مملكة صغيرة تشعل الحماس و فيها يتلاحم حاموها يدا واحدة. قوة ووطنية ،تلك المدينة الفاضلة التي يخشاها الخصم بكل جبروته. فبالعقل و بالحزم، تضحي ساكنتها بالغالي و النفيس لحماية حاكمها.و من المعروف أن كل عنصر يخدم بلده بحب و بعقلانية و يؤمن أن حياته لا تخل من النصر و الهزم في معارك قد تدمن لساعات طوال أو لما لا نقول قد تدمن لأيام. و بخطى ثابتة، تحقق المملكة هدفها. هكذا هي حياتك”. لا زال يتذكر هذه الجمل من الزمن الجميل و كأنها البارحة. استرجع لحظات نصائح أبيه في لعبة الشطرنج.. كان هذا أول درس تلقى في بداية مشواره. تذكر أحلى أيام الصبا حين كان يجالس أباه أمام طاولة الشطرنج بشغف و كله آذانا صاغية لسماع توجيهاته. عشقه الأول تلك ساحة المعركة الصغيرة يتأملها بحكمة و بصبر و كأنه ملك على عرش الدولة يتبصر. لعبة منحته الثقة في النفس و التأني في اتخاذ القرارات و الحكمة إلى درجة أنه لازم طاولته بين يديه في كل حين. ما مل من هوايته المفضلة أبدا حيث لم يكن يهتم بألعابه بقدر ما كان يحب لعب شطرنج في صغره. في غرفته الشاسعة والهادئة التي تبهج العين حين مشاهدة زيها “الشطرنجي”، لا تخل مساحة إلا و زينت بمختلف أشكال طاولات الشطرنج مزركشة الألوان و من مختلف العصور. رسومات الرعايا و الملوك علقت على الجدران. فضاء يمنح الرخاء و رزانة التفكير و التأمل. جلس على الأريكة يرقب المطر من النافذة وهو يقلب في صفحات زمن البراءة، حالم في ذكريات طفولته. التحق بمدرسة لتعليم الشطرنج كهاو وهو صغير السن و تتلمذ على يد كبار اللاعبين إلى أن أصبح بطلا عالميا محترفا مشهورا يخوض كبرى الجولات. ما فاته الزمن من العلم، مارس مهنة المحاماة، لكن حبه العميق لهوايته جعله يترك الميزان و يجول العالم من أجل الشاه. عاش وحيدا، قليل الكلام و خباياه محفوظة في صدره. طموحاته في النجاح تزدادن يوما بعد يوما. صحبته كانت ولا تزال هي طاولات شطرنج غرفته التي هي خير جليس و يلاعب نفسه. متعته تكمن في إرباك خصمه في كبرى المنافسات. كانت جولاته قد تستغرق ساعات طوال ليفكر في إستراتيجية محكمة لهزم الخصم. الكل يترقب تحركاته إلا أن الذكاء كان من صفاته فيفاجأ جمهوره بإستراتيجية أخرى غير متوقعة. فصل الشتاء،كان الجو باردا و المطر على أشده.ارتشف كوب الشكولاتة الساخن في لحظة استرخاء حينها استرجع ذكرى أهم حدث الذي غير مجرى حياته وأصبح أكثر شهرة. فكيف أتته فكرة ترشيح نفسه في الانتخابات الرئاسية. كانت الساعة العاشرة صباحا.استأذن الحارس الشخصي الدخول غرفته و بيده رسالة في وقت لا زال يحتسي كوبه الساخن ويستمتع بذكريات زمنه الجميل. على غير عادته؛ استيقظ متأخرا ذلك اليوم. لم تكن لديه الرغبة في ممارسة أنشطته اليومية. تمادى كسلا، و مزاجه تعكر. ألغى لقاءاته و انعزل عن محيطه لعل يعيد ترتيب حساباته و يفكر في استراتيجيات جديدة ترجعه إلى ساحة المعركة مرفوع الرأس. وضع الحارس الشخصي الرسالة على مكتبه وانسحب في صمت. فهو يعرف جيدا الحالات النفسية للرئيس. يعلم الحارس الشخصي أن المسؤولية الملقاة على كتف الرئيس تحتاج إلى الانطواء من حين لآخر و عندما يعلق أنشطته و يغلق على نفسه في غرفة الشطرنج، لا أحد يتجرأ أن يكلمه لساعات أو لأيام .فذاك اللاعب الشطرنج المحترف أصبح الآن على طاولة الشطرنج الحقيقية. نظر الرئيس إلى الرسالة.ما كانت له الرغبة في سماع أخبار سياسية أو أخبار رعيته. أدار وجهه نحو المطر و أبحر في عالمه الخاص. هو رجل خمسيني كتوم و ذو نظرات ثاقبة. وفي كل مرة يسأل نفسه ماذا لو خذلني من حولي؟ حياة الساسة تملأها الغموض. فكرة الرئاسة لم تأت من فراغ. طباعه أهلته أن يكون ليس قائدا للعبة الشطرنج فحسب بل أيضا قائدا للعبة السياسية. حلمه هو أن يتزعم القافلة وأن يبارز خصومه في حروب باردة. فلعبة الشطرنج شكلت له الصعود نحو القمة و الشهرة لاعبا أولا و زعيما للدولة. في إحدى المنافسات،اقترح عليه أن يترشح في الانتخابات الرئاسية لما يشمل صفات تؤهله على ذلك. بادئا، كان مجرد كلاما مع أصدقاءه عندما انتصر على خصمه في جولة دامت خمس ساعات و أسدل ستار جولته بالمقولة المعروفة “الشاه مات”. فكان لأصدقاءه ما قالوا. و منذ ذلك الوقت، أخذ الأمر على محمل الجد و التحدي و أدرك أن التجربة صعبة و أن السياسة ليس لها صاحب. فعزم المجازفة مهما كلفه الثمن. هم بحملة انتخابية كبيرة، و خطط لمشاريع مستقبلية ترقى التنمية والتقدم لبلده. لم ينس توجيهات أبيه و لم ينس أن شهرته كرياضي و تواضعه منحاه دفعة إلى الأمام نحو هدفه. إصراره أيضا في أخذ زمام الأمور مكنه من الفوز بنسبة عالية من الأصوات. فكان له نصيب من القيادة و نحت اسمه في التاريخ. الآن ،دخل القصر الرئاسي و اقتحم عالم الساسة. لكن “تكتيك” الشطرنج لم يكن هذه المرة حليفه و أتى عليه الدور يوما في أن يقال له الشاه مات. في القصر،نظام خلية نحل. هو نظام موزون يخضع لضوابط مقننة.الخدم على قدم و ساق يشغلون مكانهم بصرامة و باحترام. والمسؤولية لديهم، أمر مقدس. هؤلاء يتعايشون و يكدون بانضباط. لا مكان للانفلاتات و كل من أخطأ،عقابه عسير و يعلق على باب الخدم عبرة للجميع. ذاك الفضاء الضخم ذو عشرة أبواب يحوي مختلف الزخارف و الديكورات بأنواعه و ألوانه. حديقة تضفي رونق الراحة و البهجة بالأزهار المصففة و الأشجار الضخمة المظلة. و إذا كان قد خصص الرئيس غرفة بأكملها لطاولات الشطرنج، فأنه خصص أيضا ركنا في مدخل الحديقة لطاولة شطرنج كبيرة بقطع حقيقية. خدم يلعبون أدوار رعايا الشطرنج و يرتدون ملابس على طريقة لعبته و يتنقلون على الطاولة مثل لعبته. يجالسهم من حين لآخر و يتمتع بهذا العرض المضحك و المسلي. يوجد في زوايا القصر، مصالح من مختلف التخصصات تسهر على أداء واجباتها على أكمل وجه.و الكل فدى قائدهم و وطنهم. رغم شساعة القصر و بهجته إلا أن الرئيس لم يخرج من غرفة الشطرنج طيلة اليوم. ظل منعزلا و غائبا عن العالم الخارجي لما له من إعادة ترتيب أفكاره و استيعاب ما يقع من حوله. وحده، شارد الذهن، نهض من الأريكة يجول الغرفة و يخط في رأسه ألف فكرة و فكرة. ثمة أشياء حدثت لم تكن في الحسبان. ففي وقت الذي كان يبني مستقبل بلده و يحط المشاريع التنموية و يحارب الفساد، عرقل أعداءه الخفيون السير و عملوا على تعطيل مخططاته بشتى الطرق و الوسائل و خلقوا الفتنة بين الناس و زعزعوا أمن البلاد. كان دوما في مواجهة الخصوم الخفيين،يتصدى بكل شجاعة و تجاهل لكنهم لم يكتفوا بهذا فحسب بل كونت خلايا سرية لقلعه. و لما لا نقول انقلاب بمعناه الصحيح. جاءه الخبر أياما قليلة و منذ ذلك الحين و هو مشغول البال في تقارير أمنية مع المسئولين قصد إيجاد حل رادع للقضاء على هذه التحركات السرية و التي أفضت إلى خلق شوشرة بين الناس في مختلف المشاكل العالقة بالبلاد. أمر خطير و لن ينفع معه أي إجراء سريع بل وجب التأني. والتفكير في ما يمكن أن يعود بالبلاد استقرارها كما كانت عليه من قبل حدق بعينيه الواسعتين،فكر مليا واقفا ماسكا يديه وراءه،تنقل من طاولة شطرنج لأخرى. حرك القطع كل حسب موقعه و هدفه.حائرا و متخوفا و حزينا و مهموما. في البدء،أمر بإجراء تحريات سرية حول هذه الخلايا و أمر أيضا بمراقبة بعض المشتبه فيهم و معالجة أهم قضايا الدولة على وجه السرعة. لكن ماذا لو اكتشف غدر مقربيه؟أمن السهولة أن يتخلى عنه شعبه الذي اختاره بنفسه؟ بأية طريقة مواجهة الخصوم المجهولين؟و تدور في رأسه أسئلة كثيرة لم يلق لها الآن جوابا. و بالرغم من قوته و حزمه لمدة دامت ثلاث سنوات من الحكم ألإ أن هذه الضربة كانت من أقوى المحن الفائتة. هناك في ركن صغير من الغرفة، جلس على بساط حريري ناعم أحمر وبه قطع هندسية مختلفة الأشكال و الألوان. لا تشبه قطع الشطرنج. جلس و شرع يحرك القطع في جميع الاتجاهات. في الجناح الآخر من القصر، تلهو معشوقته الصغيرة ذي الخامسة من عمرها. أحيانا من كثرة حيويتها، يهتز القصر بكل ما فيه مرحا ونشاطا. هي القلب النابض للقصر. تلعب و تبرح في أرجاءه و هي تلك الابنة الصغيرة المدللة التي سرعان ما يخفق قلبه و يضعف عند رؤيتها. رغم كثرة انشغالاته و مسؤولياته طيلة اليوم ،إلا أنه يخصص لها يوما كاملا للعب معها و الاستمتاع بالبراءة التي قل وجودها إلا في عينيها. هو يعلم أن براءتها لن تدوم طويلا حيث أن كلما كبر المرء أفقده الزمن براءته. يتذكر دائما هذه المقولة حين يصدر قرارات صارمة. هو يعلم كذلك أن تلك البراءة لا وجود في عالمه فيبحث عنها عند مجالستها ولو لحظات. لكن في قربها يصبح طفلا مثلها. يتجرد من قواعد لعبته وينفصل عن الأكاذيب و تدخله هي عالم المثالية حيث الدفء والأمان و كأنه يملك كل أسرار الحياة. هي فراشة تحلق في سماء قلبه و هي الطفلة المشاكسة التي ترتمي في حضنه كلما دمعت عينيها. و إن صح القول ،هي حياته الخفية التي لا يعرفها أحد سواهما. توقف عن تحريك القطع الملونة. و توقف عن مجالسة نفسه في صمت. أنهكه التفكير و لم يتوصل إلى إستراتيجية محكمة. فالوضع السياسي المقلق للبلاد فاق تفكيره ومحترف الشطرنج لا يزعم أخذ أية خطوة إلا و يحسب ألف حساب. – دعني من الوضع أيا كان حدته. لم أغمض جفني منذ مدة. لن يفلحوا في مكرهم و لن أهزم. لازلت زعيم الشطرنج و سأظل زعيم البلاد. خاطبته نفسه :- الوضع خطير جدا، ووجب عليك التغيير واتخاذ قرارات حاسمة. لا مجال الآن للتفكير الطويل. وجب الآن كشف حقائق خطيرة تجاه بعض المسئولين و إلا أصبحت في خبر كان و ليس لديك وقت. لا محالة من الهروب. نجاحك يتوقف على هذا القرار. حدق في الفراغ و أجاب برزانة حازمة :- لا ليس الآن ، لازلت أفكر في إستراتيجية تقضي على كل المخادعين. وجب المزيد من التريث. سلاحي هو صمتي. سأقول لك في الوقت المناسب. دعني، تعبت كثيرا و اشتقت لصغيرتي. يا حارس، أرسل لي ابنتي إلى هنا. – أما من أحد يدخل غرفتك السرية هاته و أنت مختلي بي. ردت نفسه بنبرة غاضبة أجاب مبتسما مطبطبا: – لا عليك، سئمت من الكآبة و التفكير طيلة اليوم. دعني أرفه عني و عنك قليلا. هكذا هم الساسة، لا يعلنون عن خططهم و لو لأنفسهم، و لا يخضعون لأعدائهم. فالتحريات لم تحسم الأمر في هوية الخلايا المتمردة.حاول الهروب من نفسه بأية طريقة، دخلت الصغيرة الغرفة مسرعة سعيدة بلقاء حبها الأول…. – بابا، اشتقت إليك… جلسا معا فوق البساط يضحكان و يلعبان كالتوأم. يداعب صغيرته. تناسى كل شيء و أضحى في عالم خيالي يملأه الخير و الفرح. أخذت الصغيرة القطع الملونة و شرعت تركب بعضهم البعض و تصنع قصرا صغيرا خاصا بها. أحمر أسفلا و أصفر جانبا و أزرق فوقا… و هو يراقب تركيبتها الخاصة في اللعب بهذه الأشكال الهندسية. اندهش و أعجبه اللعب و قال : – صغيرتي جيد واصلي في بناء القصر سيكون رائعا بهذه الألوان. يراقبها باهتمام و بدت له إرهاصات إستراتيجية جديدة لمشكلته السياسية من تركيبها العفوية والبريئة في الأشكال الهندسية. خطرت بباله أفكارا عديدة و سياسة جديدة و نبض قلبه و كأن ما فعلته ابنته يحييه من جديد. تنفس بعمق و قال في نفسه هذا ما كنت أبحث عنه. اكتمل القصر الصغير المزركش و بدأت معه خطة سياسية دقيقة. – برافو… جميل جدا صغيرتي. – أبي هذا القصر لك. لا تهدمه. تسمر في مكانه حين سمع تلك الكلمة. لن يهدم ما صنعه منذ سنوات من كفاح و مسؤوليات و خبرات. لن يسمح في أن يكون فريسة لأعداء و لن يقال له الشاه مات. نهض و نادى الحارس ليوصل ابنته لجناحها. حان وقت نومها. قبلها ووعدها أن يلعب معها على نفس البساط. خرج من الغرفة مسرعا و أجرى اتصالات هاتفية مع مستشاريه وأخبرهم أن يجتمعوا في الحال لدراسة الوضع بشكل دقيق. كانت الساعة الحادية عشر ليلا حين اجتمع الجميع في جلسة سرية طارئة. ناقشوا حال البلاد الذي طالته الفتنة ودرسوا في سرية تامة خططهم المقبلة و محاربة تلك الأيادي الخفية التي تطيح بنظام البلاد. ما كان له أن يكمل تعليماته حول خطواته إلا و اقتحم عليهم الحراس الغرفة و حاطوهم من كل جانب. سيدي الرئيس ، لقد طوق الأعداء القصر لإطاحة النظام. اهتز الكل من مكانهم و صاح الرئيس : – لا أبدا أن أستسلم لمن يقول لي الشاه مات ‼.