داخل الخيمة الممدودة على جانب الشارع العام،علقت لوحات مختلفة الأحجام والمحتويات، وعلى مقربة منها جلس الفنان مبدع اللوحات ينتشي بنجاح معرضه الذي تقاطرت عليه كل الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية..يسعد لرؤية زائر يغمره فرح اكتشافه ما خلف الخطوط والألوان المؤثثة لللحوحة..ويحزن لرؤية من حاول الغوص في اللوحة دون طائل، وخرج خاوي الوفاض..فيهم من يعرف أبجديات قراءة اللوحة، وفيهم من يجهلها، ..وليس كل متلق قادرا على فهم واستيعاب ما يرى، أوما يقرأ، أو ما يسمع..فهو يعرف ذلك ويعيه جيدا، ولا ينتظر اقتناء لوحة أوإطراء من أحد، أشعل سيجارة،.. نفث دخانها في السماء، شكل لوحة رمادية تسبح وتتلاشى خيوطها في الفضاء، فاجأه طفل حافي القدمين، مغبر الشعر، علامتا البؤس و الحرمان تحيطان به من كل جانب، يحمل بين يديه لوحة لوجه امرأة جميلة، وهو يقول له :إنها هي هي.. لقد أتقنت رسمها سيدي، هل كنت تعرفها من قبل؟ وفي عينبه شلال من البراءة، سأله الرسام وهو يتجول بين ثنايا وجهه، وابتسامة ممزوجة بالغرابة تعلو محياه : لمن ذلك الوجه الذي تحمل بين يديك؟ إنه وجه أمي. أمك، وأين أمك ؟. بعيدا في السماء. في السماء؟ كيف!. لقد ماتت.. تركتني وعمري لم يتجاوز الستتة أشهربعد. كيف استطعت التعرف على وجهها وأنت لم تره قط؟. انظر انظر يا سيدي، إنها هي هي ..كما وصفتها لي جدتي ...انظر كيف تفيض عيناها بالحب والحنان، أنظر إلى الخال الذي يرصع خدها الأيسر، والبسمة الوضاءة التي لا تفارقها أبدا، إنها هي كما وصفتها لي جدتي.. إكتفى الرسام بالنظر إليه والاستماع إلى القصة التراجيدية التي يروي تفاصيلها ، وعلامة الدهشة لم تغادره بعد. كم سعرها سيدي، أريد أن أدفع ثمنها وآخذها معي. الأمهات لسن للبيع ولا يقدرن بثمن . ولكن أريد أخذ وجه أمي معي. من يمنعك من أخذه؟ ما دامه لأمك. ارتمى الطفل بين أحضان الرسام ..قبله وشكر له صنيعه، ثم انصرف وهو يكاد يطير من الفرح..رفع الرسام رأسه إلى السماء شاكرا الله والدموع تتراقص في عينيه، مقتنع بأن فنه ليس مشروعا تجاريا،إنما رسالة يمتطي صهوتها، ويؤمن بها بقوة.