وفي الحقيقة والواقع، فالنظام العسكري لم يُجرم في حق الشعب الجزائري فقط؛ بل أجرم في حق كل الشعوب المغاربية. فلكونه بقي وفيا لسياسة الجزائر الفرنسية، فقد سعى إلى تعطيل اتحاد المغرب العربي (ولنسميه الاتحاد المغاربي أو اتحاد بلدان شمال إفريقيا؛ وكلها مسميات لنفس المسمى) حتى لا تقوم لا وحدة الشعوب ولا وحدة الدول. والوضع الحالي لاتحاد المغرب العربي شاهد على الدور الهدام الذي اضطلعت به الجزائر؛ ولا تزال وفية لمعاكسة مصلحة الشعوب المغاربية. فلو لم تتبنى الجزائر سياسة المستعمر، لاستطاعت دول شمال إفريقيا الخمس – لما لها من موارد طبيعية، وما تتوفر عليه من عناصر التكامل الاقتصادي والاجتماعي والجيوسياسي – أن تبني وحدة سياسية واقتصادية قد تكون أقوى من التكتلات الإفريقية الأخرى، ولَضاهت، ربما، مجلس التعاون الخليجي بفضل مواردها البشرية وموقعها الاستراتيجي. لكن غباء النظام الجزائري وتبعيته للمستعمر وشعوره بالدونية أمام المغرب (تذكروا صرخة أحمد بنبلة: "حكرونا إخواني حكرونا")، جعله يعمل على التفرقة لاعتقاده أن ذلك سييسر له الاستفراد بقيادة شمال إفريقيا؛ بل وإفريقيا كلها. وبهذا التوجه الأخرق، أفشل كل المخططات الواعدة وعرقل كل بوادر وإمكانيات البناء المشترك للكيان المغاربي. وما ذكَّرنا بهذا الأمر إلا لتبيان مدى عبط النظام الجزائري؛ وإلا فإن الموضوع مفهوم ومعلوم؛ فقد تناوله الساسة والخبراء بالدراسة والتحليل. ولم يكن هذا التذكير إلا لجعله مدخلا للحديث عن الفعل الإجرامي الذي ارتكبه النظام في حق الجزائر وشعبها. لن نعود إلى الحديث عما يعانيه الشعب الجزائري من فقر مدقع (فقد كتبنا في هذا الموضوع أكثر من مقال)، رغم أن أرض بلاده تزخر بثروات طبيعية هائلة؛ كما لن نتحدث عن العزلة القاتلة التي أصبحت عليها الجزائر حاليا بفعل غباء نظامها وديبلوماسيته ونخبه وإعلامه وكل من يدور في فلكه؛ وإنما سنقتصر على رسم "بورتريه" (portrait) لهؤلاء وللمواطنين الذين نجح النظام وإعلامه في برْدَعَتِهم وتدجينهم بالكذب والشعارات الفارغة والأخبار الزائفة...حتى أصبحوا كائنات هائمة على وجوهها لا تعي ما تقول ولا تدرك ما هي فيه من بؤس نفسي واجتماعي وما هي عليه من فقر فكري وانحطاط أخلاقي. وهذا البورتريه ليس من وحي الخيال؛ وإنما مستوحى من الإعلام الجزائري الرسمي وغير الرسمي، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي. فالصورة التي يقدمها هذا الإعلام – سواء للخاصة؛ أي المسؤولين (رئيس الجمهورية، وزراء، ولاة...) والسياسيين (رؤساء أحزاب، منتخبين...) والنخب (دكاترة، محللين، إعلاميين...)، أو للعامة؛ أي أفراد عاديين من الشعب الجزائري – تثير هذه الصورة لدى المتلقي إما الشفقة وإما الضحك الهستيري. ونتفهم رغبة أغلب النشطاء المغاربة في وسائل التواصل الاجتماعي، في أن يظفر عبد المجيد تبون بعهدة ثانية؛ فهم يجدون في خرجاته الإعلامية مواضيع متنوعة صالحة لتنشيط حلقات الضحك والتندر عليه وعلى النظام العسكري. ولذلك، فهم يخافون أن يفقدوا هذا المصدر الملهم للسخرية التي يثيرها إما كذبه المفضوح أو حركاته البهلوانية أو كلامه الذي ليس له "لا ساس ولا راس"... وفي بلاد رئيسها بهذه المواصفات، فكيف سيكون باقي المسؤولين والمُبرْدَعين من الشعب؟ بكل تأكيد، فإنهم سيكونون إما مثل رئيسهم، وإما يفوقونه عبطا وجهلا و، و، و؛ ذلك أن التنشئة الاجتماعية التي يسهر عليها النظام العسكري، لا يمكن أن تنتج إلا الجهل والعبط والخنوع، بغض النظر عن المستوى التعليمي للجزائري (وحسب رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، فتسعون في المائة من الجزائريين أميون) أو وضعه الاجتماعي أو وظيفته. فلا غرابة، إذن، في أن نجد في تصريحات الوزراء والولاة وخطب السياسيين وتحليلات الإعلاميين ما يشبه الهذيان، أو هو الهذيان بعينه. ولو كان الحيز يسمح، لأوردنا الكثير من الأمثلة من الإعلام الجزائري نفسه. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإعلام يعكس، بأسلوبه ومضمونه، هذا الواقع دون أن يعي بأنه يكشف عورات النظام ويُعري الهشاشة النفسية للجزائري، سواء كان هذا الأخير من الخاصة أو العامة. فالبورتريه الذي نتحدث عنه والذي استوحيناه من الإعلام الجزائري، يتميز بهيمنة الصفات المذمومة عليه من قبيل العدوانية، العنجهية، الغطرسة والتكبر أو الزلط والتفرعين، كما قال بوتفليقة، العبط، الجهل، الكذب، الغل، الحقد، سوء الخلق، وهلم جرا. ونحن، هنا، لا نريد أن نعمم هذا النموذج على كل الجزائريين، وإنما نقصد به الأشخاص الذين يقدمون هذه الصورة عن أنفسهم، سواء من خلال سلوكهم أو من خلال المواضيع التي يخوضون فيها أو من خلال طريقة تناولهم لهذه المواضيع. فالخطاب المستعمل والأسلوب المتبع في الكلام مع المخاطب أو الخصم (المتلقي المباشر)، سواء كان هذا الأخير فردا أو جماعة، يعطي صورة عن المتحدث وعن أخلاقه ومستواه الثقافي وغيره؛ وهو، على العموم، مستوى ضحل. ومن الملاحظ أن الجزائريين الذين يمثلهم البورتريه الذي رسمناه، يعانون من عدة عقد. فمنهم من يعاني من عقدة الهوية، ومن يعاني من عقدة التاريخ، ومن يعاني من عقدة الأصل، ومن يعاني من كل هذه العقد وغيرها مجتمعة. وقد اكتشفنا مؤخرا، مع قميص نهضة بركان، أن الجزائر تعاني من عقدة السيادة. ويمكن أن نضع على رأس هذه العقد، عقدة الدونية أو مركب النقص تجاه الجار الغربي. ومركب النقص هذا غالبا ما يعبر عن نفسه بالعجرفة والتكبر وادعاء القوة (القوة الضاربة، الدولة القارة، أقوى دولة في المنطقة، الخ). لكن هذه القوة الضاربة لا تتوقف عن الشكوى بحيث جعلت من نظرية المؤامرة (الجزائر مستهدفة، الجزائر محسودة...) المشجب الذي تعلق عليه كل فشلها. فالجزائري، بغض النظر عن مركزه (وزير، برلماني، قائد سياسي، إعلامي، مواطن عادي...)، يجد لذة وتنفيسا عن كربه النفسية في لعب دور الضحية. خلاصة القول، إجرام النظام العسكري في حق الجزائر وشعبها، ثابت وبارز في كل مظاهر الحياة في البلاد، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الإعلامية أو الحقوقية أو الصحة النفسية أو غيرها. وما لم يع الجزائريون بأن سبب تعاستهم وعذابهم، ليس هو المغرب كما يصور لهم النظام ذلك؛ وإنما هو هذا النظام العسكري الذي يبدد أموالهم في قضية خاسرة؛ لكنه يتمسك بها ويتخذها ذريعة لنهب المزيد من الأموال، تاركا الشعب عرضة للعطش والحرائق والجوع والأمراض، فإن أوضاعهم لن تتغير، وإنما ستزداد استفحالا.