توحي صيغة هذه المقاربة الاستفهامية (القصيدة المغربية، إلى أين ؟!)، بأن ثمة التباسات وأعراضا في طريق القصيدة القصيرة المغربية تحمل على هذه الصيغة الاستفهامية، التي تذكّرنا بتلك الصيغة النقدية الشهيرة والمبكرة التي جَأر بها غالي شكري أواخر الستينيات من القرن الفارط، في كتابه (شعرنا الحديث إلى أين؟!).. وذلك بعد أن بدأ هذا الشعر يعاني بعض مشاق التطور والاستمرار. و لا يثور استفهام ما، إلا و في قرارته همّما. ولأجل مقاربة هذه الصيغة الاستفهامية، في رأيي، يحسن استحضار الصيغة الاستفهامية المقابلة – والقبلية (من أين؟) لاستشراف واستشفاف (إلى أين ؟) ومن أين هذه، تُحيلنا إلى ذاكرة القصيدة المغربية، والمسارات التي قطعتها والخيارات التي اجترحْتها خلال عقودها السابقة التي تربو على نصف قرن. والملاحظة الجميلة هنا، أن القصيدة المغربية الآن في راهنها الصاعد مع العقد الثاني من الألفية الثالثة، تشترك وتتآزر في إبداعها وإنتاجها سوية وعلى قدم المساواة، كل الأجيال الشعرية الحديثة، وفق التحقيب العشري – التقريبي / جيل 60- جيل 70- جيل 80- جيل 90 – جيل الألفية الجديدة،، أي من جيل الريادة الستيني إلى جيل الانترنت والفايسبوك … مع مراعاة الرمال المتحركة دوما بين الأجيال. فلا حدود جمركية بين الأجيال الشعرية. وفي جلّ الملتقيات والعُكاظات الشعرية التي تنعقد على امتداد الوطن، تجتمع وتأتلف هذه الأجيال الشعرية فوق منصّة واحدة وتعزف كورالا شعريا مشتركا، بلُحون مختلفة – مؤتلفة. بما يؤكُد العروة الوثقى الواشجة بين الاجيال. إنها شجرة نسب القصيدة المغربية، منتصبة الجذع والقامة مُورقة الأغصان والأفنان دائما. قد تعروها أحيانا حالة شحوب ونضوب، وتذبل منها أوراق.. لكنها أوراق تتساقط كأوراق الخريف. هكذا تتجاوروتتحاور الأجيال والحساسيات الشعرية في المغرب، خلافا تماما للأجيال والحساسيات السياسية، المتنابذة فيما بينها بالألقاب والمصالح .. ويهمّني هنا، على سبيل المقارنة والتذكرة، أن أحيلكم إلى مقطع شعري من جيل الريادة، ومقطع شعري جديد، من آخر ما قرأت. يقول أحمد المجاطي في نص (حوار مع الدارالبيضاء) المكتوب في أواخر الستينيات من القرن الفارط / – [ يحمل في غثائه الأشجار والتربة السوداء والموائد الصمت، والقصائد، ودار لقمان وأطلالها، والمدن الأسوار، حتى إذا أتى رحاب المشور البعيدة ألقى نثار الغضبة الحمراء وصار، خيط ماء]. وتقول نجاة الزباير، في نص (وجع يعبر معناي)، المكتوب حديثا في 2013/ – [.. كل الأشياء تغفو في عينيك و ما سواها دخان .. دخان لأن رحلة الكلام انتهت فكل القصائد جمعت أثوابها، هل رأيتها كيف قهقهت في دروبي، و فوق دفتر لوعتي رسمت وطنا من ماء.]. إلى الماء ينتهي المجاطي وإلى الماء تنتهي نجاة. ألا ما أشبه الليلة بالبارحة. ولا بدع، فهو الوجع الشعري – المغربي، يسري من السلف إلى الخلف، بصيغ ولغات مختلفة. وكأني أبادر هنا إلى الجواب عن السؤال العالق (إلى أين تسير القصيدة المغربية؟)، بأنها تسير نحو مزيد من الوجَع الشعري الجميل. ولا يمكن، على أي، فصل وعزل واقع القصيدة المغربية، عن واقع السياق التاريخي، الوطني والعربي، الذي تعيشه وتتنفس هواءه الكدر. وهو واقع ملغوم ومشحون بالمخاضات الصعبة، لكن القصيدة تخرج منه دائما، أكثر صحة وعافية ومضاء .. والشعر كالذهب الإيريز، يصْفو ويتوهّج في قلب النار .. لأنه منذور لمقاومة القبح والنقص والحيف والرتابة والغياب والموت ..ذلك ما يُجمع الشعراء المغاربة على اختلاف أجيالهم وحساسياتهم، وتنوع لغاتهم وأساليب تعبيرهم وبوحهم.. وتلك مفارقة جميلة وجليلة / واقع عربي موحش يتخبّط في المتاهة، وواقع إبداعي يافع ومشعّ يقاوم المتاهة .. ويُومض في الظلام. وما تكون رسالة الإبداع ترى، سوى هذه؟! سأرصد هنا، بإيجاز، بضعة مؤشّرات ناتئة على طريق القصيدة المغربية، عبر عقودها الأخيرة، من نهايات قرن إلى بدايات قرن/ 1/ وفرة الشعراء والشواعر الوافدين على المشهد الشعري، وتناميهم العَددي. 2/ كثرة الإصدارات الشعرية و تراكمها، سواء بدعم من جهات حاضنة (وزارة الثقافة – اتحاد الكتاب – بيت الشعر..) أو بجهود فردية عصامية. إنه، مطر شعري هاطل نتفاءل به خيرا، ولسنا ذاهبين مع قولة شوقي (إذا كثر الشعراء، قل الشعر). ففي كثير من هذه الإصدارات والأعمال، بقع ضوء شعرية بهية. 3/- انخراط تاء التأنيث، في تأنيث وتأثييث المشهد الشعري – المغربي، وقد كان هذا المشهد في عقود سابقة حكرا على جمع المذكر السالم. إن الحضور الشعري – النسوي، كان بمثابة نسائم بليلة وعليلة هبت رخاء على هذا المشهد. 4/- دخول الانترنت والمواقع الإلكترونية على الخط الشعري، مما وسّع من أفق التداول الشعري إنتاجا وتلقيا وانتشارا، على نحو يضاهي المطبوع الورقي .. وهذا موقع الفايسبوك، على سبيل المثال، أضحى بمثابة عكاظ الكتروني جديد. وهذا سلاح ذو حدين، ونعمة في طيها نقمة. 5/ – كثرة الملتقيات الشعرية، الوطنية والعالمية، التي شاركت وساهمت فيها القصيدة المغربية، بمختلف أصواتها وأجيالها ومشاربها .. بما جعلها تنخرط بالفعل في عوْلمة شعرية رانعة.. مع الإشارة، إلى أن تخصيص يوم عالمي للشعر، كان بمبادرة مغربية جميلة .. والمغرب «الأقسى» حسب تعبير شاعرنا السندباد محمد علي الرباوي، سبّاق إلى المكْرمات.. كل هذا، يجعلنا مطمئنين، من منظور عام، إلى مسار وثمار القصيدة المغربية ونحن نواجه السؤال / إلى أين؟ لكن السؤال دائما، يُضمر قلقا ما. وأظن، أن النقد أو بعض النقد ضروري في سياق مقاربة القصيدة المغربية .وسأتأنّى هنا قليلا، عند مسألة بالغة الأهمية والحساسية في القصيدة المغربية. وهي مسألة اللغة الشعرية. و(في كل قصيدة عظيمة، قصيدة ثانية هي اللغة) يقول إيلوار. والشعراء دائما هم حراس اللغة وسدَنتها، إذ يبدعون اللغة داخل اللغة. ولا أنكر، أن القصيدة المغربية قدمت نماذج عالية وراقية من اللغات الشعرية، هكذا بصيغة الجمع .. كما قدمتْ قطوفا يانعة من التّيمات والهموم الشعرية، الذاتية والاجتماعية والقومية والوجودية .. والصوفية. ثمة نماذج شعرية راقية، من الجيل القديم والمخضرم ومن الأجيال الجديدة أيضا، وبخاصة التجارب التي لها صلة بالذاكرة التراثية. ولا يماري أحد، في دور المكوّن التراثي في شحذ وشحن الشعرية الحديثة. ومن لا قديم له، لا جديد له. والملاحظ، أن جزءا لا يستهان به من الشعر المغربي، ليس فيه ماء الشعر. الملاحظ، أن جزءا لا يستهان به من الشعر، خال من الشعر. وقد تزامن ذلك، مع شيوع النثرية بديلا عن الشعرية. ولا أقصد بالنثرية هنا، مجرد التحلل أو التحرر من الوزن والقافية، بل التحلل والتحرر من شعرية اللغة والكلام، معجما وتركيبا، وفقا لجدولي جاكبسون الشهيرين، جدول الاختيار وجدول التوزيع. وهذا يعني محدودية المعجم، ومحدودية التصريف البلاغي – الشعري لما توفر منه .. وقد نتج عن ذلك تشابه و تماهي بعض اللغات الشعرية، وكأنها ناضحة من إناء واحد. إن الشعر كدّو معاناة وصناعة، قبل أن يكون انسيابا تلقائيا للشعور، كما قال الرومانسي كولردج. . وما أروع وصْفة الجاحظ الشهيرة في هذا المقام / [والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والحضري والبدوي، والقروي والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وصحة الطبع وجودة السبك. فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير] . كتاب الحيوان. والمفارقة، أنه في غمرة النثرية التي طالت جزءا غير يسير من الشعر المغربي، ثمة عودة نوستالجية لدى البعض، إلى النمط العمودي – الخليلي. والمفارقة المضافة، أن هذا النمط العمودي يجد مرتعه الخصب، في فضاء الانترنت..كسلفية في حداثة. وبعد / .. لقد ظلت القصيدة المغربية باستمرار مسكونة بهاجس التجديد والتجريب،، من القصيدة الكاليغرافية إلى القصيدة الصوتية – الإنشادية، إلى القصيدة – الومضة، إلى القصيدة الرقمية،، مرورا بالتجارب، الحداثية الجديدة، تجربة البحور الألف، والتجارب العديدة التي اتخذت من «الغواية الشعرية»، شعارا واختيارا. وكل ذلك دليل على حيوية هذه القصيدة وسعيها المستمر للكشف عن عالم يظل في حاجة مستمرة إلى الكشف.. كما قال ريني شار. القصيدة المغربية، إلى أين؟! أختصر القول، فأقول / إلى (مباهج ممكنة)، حسب عبارة الشاعر أحمد بنميمون. وإلى مزيد من (مكابدات السندباد المغربي). حسب عبارة الشاعر محمد علي الرباوي. والرهان الشعري – والنقدي مستمر.