"يمارس الملك حق العفو"، هكذا قرر المشرع الدستوري التنصيص على حق العفو في الفصل 58 من الدستور، دون تمطيط أو تفصيل، على أن يتم تنظيم هذا الحق من خلال الظهير الشريف 1.57.387 وبعض المقتضيات في القوانين المسطرية. وإذا كان الفصل 58 من الدستور قد خص الملك بحق العفو في إطار ما يسمى بالعفو الخاص، فإن الفصل 71 من الدستور منح حق العفو العام للبرلمان، وجعله من ضمن مجالات القانون التي يختص البرلمان بالتشريع فيها، إلا أن هذا الإجراء لم يسبق أن تم تفعيله لحد الآن، مع العلم أن العفو العام لا يعني أنه من اختصاص البرلمان فقط، بل يمكن أن يمارسه الملك، وإن لم يتم التنصيص على ذلك بشكل صريحا انطلاقا من الفصل 42 من الدستور، وأيضا من خلال الفصل 49 من الدستور الذي جعل من اختصاصات المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك التداول في مشروع قانون العفو العام. ومن المعلوم أن العفو إجراء معمول به في العديد من التجارب السياسية الدولية، لكنه في المغرب يكتسي طابعا خاصا مرتبطا بالدولة المخزنية، واتخذ بعدا دينيا من خلال اختصاص السلاطين بممارسة هذا الحق باعتبارهم خلفاء عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا كما يقول بن خلدون. وقد ظل سلاطين المغرب يمارسون العفو حسب السياقات والظروف وحدة التوترات، وتدبير الأزمات بين بلاد المخزن وبلاد السيبة، ما جعل العفو يكتسي لبوسا سياسيا في معظم الحالات، من خلال استخدامه كورقة لضبط التوازنات السياسية والاجتماعية، والتصالح مع قوى المعارضة، وهو ما حدث في العديد من التجارب التي شقت طريقها نحو الانتقال الديموقراطي، كالبرتغال ما بعد مرحلة "أنطونيو سالازار" وإسبانيا بعد مرحة "فرانكو". نفس النهج سار عليه الملك الحسن الثاني إبان فترة الصراع بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية، التي عرفت مراحل من التضييق والاعتقالات وفترات أخرى من الانفراج السياسي، حسب طبيعة الأحداث والسياقات التي عرفها النسق السياسي آنذاك. لذلك كيف نفهم خطوة الإعفاء عن الصحفيين ومعتقلي الرأي بمناسبة الذكرى 25 لعيد العرش ؟ وما الذي يعنيه ذلك ؟ بغض النظر عن الرؤية القانونية والتفسير التشريعي لأهداف وآثار العفو بين من يعتبره سبيلا لإصلاح الأخطاء القضائية والمسطرية التي قد تشوب النازلة في معرض البت فيها، أو اعتباره مجرد عطف والتفاتة نبيلة من طرف الملك، أو جزاء على السلوك الحسن والانضباط، يبقى التفسير السياسي العامل المحوري في فهم الأمر، على اعتبار أن هذا الإجراء ليس إجراء عاديا كباقي الإجراءات السابقة، بل هو بالأساس سلوك سياسي في عمقه. لقد ظلت الدولة المخزنية طيلة قرون بارعة في احتواء القلاقل والتمردات، فهي تفهم بشكل دقيق التطورات الاجتماعية وتستخدمها لصالح الاستمرارية، وهو ما سماه "ريمي لوفو" في أطروحته الشهيرة "الفلاح المغربي المدافع عن العرش"، بالقدرة التعبوية لدى الملكية، التي استخدمتها في تقويض نظام الحماية وتقوية السلطة الملكية، حيث استمر في نفس المسار بين المهادنة والعنف في مواجهة الاضطرابات، كما وقع مع حركة 20 فبراير، إلى أن انتهى الأمر بعزلها بعد خطاب التاسع من مارس 2011. والحديث عن المخزن هنا هو حديث عن المخزن وفق مفهوم عبد الله العروي وليس شيئا آخر، أي المخزن كجهاز إداري، لذلك دائما ما كان المرحوم خالد الجامعي يؤكد على بروز مخزن جديد في كل مرحلة أو ما يسميه "نيومخزن" في إشارة للتطور والتفاعل مع الأوضاع والقدرة على الاحتواء. هذه الإشارات هي لبنة أساسية تسعفنا لفهم طبيعة العفو عن معتقلي الصحافة والرأي، الذي جاء في ظرفية خاصة تعرف موتا للحياة السياسية بعد انتخابات الثامن من شتنبر 2021، وطبيعة النخب التي أفرزتها سواء على مستوى الانتخابات التشريعية أو الجماعية، هذا البلوكاج السياسي وغياب النقاش العمومي والتقاطب السياسي، وضعف الحكومة سياسيا وتواصليا، جعل المواطنين والمواطنات بدون سند أو وسيط وبدأت تتشكل الملامح الأولية للاصطدام بين المجتمع والدولة، خاصة أمام غياب الأحزاب السياسية والنقابات والمعارضة القوية القادرة على خلق التوازن. على مستوى وسائل الاعلام، غاب النقاش الحر وحرية الرأي والتعددية في الإعلام العمومي، بعدما أصبح جزء كبيرا من الصحافة رهينا بمن يدعم أكثر، فتحولت الصحافة الحزبية إلى كلام مقرات، والصحافة التي تسمى مستقلة إلى كلام مقاهي كما يقول "عبد الكريم جويطي" في رواية "المغاربة". تواري رئيس الحكومة عن الأنظار والاستعلاء في التعامل مع المعارضة، واستمرار الأزمة الاقتصادية على مستوى التضخم وانهيار القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار، وعجز المواطنين عن توفير أضحية العيد لأول مرة، بالإضافة لارتفاع نسبة البطالة وسط الشباب، وتنامي الاحتجاجات الفئوية والقطاعية بشكل غير مسبوق. في المقابل نجد أنفسنا أمام حكومة لرجال الأعمال، ونخب برلمانية أغلبها من جماعات المصالح، وجزء كبير منها متابع أمام القضاء في سابقة لم نشهد لها مثيل، أزيد من 100 منتخب متابع أمام القضاء، منهم 77 برلماني، 30 منهم رهن الاعتقال، رفقة 10 رؤساء مجالس إقليمية و 20 رئيس جماعة، حسب تقارير صحفية. كل هذه المعطيات جعلت الحياة السياسية في حالة اختناق، غاب فيها النقاش العمومي والرأي المعارض، لذلك كان أمام المؤسسة الملكية أحد طريقين لضبط التوازن وتنفيس الضغط وبعث الروح في الحياة السياسية، إما من خلال تعديل حكومي، أو قرار سياسي معين، كان في هذه الحالة هو العفو الملكي عن المعتقلين الصحفيين. كان الملك أكثر فهما واستيعابا لخطورة السياق السياسي الذي نعيشه، وانعكاس ما يقع على الوضع والاستقرار الاجتماعي على المستوى البعيد، وهو ما يفسر القلق الحاصل فيما يخص المتابعات القضائية للنخب السياسية المنتخبة والتدخل لوضع مدونة للأخلاقيات بتوجيه ملكي، ولا أستبعد هنا اللجوء إلى تعديل حكومي بداية الدخول السياسي المقبل. تبقى للسياقات الدولية والعلاقات الخارجية تداخلات غير مباشرة مع قرار العفو عن الصحفيين، خاصة أمام ضغط المنظمات الدولية لحقوق الانسان، وبعض التقارير التي نبهت لانتهاكات حقوقية مرتبطة بحرية الصحافة، بالإضافة للضغط الداخلي وإن كان على المستوى العملي ضعيفا جدا نظرا لكونه وليد ما أشارنا له سابقا حول طبيعة الوضع السياسي بالبلد. كما أن تمويلات وقروض المؤسسات الدولية وجلب الاستثمارات الخارجية أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بوضعية حقوق الانسان ومنسوب الانفراج السياسي، لأن الدفاع عن حقوق الانسان يولد اقتصادات قوية كما أشارت إلى ذلك بعض تقارير البنك الدولي، وهو الأمر الذي يجب أن نربطه بكون المغرب أصبح ورشا مفتوحا للمشاريع الاقتصادية والبنى التحتية، خاصة أمام الاستعداد لتنظيم التظاهرات الافريقية والدولية، وما يتطلبه ذلك من ميزانيات ضخمة تحتاج لتمويل خارجي، وبشكل أكبر لاستقرار اجتماعي وسياسي. في جميع الحالات الافراج عن الصحفيين نقطة تحسب للمؤسسة الملكية، جسدت فضيلة الانصات والاستجابة للقوى الحية، عندما يتعلق الأمر بانتهاكات لحرية الصحافة والرأي، وثبوت محاولات لتصفية الحسابات السياسية، خاصة أن هذه الخطوة لم تكن نتيجة ضغوطات قوية أو بطولات نضالية، بل كانت نتيجة قراءة سياسية واعية بطبيعة اللحظة. ولا شك أن قرار العفو شكل خطوة أساسية في بناء تراكم ديموقراطي، وخطوة أولية في انتظار خطوات أخرى نحو الانخراط في الانتقال الديموقراطي، تكتمل معالمه بالإفراج عن معتقلي حراك الريف، وتعزيز ضمانات حرية الرأي والتعبير، والاحتجاج السلمي.