنزال بين الفريقين وصحا ليرى المصائب التي حصلت ثم صرخ بقلبه ولسانه: كفى! فعاودته الممرضة تسوقه إلى سوح النزال، فانفلت إلى ركنٍ، وعلى بطنِه مكث، يرقبُ قطعَ الرؤوس وتطاير الرُكب، ولمّا قلبه صاح: - كفى! واستغرب حينما رأى اليهود يجولون بين الفريقين يحكمون المعركة ويسيرونها على هواهم! هاله أنه رأى وجوه يهود بين المتقاتلين، تأتي، وتروح، وضابطا منهم يصفرُ ليضبط للموتى بصفارته المعركة! ****** ونام على تعب من الصراع وصحا في الشتاء المميت والموت مسرعا فرحا كالريح، والناس ذاهلة! نام ولم يدرِ كم نام، لكنّه في ظهيرةٍ من كانون صحا، فكان الموتُ يصفرُ في السماء كريحٍ جموح، ثمَّ يزغردُ والجموع ذاهلة! ودمرت كل أركان بيته وقتلت أبناءهم، وماتت صيحته وصيحة أبنائه ولم يدر من مات ومن حيا من شدة هول غبار المعركة وتقطعت البلاد واهولت النفوس بتطاير الرؤوس والأطراف! وفجأة بيتُه انفجر؛ فطيَّره الركامِ، ولمَّا سقط جاءه صوتُ ابنه، توزعه أطرافَِه الموزعة: أبي!- فردّ عليه بصيحةٍ لاهثة، فتلوّت صيحته قبالته قتيلةً باردة! قال: - من يحيا الآن في تلالِ الغبار،ِ ومن يموت؟ وتنططت على الترابِ رؤوس، فيها بقايا من مآق مسكونة بحيرة غامضة، وتقطعت دنياه كبرقٍ بعيد، ثم انغلقت كالمقصلة، وقربه ارتمت ساق، ورأى صاحبها يقوم، فيه شيءٌ من ذراع، والأخرى بلا وجود، سمعه يقول: ومن الصدمة يسأل ماذا جرى وكأنه لايريد أن يعلم شيئا والأرض تهتز من تحته ولا زالت المصائب تنهار عليه من كل فج.: - ماذا أخي جرى؟ سقط الرجلُ، ثم عاد جأر: - ماذا أخي؟ ثمَّ في التراب رأسه انغرس! أما هو فوقف في اهتزازات الأرض وانهيارات السماء، يفتحُ كفيه، ويقول: لا شمس في كانون والنورُ يخنقه الجنون ويتجلى عمر في نهابة القصة شعرا ويجمل أطراف قصته في هذه الأبيات الراقية: يصف الاجتياح الكبير لقطاع غزة من قبل إسرائيل ، وانقطاع النور من خلال القصف الفظيع الذي هو كالزلزال يضرب المخيمات ويسكت الألسن، ويميت على الشفاه الحروف، وأما اليهود فيتخيرون ضرباتهم ، ويحددون أعداد الموتى وأنواعها وبها يتقربون لخرافاتهم وليس في النواح والعويل سوى سرب من اليمام ترقب المذبحة محدقة بألم في الجثث التي تحت الردم، تلف فوقها محلقة إلى أن تسقط ذاوية! لا شمس في كانون والنورُ يخنقه الجنون قصفٌ يهيجُ كزلزلةِ الرعود على أعتاب مخيمنا تصومُ اللّغةُ وينتحرُ الكلام والحروف على الشفاه ناشفةً تموت في ليلنا ماذا يقال؟ ماذا تخيَّرت اليهود كم َيذبحُون الآن؟ قُربانَ عهدِهمُ القديم وشلومو فوقنا يطيرُ مع الجنون وطفلنا يرفُّ بلا جناح ثمّ يُسكته الركام وبعضٌ من يمام مصعوقةً تنقرُ الردمَ وتمارسُ التحديق لا تغادرُ ولا تنام في السوادِ نائحةًِ تحوم ثمَّ تذوي في المكان! هذه هو عمر الأديب القاص الذي يستفز عين القارئ وقلبه بأسلوبه الممتع كالشوك ينقر الأطراف و لا يحس بألمه إلا بعد مضي وقت وحينما تتغلغل رأس الشوكة في شرايين الدم الحساسة. أخي عمر رحماك بنا لم نعد نتحمل هذه الاستفزازات ورؤية هذه الخناقات التي تحيط بنا من كل جانب. وياليتك تعطي مجالا للقارئ ليلتقط أنفاسه من خلال الصدمات التي مر بها صاحب القصة وانتهت بالخراب والدمار.