وسط حضورٍ واسعٍ مِن أهل بُرقة الحيفاويّين، وعددٍ من المثقفين والأدباء من حيفا وسائر مناطق الجليل والمثلث، أقيمت أمسيةٌ أدبيّةٌ للكاتب د. سميح مسعود، بتاريخ 29-8-2013، احتفاءً بإشهار كتابه "حيفا... بُرقة- البحث عن الجذور"، وذلك في قاعة الكليّة الأرثوذكسيّة، شارع إسحق ساديه 32، حيفا، وقد نظّم الحفلَ الهيئاتُ التالية: المجلس الملّي الأرثوذكسيّ الحيفاويّ، ونادي حيفا الثقافيّ، ومكتبة كلّ شيء. تحدّث في الأمسية كلٌّ من الأديب حنّا أبو حنّا، ود. سهيل أسعد، والفنان عبد عابدي، وحسناء دراوشة، والأديب جريس طنوس، وتولّى عرافة الحفل د. جوني منصور، وفي نهاية اللقاء قدّم الفنان ديب بشارة لوحة خطيّة لضيف الأمسية، وأغنية بصوته: "يا غايبين بهواكم قلب دايب"، ومن ثمّ تحدّث د. سميح مسعود عن كتابه، وشكر الحضور ومُنظّمي هذا الحفل، وبعدها تمّ التقاط الصور التذكاريّة. د. سميح مسعود ولد في عام 1938 في حيفا، لعائلة أصلها من قرية بُرقة (نابلس). درس في مدرسة البرج بحيفا. تشرد مع أهله عام 1948. تابع تعليمه في قرية بُرقة. نال الدكتوراة من جامعة بلغراد في موضوع الاقتصاد. عمل مستشارًا اقتصاديًّا في مؤسّسات وهيئات عربيّة. يعمل حاليًّا مديرًا للمركز الكنديّ لدراسات الشرق الأوسط في كندا. ساهم في تأسيس الصالون الثقافيّ الأندلسيّ. له مؤلفات عديدة، منها: "الموسوعة الاقتصاديّة"، "الأزمة الماليّة العالميّة"، "تحدّيات التنمية العربيّة"، "الوجه الآخر للأيّام" (مجموعة شعرية)، "رؤى وتأمّلات" (نصوص نثرية)، ويكتب مقالات ادبية وسياسية ونقدية في جرائد ومواقع عربيّة. مقيم في مونتريال- كندا. جاء في كلمة العريف د. جوني منصور: الأخوات والإخوة.. مساؤكم كلّه خير. مساء حيفا الجميلة التي سمّاها البعض في زمن غابر "أمّ الغريب"، ولكنها في واقع الأمر نزعت عنها هذا الثوب، والتحفت بثوب السحر والجَمال والعيش المشترك، جمعت تحت جناحيْها كلّ من طلب الرزق، وكانت المدينة التي اتسعت للجميع، وفهمت الجميع وأحبّتهم. قصَدَها أبناء فلسطين من الجليل ومن نابلس وقراها، ومن أم الفحم وبناتها، ومن غزة ومن القدس وقراها، وكان اللقاء مميّزًا بين أبناء الشعب الواحد. شمّروا عن سواعدهم، وشرعوا يبنون حيفا، حيفا الحلم والأمل والمستقبل، واتّسعَ قلبُ هذه المدينة بمن أحبّها من خارج فلسطين، ولبنان، والشام الحبيبة، وشرقيّ الأردن، والعراق، ومصر، والسنغال، ونيجيريا وغيرها. إنّها الأمّ التي حوّلت الغريب الوافد إليها ابنًا. شكرًا لك يا حيفا، لأنك جمعت الأب. لكن مشروع هذه المدينة لم يكتمل، فوقعت النكبة، وسقطت عروس الكرمل والبحر بيد الغرباء، عابري البحر القادمين من بلاد بعيدة، لا صلة لهم بها وبالوطن، إلّا بكونهم أدواتٍ في مشروع اقتلاعيّ احتلاليّ. تشتت الأبناء وتفرّقوا، وحبّ حيفا الجميلة عالق في وجدانهم وحياتهم يوما بعد يوم. هذا هو اليوم الذي تعود حيفا فيهن لتجدد جمع أبنائها في هذا المكان المتميّز والخاصّ، صرح العلم والثقافة والانفتاح. ها هو اليوم الذي تقول حيفا فيه: فرحي بعودة دائمة لأبنائي، فحقّ العودة مقدس ولا تنازل عنه مطلقا. في هذا المساء أيّها الأحباء، يسعدني أن أرحّب بالضيوف الكرام، الذين جاؤوا من خارج حيفا، وأرحب بدكتور سميح مسعود وزوجته، ود. نوفل ومرافقيه، وهو ابن حيفا، وحبّه لحيفا لا يقلّ أبدًا ومطلقًا عن حبّنا لها، فأنتم أبناء هذه المدينة، ترحّبون بنا في بيتكم هذا؛ الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا. هنيئًا لنا جميعًا بهذا اللقاء الذي بعد 65 عاما من النكبة، يثير فينا مشاعر الانتماء والهُويّة والبقاء. أشكر المجلس المليّ الأرثوذكسيّ، ونادي حيفا الثقافيّ، ومكتبة كلّ شيء، لرعايتهم هذا اللقاء. "حيفا.. بُرْقة": عنوانٌ جميل يجمع حركة المدينة وجمال القرية. بُرقة ليست بعيدة عن حيفا، كما أنّ حيفا ليست بعيدة عنها، لكن سميح مسعود ربط بينهما، بسيرة حياته التي أعلن أنّها بحث عن الجذور، سيرة ذاتيّة تحمل مخزونًا كبيرًا من الذكريات الجميلة المفرحة والحزينة. إنّها ذكريات من عاش على هذه الأرض، وأدرك ولا يزال، أنّ "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة". حول السيرة الذاتية وكتاب سميح مسعود، أتحفنا وشرّفنا بكلّ اعتزاز الأستاذ والأديب حنا أبو حنا بمداخلته فقال: التقيت مع الأخ سميح مسعود عبر كتابه في حيفا، أنا الذي عرفت حيفا عام 1935، تعلمت في المدرسة الابتدائية حيث اليوم بيت هجيفن، وعولجت في مستشفى د. حمزة حيث ليس هو الآن، وأجريت لي عملية، ومع أنّي أكبرك بعشر سنين، لكنّني سرت معك في شوارع حيفا، شارع مصر وشارع العراق، وذهبنا معًا إلى سينما الأمين، وهناك شاهدت فيلم عنتر وعبلة، وما زلت أذكر من الدعابات، كيف كان يناجي عنتر عبلة، فأراد خادم عنتر أن يناجي صاحبة عبلة، وهو يبحث عن لغة مشتركة فقال لها: "يا ريتك تقلعي لي عين، وأنا أقلع لك عين، ونعيش عور نحنا الاثنين". ومن الطرائف الأخرى، سرنا معًا في شارع الملوك، وهناك تذكّرت نقاشًا بين صديقين، أحدهما يقول للآخر: كلّ شيء مكتوب بالقرآن. وحين مَرَّا من أمام "مكتب كوك للسياحة" قال له: وهل كوك موجود في القرآن؟ فأجابه: نعم. "وإذا رأوْا تجارة أو لهوًا انفضّوا إليها، وتركُوكَ قائمًا". ودخلت معه إلى السوق الأبيض وساحة الحناطير، وأنا عرّجت على مطبعة نجيب نصّار؛ رجل قصير، وطربوشه طويل، وعزيمته قويّة، وإيمانه بالقوميّة العربيّة والوطن شديد، فأعدّ عام 1908 أقدم الصحف الفلسطينيّة، التي عالجت الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، حين تعرّف إلى المخطط اليهوديّ، وفكرة إقامة دولة اليهود على أرض فلسطين. كثيرة هي الأماكن التي زرناها، لكنّي أيضًا عايشت المأساة، ففي شارع يافا هنالك وقفت أمام مبنى يدعى بيت النجّادة، وهو فرع من بيت النجّادة في الحلّيصة، (حيث لم تواجه القوات الصهيونيّة مقاومة شديدة، إلّا في حيّ الحليصة باتجاه النجّادة، وهو بيت حركة الكشّاف العربيّ القائم على ملتقى طرق هامّ يربط الهدار بالحليصة والبلد التحتا، في شارع هجيبوريم (صلاح الدين سابقًا)، وما زال البيت قائمًا وشاهدًا حيًّا على أهمّيّة الموقع، بالنسبة للمقاومة الفلسطينية التي فقدت عددًا من الشهداء، في سبيل حماية حيفا، وسقط بيت النجّادة على يد الكتيبة 22 من الهجاناه) . في بيت النجّادة وجدت شبابًا يحملون عصيًّا، ويلبسون ملابس النجادة، فكلّ الأمور اختلطت بنقاشات سياسيّة هنا وهناك، والمأساة أنّ الأمور كانت تحمل الحماسة العنترية، التي لا تقل عنها أيّة جهود. لقد بقي في حيفا عشرة آلاف، وهذا بحث جديد جاء به د. عادل مناع من أرشيفات سريّة، ولكن الذين أُبقوا من العشرة آلاف فقط 3200، فكلّ الأمر كان مُخطّطًا ومدروسًا، وكتاب حبيبنا مسعود مفعمٌ بروح التعلق بتراب الوطن، وعندما نطوف معه في حيفا نطوف معه بذكرياته، وحين أمرُّ ببيوت أعرف أصحابها وسكانها، أذكر موسيقى حوافر خيل الحناطير، خاصّة وهي صاعدة في شارع الجبل، إنّها موسيقى جميلة. د. سميح مسعود مفعم بروح المحبة والتعلق بالوطن، وصفة نادرة أنّ هذا الرجل يبحث عمّن له علاقة بحيفا، وحين يتعرّف إلى أحدهم يذهب للبحث عنه. وفي النهاية نهنّئه بالشفاء، بعد العملية التي أجريت له على أيدي أطبّاء عرب. ملاحظتان قصيرتان: ورد في كتابه، أن نشيد يا ظلام السجن خيّم لإبراهيم طوقان، إنّما هو لنجيب الريّس الشاعر السوريّ، كتبه عام 1922 وهو سجين، ولا زلت أذكر أبي ينشده وهو يحلق ذقنه: يا ظلامَ السجنِ خيِّمْ/ إنّنا نهوى الظّلاما/ ليسَ بعدَ اللّيلِ إلّا/ فجرُ مَجدٍ يَتسامى/ إيهِ يا دارَ الفخارِ/ يا مقرَّ المُخلصينا/ قد هبَطْناكِ شبابًا/ لا يهابونَ المَنونا/ وتعاهدْنا جميعًا/ يومَ أقسمْنا اليمينا/ لن نخونَ العهدَ يومًا/ واتّخذْنا الصِّدقَ دينا/ أيّها الحُرّاسُ رِفقًا/ واسْمَعوا منّا الكلاما/ مَتِّعونا بهواءٍ/ كان مَنْعُهُ حَراما/ لستُ واللهِ نسيًّا/ ما تقاسيهِ بلادي/ فاشْهَدَنَّ يا نجمُ إنّي/ ذو وفاءٍ وودادِ/ يا رنينَ القيدِ زِدْني/ نغمةً تُشجي فؤادي/ إنّ في صوتِكَ معنًى/ للأسى والاضطهادِ/ لم أكنْ يومًا أثيمًا/ لم أَخُنْ يومًا نظاما/ إنّما حُبُّ بلادي/ في فؤادي قد أقاما والنقطة الثانية: هي أنّ المتّهم في هذا الكتاب هي القيادة الفلسطينيّة، ولكن الصواب أنه كانت هناك مؤامرة لتقسيم فلسطين. (وقرأ فقرة تأريخية وسرية من كتاب تاريخ لتأكيد المؤامرة المرسومة). والمؤامرة استمرت فيما بعد، فمثلًا، عقدت الأردن صلحًا مع إسرائيل، ولكنها لم تطالب باسترداد ما كان معها. وكذلك قادة مصر أيضًا عقدوا صلحًا مع إسرائيل، ولم يستردّوا ما لهم، فالجرح كبير والألم شديد، ولكن علينا أن نعود إلى هذه الأمور، لنتعلم الدروس الضروريّة، ولنورث الوعي لأبنائنا. وتابع العريف د. جوني منصور: بُرقة.. كثيرون حتى من بين الحاضرين لم يسمعوا بها، ومنهم من لم تطأ قدمه أرضها. إنّها برقة نابلس القرية الوادعة الجميلة المستلقية على هضاب وجبال نابلس، زيتونها صامد، وشعبها صامد، ترَكَتها عائلات كثيرة قبل عام 1948 بحثًا عن لقمة العيش. أليس هذا من حق الإنسان؟ منهم من عاد إليها، ومنهم من بقي فيها، ومنهم من هاجرها لبلاد الاغتراب، فسكانها اليوم ستة آلاف، ومهاجروها أكثر من عشرين ألفا. من أهالي بُرقة عائلات كثيرة استقرّت في حيفا، وبَنت بيوتًا لها، وأصبحت جزءًا فاعلًا وناشطا ومؤثرًا في مشاهد حياتها اليوميّة، وطبيب الجسد لم يتوقف أمره عنده، إنّما يهتمّ ويُساهم في بناء المجتمع، وتحسين ظروفه التربوية والاجتماعيّة، ويشهد له حبّه لهذه المدينة ولأهلها، فنسائم بُرقة تجري في عروقه. د. سهيل أسعد يقول كلمته باسم حيفا وباسم بُرقة: "ما يدور حولنا من أعياد وأحداث وأفكار له أهمّيته في حياتنا، فعلينا تقبّل اختلافاته، والاستمتاع به، واحترامه، وتقديره، وجعل الوطن قاسمًا مشتركًا في حياتنا". هذا ما قاله عبد الفتاح مسعود في حيفا عام 1946 لابنه سميح. فارس مسعود أحد أهمّ أعيان بُرقة والقضاء، وكان قد قدّم عشرة دونمات هديّة منه لمسيحيّي بُرقة، لبناء الدير الذي استعمِل لاحقا عيادة عامّة، ومن ثمّ مدرسة. في هذه العيادة خدم ولسنين عديدة أقرباء العائلة، خدموا أفراد البلدة أجمعين بكلّ محبّة وإخلاص. وشاءت الصدف أن يصل راهب ألمانيّ من القدس إلى بُرقة، للبحث عن تلاميذ، ليُكملوا دراستهم هناك في العشرينات من القرن الماضي، فكان والدي وأعمامي وآخرون من العائلات المسيحية مِن المختارين، وهنا بدأ التحوّل. كان التحوّل للعمل خارج القرية في مجالات مختلفة عام 1948، وبعد الاحتلال انتقل قسم كبير من أفراد العائلة للسكن في حيفا، وها نحن اليوم هنا جيل آخر من أهل بُرقة الحيفاويّين، أرضنا في بُرقة محافظون عليها، بالتعاون مع أهل البلد القاطنين فيها، وسوف نحافظ عليها ولن نهملها. لقد كتبتَ أيّها الخبير الاقتصاديّ موسوعة اقتصاديّة، وكنتَ رئيسًا لمَحافلَ اقتصاديّة مختلفة، وقد كتبتَ كتابًا جميلًا، بوُدّي أن أقرأ فقرة منه في وصف بستان الخيّاط: "يتكوّن البستان من مساحة واسعة من الأرض، مرصّعة بشجيرات الزينة الجميلة، وأشجار مُثمرة مختلفة أنواعها، وفيه مُدرّجات حجريّة وإسمنتيّة، وبرَك، وقنوات مياه متشعّبة، ونوافير وشلالات خطيرة، تجري فيها المياه تحت تأثير انحدارات أرضيّة مُصنّعة، تأتيها المياه من عين السيّاح، تتدفق نحو البستان من بقعة عالية ما بين الصخور". و(يُتابع مُتحدّثا في زيارته مع عائلته)، "طُفنا فيه وتعرّفنا على كلّ أجزائه، فكلّ شيء فيه جميل، وتعود إلى ذهني الآن ذكريات زيارته بصورة متقطّعة، وبلمحات سريعة أتأمّل منظر شلّالاته، كومضات تسطع من الماضي. أتذكرها بهدوء، كان صوت سقوط مياهها يشدو بأصوات مفعمة بالموسيقى، تحنو باختلاطها مع شدو عصافير كانت ترفرف على مقربة منها، وكان أريج الأزهار المتفتحة والأعشاب تفوح في كل مكان". بصراحة، قليل من المتخصّصين في الاقتصاد يكتبون مثل هذا الأدب الجميل، وها نحن اليوم بصدد الدفاع عن هذا البستان؛ بستان الخياط، وعن السكان العرب الساكنين بمحاذاته. ومن هؤلاء النشطاء في الدفاع عن بستان الخياط هو الفنان عبد عابدي. أيّها الإخوة، من الواضح أنّ هذا الرجل د. سميح مسعود كبُرَ وترعرع في أجواء عائليّة مُحِبّةٍ ليبراليّةٍ ومُتسامِحةٍ ووطنيّة، والدليل على ذلك، الجلسات الحواريّة المُتعدّدة بينه وبين والده، والتي كتب عنها في هذا الكتاب، ودليلٌ آخرُ على رِقيّ ووضوح الرؤية عند السيد عبد الفتاح مسعود، هو جملة قالها أثناء نقاش سياسيّ في بيته، حين دافع عن موقف صحيفة الاتحاد وكُتّابها بالقول: يُقنعني أيّ رأي يأتي من خارج الزعامة التقليديّة المُتحجّرة، لأنها تتغنّى دومًا بجلب الضرر والمصائب للقضيّة الوطنيّة، وعلى الأقلّ، لم يُلوَّث اليسار الفلسطينيّ بالاغتيالات، وبالتصفيات، وبآراء نشطاء لا علاقة لهم بالزلمنة، والعشائريّة، وتقديس الزعماء. أيّها الإخوة؛ هكذا أبٌ بُرقاويٌّ أنجبَ هكذا ابنًا حيفاويًّا. فهنيئًا لكم ولنا بسميح مسعود. وتابع العريف د. جوني منصور: فنّان عاشق للفن وعاشق لمدينته، وعِشق المدينة سِرٌّ لا يفقهه، إلّا مَن يحمل في داخله حبَّ المدينة. عَكَسَ حبَّهُ هذا في أعماله الفنّيّة، التي تنطق وهي صامتة، بما يجب علينا أن ننطق به. تنطق بالحُرّيّة، وحُبّ الأرض، والوطن، والنبات وباقي الكائنات. إنّه الفنان عبد عابدي، الذي تربطه علاقة خاصّة مع د. سميح مسعود فقال: هذا الكتاب هو ملفّ الماضي أمام الجمهور، وهذا هو اللقاء الثاني عمليّا، الذي يربطني بأخي د. سميح مسعود. كان لقاؤنا الهاتفيّ الخليويّ السابق قبل نصف عام، عن طريق صديقنا المشترك صخر الخطيب، الذي هو ابن عمّ غسّان الخطيب، ووالد صخر الخطيب هو أحد القادة الفلسطينيّين الذين قادوا الثورة ضدّ الاستعمار، وكان رئيس تحرير مجلة الغد. بهذا اللقاء الخليويّ تعرّفت على سميح، وعلى الربط عمليّا بين بُرقة ونابلس. في جيل النكبة كنت في عداد النازحين واللاجئين في المخيّمات الفلسطينيّة، ابتداءً من بيروت، والشام، ودمشق، وإلى الآن أختي موجودة في مخيّم اليرموك. دون شك ربطته مع النزوح، فارتباطه مع القرى المُهجّرة حصلت عمليّا بعد رجوعنا إلى حيفا، بما يُسمّى لمّ شمل العائلات، كوْن والدي بقي في حيفا ولم يتركها. وتأتي ببالي أسماء قرى قليلة في الواقع، كوْني كنت فتى صغيرًا راجعًا من الغربة، ولكن بُرقة كانت لها مكانة خاصّة في بيتنا في وادي النسناس، لأنّ والدي عام 1954 على ما أذكر، آوى أوّل شخص مُتسلّل مِن بُرقة في وطنه، وبسبب إجراءات التسلل سُجنَ أبي أربعة أشهر، بسبب إيواء شاب من بُرقة اسمه أمين، وطبعًا أرجعوه إلى المناطق.علاقتي ببُرقة مميّزة، ومن هنا الارتباطات متشعّبة، وتبيّن لي من خلال المحادثة الخليويّة، أنّ معرفة أخي سميح بواقع الطوبوغرافية والهُويّة والمجتمع الحيفاويَ لدرجة كبيرة، فسألني عن أماكن وأزقّة، يشعر أنّه غير مطمئنّ أو متأكّد لتحديد اتّجاهاتها جغرافيّا، وأنا كنت مفعمًا عمليّا بهذه المعلومات الطوبوغرافيّة والجغرافيّة عن حيفا، لدرجة أنّي اعتقدت أنّه متواصل مع هذا المكان المُسمّى حيفا. ومحادثة أخرى جرت ثانية، بعد مقالة كتبها بعد زيارته لإحدى بحيرات كندا، كوْنه يسكن في كندا، وهو متنقّل بين كندا وعَمّان. هناك في وصف البحيرة الكنديّة حسٌّ شاعريّ فنّيّ، بإمكان هذا الحسّ أن يتحوّل إلى لقاء تشكيليّ، واعتبار سميح مسعود ليس فقط خبيرًا في الاقتصادن وقد درس في دولة اشتراكيّة في يوغسلافيا آنذاكن لكنّه مُتمكّن من التفاصيل الدقيقة. في الواقع، في هذه السنة من اللقاءات، اعتبرت أنّ علاقتنا استمرّت من 1948 إلى اليوم، وهناك في التعارف الأوّل بيننا سألني أين أسكن في حيفا، وفي أي شارع؟ فقلت له في شارع حداد رقم 13. فقال لي: في شارع حداد رقم 14 يسكن صديق طفولتي راشد الماضي. فوصفت له علاقتي الطيّبة والجيرة الحسنة التي تربطني براشد الماضي، وهكذا في وصف الصديق العزيز كان الوضع مثيرًا، في دقة التعبير عن مشاعر إنسانيّة. يقول في أحد الفصول، أنّه رأى صديقه مكتئبًا، وتبيّن أنّ له مشاكل عسيرة في التعلّم، فقدّم له المساعدة، ليتمكّن من الخروج من مأزقه. وشيءٌ آخر أذكره، أنّ لوحتي التي كان من المفروض أن تُزيّن غلاف كتاب د. سميح، لأسباب تقنيّة لم تتمكّن من تزيين الكتاب، ولكن في مجال آخرَ سوف يجد العديد من الأعمال المشاركة، لها الحيّز التاريخيّ الذي يربطنا، كوْننا في حيفا، وكوْن حيفا تسكن فينا. تابع د. جوني منصور: كان للعزيزين الصديقين الأستاذ جريس طنوس ود. سميح غنادري، الفضل الكبير في التعرف على د. سميح مسعود. فلهما جزيل الشكر على هذه الهديّة الكبيرة والثمينة. قال الأستاذ جريس طنوس: شاءت الظروف أن يزورني د. سميح مسعود وبالصدفة، عن طريق أحد طلابي صخر الخطيب، وحدث تماهٍ وتشابُك وتقارُب، وبالصدفة، كان أحد أبنائي قد عمل لي بطاقات وإيميل، و(تابع بتواضعه وبروح دعابته مازحًا عاتبًا)، أنا معلم متقاعد، ف (اعترض الأديب حنا أبوحنا قائلًا: أنت كاتب أيضًا)، ضحك وقال: المهمّ عملت حالي قبضاي، ووزّعت البطاقات، فأنا موديرن عصريّ وعندي كمبيوتر. وإذا بي تصلني رسالة طويلة منه بحدود الصفحة! فكيف أجيبه وأنا لا أعرف استخدام الكممبيوتر؟ استنجدت بحفيدي، ووعدته أن أعطيه كذا وكذا مقابل أن يكتب لي ردّ الرسالة، فكتبت له رسالة قصيرة جدًّا، وكأنني من هواة الكتابة القصيرة والاختصار، مع أنّ مُعلّمي اللغة والأدب يعتمدون على الحكي. وصرت كلما وصلتني رسالة منه رسالة أحمل الهمّ، وكانت النتيجة أنّي تعلّمت أن أكتب رسائل طويلة وشيّقة. ولكن المشكلة الثانية التي واجهني بها ضيفنا العزيز د. سميح مسعود، أنّ لغته العربيّة عالية جدًّا لا تقلّ عن لغة الأستاذ حنا أبوحنا وفتحي الفوراني، وأنا معلم للّغة العبريّة، وأكتب باللغة العربيّة، ولكن ليس بهذا المستوى، وبالكاد أسجّل تعابير جميلة باللغة العربيّة، وإذا بصديقي د. سميح شاعر لا يُشقُّ له غبار، وكانت علقتي علقة. كان اللقاء بيننا، وتبادلنا الكتب، وذكّرته بالمحافل التي أُدعى لها وهي قليلة، فأنا معلم متقاعد ولا يدعوني أحد. وهكذا كان؛ علّمني شيئين: علّمني كيف أحترم لغتي، وعلّمني كيف يعيشون الوطن في الغربة، ونحن غرباء في أوطاننا. وحول كتابة هذا الكتاب، وإعادة سميح سميح إلى بلده، حدثتنا قريبته حسناء دراوشة فقالت: في بحثه عن جذوره، تعرفت على جذور عديدة وتوصلت إليها من خلال الصدفة، فحُبّي للقراءة أوصلني إليه، من خلال قراءتي لمقاله في ملحق جريدة الاتحاد الثقافيّ. وما شدّني للمقالة هو صورة صغيرة لقرية بُرقة، وبعد الانتهاء من القراءة، أخبرت زوجي وإخوتي بأنّ الكاتب يمتّ بصلة قرابة لجدّتي نجيّة، والتي كانت تخبرنا عن عشقها لبُرقة، وعن خالتها الحجّة سكّر، والتي تبيّن فيما بعد أنّها زوجة عمّه، فأرسلنا رسالة له وأجابنا بسرعة، وهكذا توطدت صلة القرابة البعيدة، من خلال العلاقة والتواصل. أشكر كل من ساهم في إحياء هذا الحفل وإشهار الكتاب، لأنّ اسمي خُلّد في كتابه، وهي أعظم هديّة تلقيتها في حياتي من بعد زوجي وأولادي. في نهاية اللقاء قال د. سميح مسعود: لم أحلم يومًا أن ألتقي بهذه الوجوه الجميلة، وأن أرى بوجوهكم كلّ هذا الحنين للذين كانوا هنا وما زالوا هنا. أريد بداية أن أقدّم كلّ الشكر للجهات المُنظّمة لهذه الأمسية، للمجلس الملّي الأرثوذكسيّ، الذي يُذكّرني بالنادي الأرثوذكسيّ الذي ذكرته في كتابي، عندما كنت مع والدي وقال لي: هذا النادي الأرثوذكسيّ فيه أهمّ شخصيّة، الشاعر الكبير عبد الكريم الكرمي أبو سلمى. وقال لي: إنّ جورج أحد شباب بُرقة، يلعب كرة القدم في النادي الإسلاميّ. وكان والدي دائمًا يُعطيني هذه الأمثلة عن التآخي والمحبّة ما بين أبناء الوطن الواحد. وأشكر نادي حيفا الثقافيّ، مُمثّلًا بالأستاذ فؤاد نقّارة، والذي كتب لي رسالة قبل يوميْن، ورفع من معنويّاتي وقال: أهلًا بك في بيتك، في هذا النادي- نادي حيفا الثقافيّ. وأشكر أيضًا مكتبة كلّ شيء، وصاحبها ومديرها الأستاذ صالح العبّاسي، لأنّ له الفضل في إيصال كتابي إلى مدينة حيفا، فأنا لم أتمكّن من إرسال إلّا نسخ قليلة، مع أخي جوني منصور، والأخ حسين منصور، ومع قريبي عبد السلام دراوشة وزوجته حسناء، ولكن صالح العباسي اتّصل بي عبر الهاتف وقال لي: تستطيع أن ترسل أيّة كميّة تريدها. وهكذا أرسلت كلّ هذه الكتب عبره، والشكر موصول لكلّ الأصدقاء والأحبّاء، وأوّلهم شاعرنا الكبير حنّا أبوحنّا الذي قرأت له الكثير، وكنت أحلم أن ألتقي به وأشكره، لأنّه سار معي وتجوّلنا في حيفا، وأشكر ابن بُرقة قريتي د. سهيل أسعد، والذي عرفت قبل ثلاثة أيّام، أنّه قريب أعزّ أصدقائي في بُرقة، فالدير كان قريبًا ومُحاذيًا لبيتي وبيوت أعمامي تمامًا، وأنا أتذكّره تمامًا حين كان الوطن والتراب هو القاسم المشترك بيننا، والآن نعيش في عصر جاهليّ تكفيريّ، حيث التنفير والتكفير وإقصاء إخوة التراب، وهذا يُحزنني جدًّا، وكنت في هذا الكتاب دومًا أحاول أن أعزف على هذا الوتر، وأنّ الوطن وتراب فلسطين فوق كلّ شيء حتى فوق المعتقد، لأنّ الله لن يغفر لإنسان لا يُدافع عن وطنه، فالوطن هو قبل كل شيء، والفنان الكبير عبد عابدي ذكر أشياء جميلة، عن كيف تعارفنا، ومن وحي لقائي الخليويّ به كتبت المقال، واستغربت من الردود والتعليقات التي جاءتني، إذ تحدثت عن المدرسة والأساتذة والشوارع، وتجوّلنا ووصلنا إلى محلّات بيع البوظة وإلخ، وحين تحدثت مع أخي أبو أمير عابدي، جاء في أحد التعليقات: ما دام أنتم تحافظون على هذه الذكرى، فهل تضيع فلسطين؟ وأخيرًا وليس آخِرًا أخي العزيز جوني منصور. أنا تابعت كتاباته، ولاحظت أنه يكتب في نفس المكان الذي يكتب فيه جريس طنوس، فحييّته وأسميته في مقالتي "مؤرّخ حيفا". ولكن للأسف، في الشتات والخارج هذه الأسماء غير معروفة، وقد نشرنا في الصالون الأندلسيّ 15 كتابًا حتى الآن، وخمسة كتب إلكترونيّة، فهذه المقالات بين الحين والآخر أجمعها وأنشرها في كتاب، وأوّل شخص تعرفت عليه في الداخل هو جريس طنوس، وفي كتابي "رؤى وتأمّلات" كتبت عن تعرّفي عليه. يوجد تعاون الآن ما بين الصالون ود. جوني منصور، وسوف نصدر قريبًا كتابًا عن القصص الشعبيّة الفلسطينيّة في الشمال الفلسطينيّ في حيفا وفي الجليل، لشخص في الثمانيات من عمره، أمضى أكثر من أربعين سنة في تجميع هذه القصص. لماذا أذكر هذا؟ لأقول إنّنا نستطيع في الشتات أن نجمع بعضنا، وأن نبحث عن جذورنا، وسوف نجد دومًا جذرًا في مكان ما لنا علاقة به. فهذا الكتاب لا يتحدّث فقط عن علاقتي مع إكسال وأهلها وآل دراوشة، ولكن عن أهمّيّة البحث عن الجذور، لنقول إنّه كان لنا وطن وما زال. كان البحث عن الجذور مقالة كتبتها، فقرأتها حفيدة عمّتي حسناء، ومن ثمّ فُتحت لي أبواب كثيرة سجّلتها في هذا الكتاب، جعلتني أتحدّث عن أمور كثيرة في بُرقة وغيرها، ومن خلال هذا البحث توصّلت إلى ننتائج كثيرة، تشعرني بالسعادة على حدّ تعبير التوحيدي: "الكلمات تزدحم في حلقي/ ولا أستطيع أن أقولها". عندما التقي بزميل طفولتي الذي تركته في الثالث الابتدائي وعندما جاء عبدالسلام دراوشة يقول له هناك من يذكرك وكتب عنك . نحن في المهجر البعيد نعيش الوطن وكأننا فيه، ولا أغالي حين أقول، بأنّني أحنو لحيفا وشم في العين، وأشعر أنها جزء من دمي، تعيش معي، وأسير بها في كلّ الأماكن الجميلة الموجودة، ولا أرى حتى جمالًا لتلك الأماكن، والمقالة التي كتبتها وتحدث عنها الفنان عابدي، وقال إنّ بها لمحات فنيّة وشاعريّة، كنت وأنا أكتبها أتذكر حيفا وكل ما كان في حيفا في ذلك الزمان البعيد، من مفردات وجزيئات جماليّة. بهذه الأمور التي نخرجها من خلايا الذاكرة، نستطيع أن نجمع الذاكرة الجمعيّة، والتي هي التاريخ الحقيقيّ لنا، سواء كُتبت شعرًا أو نثرًا أو جغرافية أو تاريخ وإلخ، لأنّ التاريخ السياسيّ في رأيي مُزوّر، وهو تاريخُ مَن قاموا برسم المؤامرات والقضاء على وطننا. الذاكرة الجمعية يجب أن تبقى، ويجب أن نُحدّث أولادنا وأحفادنا، فلي حفيد واحد، وللأسف أنه لا يتكلم اللغة العربيّة، وسوف أحاول أن أعلّمه العربيّة قبل أن أرحل عن هذه الدنيا، كي يقرأ عن فلسطين وحيفا وبُرقة، وعن كل ما كان وما زال، وأنا مازلت أشعر أني جذر في روابي حيفا.