"هي الواحة التي عثرتُ عليها، تختزل كل براءة الطفولة ، التي سُلبت ْمني سهوا، هي سحر الصحراء، ولكل سحره الذي ينطلي عليها ، هي امتلاء إلى حد البلاء، وخواء إلى حد الإشراق بآلام الناس كلهم ." -محمد شاكر-(مقتطف من حوار للشاعر) . لا تثقوا بالأنطلوجيات الشعرية يا سادتي ،فالشعراء الحقيقيون يأبون دوما أن تتحول أسماؤهم إلى رقم في لائحة ،أو صور مذيلة بقصيدة أو قصيدتين قد يظنها الكثيرون الأفضل ،فكل القصائد لهم و كل الأسماء أسماؤهم. لا يحتاج "سادن الفلوات" –الشاعر محمد شاكر – لإضاءة تختصر قصيدته وفق منطق التاريخ و الجمع و الإحصاء .فمنذ قرر هذا الشاعر المائز ترميم ذاكرته ،قرر بالمقابل دعوتنا إلى ركوب ذات المغامرة الإنسانية ، الطافحة بالكلام الذي لا يشبه كل الكلام ،مهما تناقضت دورات الحياة أو أتعبنا الركض في مساحات الحقيقة و الوهم ..لا ندري . ما أن تلقفته الصحراء ، لم يتردد في عقد قران لغوي غير مسبوق معها .باقتفاء للواحة هنا ،وسعي وراء السراب هناك ،ظلت نصوص " محمد شاكر " تتناسل احتفاء بالمكان و الهجرة بين أقاليم الغرب و الجنوب ،أو تأبينا للخسارات الصغيرة و لصدى الهامش. للذات ،للآخر ،لأسئلة الشعر التي طرحت و لم تطرح ،كان الشاعر يثق فيما أفرده من ترسانة استعارات ، وحده يعلم مدى ما حققت من غايات ،لكننا نستطيع التوافق على أنها كانت بمتابة هدايا و " ورود لعزلة الروح " . في قصيدته " أقصى الرغبات" ،يرفع الشاعر في وجوهنا بيانا عاطفيا ناعما ،منيطا فيه أدوارا حاسمة بالصحراء . يقول : ليكن نبض القلب في أقصى الرغبة لأحبك في اللحظة الرحبة و أؤسس واحة لعمر الإحساس في نية الصحراء .. يرفض الشاعر – بهذا المعنى – المواقف الوسطى ،و لا يؤمن بغير الأقاصي رغبة و حبا .فلا معنى لعمر مؤسس على هشاشة النبض و على خلاف مع الحاضن الأكبر/الصحراء. و لنكن متأهبين لما سيأتي ،حيث الشاعر يكشف هويته الضوئية ، ونزوعه اليقيني نحو الخوف من ارتداد الوهج و انطفاء النور ،ثم اختراق الأسرار: يا سيدتي التي تكون غرب الحزن في إشراقة ليل آهل و على أهبة لإطفائي أنا النيزك الوحيد أخاف أن يكسر ضوئي فوق جرح الأرض و تنكأ الأسرار .. هكذا يمضي " محمد شاكر " في هذه القصيدة أبعد من ذلك ،إذ هو الآن مشاع .كل القلب لها ،كل الروح . ما عليها سوى الإنفلات من ربقة الصمت ومعانقة الأبجديات التي لا تنطق .. دوسي على صمت الأحوال وطرزي بزهر العنفوان ممرات الشوق من موطئ قلبي إلى حدائق أنس فإن جموح أيامي يسري في بيداء العصر مشرقا على مجاهل فصل خامس فيه يثمر شجر الهذيان ... في موقف شبيه بهذا ،تسطع أسئلة الوجود ،فيركبها الشاعر مستشرفا للآتي ،يباغثها : كيف يا سيدتي أؤسس من أرمدة النبض؟ وعود الأرض؟ كيف أقيها من رميم الكلام ؟ .. من فرط ضياع قد لا تجيب ، ومن فرط حرقة سيكرر الشاعر – لامحالة – طابورا من الأسئلة ،تصير معها القصيدة كائنا متحركا صوب حقائق ،و لايهم إن هي أدركتها أم لا ، المهم أن يتحول عالم الشاعر عبر هذا النص أو غيره ،إلى "مساء تؤوب إليه الطيور " عودة الغريب من منفاه و قد تساقطت منه أحجار بنى على إثرها ملامح الذاكرة ،و توجها عينا تراقب ترددات القلب من كل الجهات . هنا، أكون قد سمحت لنفسي باستراق الجمال من نص آسر يجبرنا و نحن نقرأه أن نتنازل عن ترتيب المقاطع و توظيبها ، إذ المقروء جمال يرفض الإعتقال ،رفض الشاعر " محمد شاكر " للعزلة من غير ورد .