"العدول" ليست مهنة قانونية منظمةومساعدة للقضاء فقط كما هي عليه الآن، هذا من حيث ظاهرها، أما من حيث الباطن فهي مهنة متجذرة تاريخيا، وتعد من الخطط المشكلة للنسيج الحضاري للمغاربة، فما من مدينة عريقة بمغربنا الحبيب إلا ويوجد بجوار جامعها الكبير "سماط العدول" أو ما يسميه المغاربة "دار العدول"، إنها مهنة ساهمت ولا تزال في نسج علاقات أفراد المجتمع المغربيفيما بينهم، منذالولادة إلى الوفاة، وإن أهم ما يميز هذه المهنة هو امتهانها من قبل كثير من العلماء والفقهاء بالمغرب والأندلس، وهي قبل أن تكون مهنة، فهي علم قائم بنفسه يسمى "علم التوثيق" وهو فرع من فروع علم الفقه، وضع المغاربة فيه مصنفات كثيرةأجادوا فيها وأفادوا غيرهم. وعدّ الدكتور "عبد العزيز بن عبد الله" من الكتب المصنفة بالمغرب في (معلمة الفقه المالكي، ص:21) نحوا من تسعة عشر مؤلفا، والموجود أكثر. وإن شئت مزيدا فانظر كتاب: "الوثائق والأحكام بالمغرب والأندلس في القرنين الرابع والخامس الهجريين"، للمؤلف إدريس السفياني، نشر الرابطة المحمدية للعلماء، ومقال:"علم التوثيق في المغرب والأندلس"، بمجلة دعوة الحق، العدد:183. وبما أنها معلمة من معالم المغرب فقد تم التعريف بها في موسوعة "معلمة المغرب" حيث جاء فيها: "العدول في الاصطلاح المغربي هم الموثقون المنتصبون لتلقى الشهادات وتوثيق العقود في المعاملات المختلفة. ويعرفون في الاصطلاح الأندلسي بكتاب الشروط، وتستند خطة العدالة على مقتضى الآية الكريمة التي أمرت بتقييد الدين بين الناس:{وليكتب بينكم كاتب بالعدل}(البقرة آية (281)، والإشهاد في قوله تعالى:{واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة آية (281)، وقوله تعالى:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق آية (2)، وفي آيات وأحاديث أخرى. لقد أدى استخدام الكتابة في الإشهاد والتوثيق بالمغرب الإسلامي إلى ظهور فئة الموثقين أو العدول أو كتاب الشروط أو الشهود المؤهلين، ثم ظهر علم الشروط أو علم الوثائق. وقد ازدهرت صياغة الوثائق القانونية بكل من الأندلس والمغرب على خلاف المشرق الذي لم تعرف فيه نفس المسار. ويعتبر التراث المغربي الأندلسي غنيا في هذا المجال بعددالمؤلفات التي وضعت فيه، وظلت كتب الشروط أو العقود بمثابة مراجع قانونية لصياغة الوثائق في ضوئها. وأقدم النماذج الأصلية التي وصلتنا هي وثائق أندلسية، أما النماذج المغربية فقد وصلتنا منقولة في بطون الكتب. ولاحتواء الأعراف والممارسات المحلية وإدماجها في الفقه المالكي عن طريق الوثائق ظهرت بعض النماذج التوثيقية مثل شهادة اللفيف. (معلمة المغرب، ج:18، ص:6007)". إن مهنة التوثيق العدلي لها مرجعية دينية بالأساس قبل أن تكتنفها النصوص القانونية المتعددة في مجال الأحوال الشخصية والمعاملات العقارية والتجارية، وبالتالي أصبحت تزاوج بين الفقه والقانون، ويلجها الآن أطر ذوي شواهد عليا يتلقون تكوينا مكثفا قبل أدائهم اليمين القانونية والانخراط في تلقي الشهادات. ونظرا لأهمية هذه المهنة وخطورة الدور الموكول لها في توثيق المعاملات وصون الحقوق أولاها سلاطين الدولة العلوية عناية خاصة من خلال الظهائر المنظمة لها كان آخرها الظهير الشريف رقم 1.06.56 صادر في 15 من محرم 1427ه(14فبراير 2006) بتنفيذ القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة الصادر بالجريدة الرسمية عدد 5400 بتاريخ فاتح صفر 1427 (2 مارس 2006)، ص :55. والذي جاء في ديباجته أن وضع هذا القانون "يتسم بمميزات هامة وحافظ بشكل إجمالي على أصالة خطة العدالة ومكتسباتها ورسخ عدة اجتهادات في مجال التوثيق، واستجاب في نفس الوقت لانتظارات الفاعلين في القطاع على جميع المستويات". واليوم بعد ما يقرب من 18 سنة منذ صدور آخر قانون منظم لخطة العدالة، حصل على المستوى الوطني والعالمي طفرات كثيرة على شتى المستويات، وأصبح تطوير هذه المهنة أمرا ملحا، ولن يتم هذا التطوير بنظرة أحادية للوزارة الوصية التي فرضت مسودة مشروع من طرفها وألقتها للسادة العدول لتداول أمرها في غضون خمسة عشر يوما في غياب تام لخاصية التشاركية التي ما فتئ عاهل البلاد أيده الله ونصره في الدعوة إلى تفعيلها. وقد انخرطت الهيئة الوطنية للعدول في حوار مع الوزارة بخصوص مشروع القانون من خلال لجنتها العلمية وتوافقوا على أمور سجلتها محاضر الحوار، ليتفاجأ السادة العدول بخروج المشروع على غير ما تم التوافق بشأنه. ومن خلال تصريحات السيد وزير العدل الأخيرة بمجلس المستشارين بخصوص رفض القطاعات الحكومية لبعض مطالب السادة العدول،على إثره اجتمع المكتب التنفيذي للهيئة الوطنية للعدول حيث خرج بمقرر الإضراب عن العمل لمدة أسبوع بداية من يوم الاثنين 29 يناير إلى غاية يوم الاثنين 05 فبراير كخطوة أولى تتبعها أشكال نضالية أخرى، لانتزاع الحقوق التي يطالب بها السادة العدول، وهي حقوق دستورية ومنصوص عليها في ميثاق إصلاح منظومة العدالة. إن ما يطالب به السادة العدول هو ما تم التوافق بشأنه في اجتماع الجمعية العامة بمراكش يومي ا لجمعة والسبت 19 و20 نونبر2021، باعتبارها أعلى جهاز تقريري بالهيئة الوطنية للعدول وهي كالآتي: 1) استبدال تسمية خطة العدالة بتسمية مهنة التوثيق العدلي. 2) تبني شهادة الماستر في الشريعة والقانون الخاص للترشح لمباراة مهنة التوثيق العدلي. 3) الغاء نظام الولوج المباشر لمهنة التوثيق العدلي وإقرار نظام المباراة كطريق وحيد للولوج للمهنة. 4) إلغاء حالة التنافي مع مهنة الموثق. 5) إقرار إلزامية التكوين المستمر. 6) توسيع دائرة الاختصاص المكاني وجعلها وطنيا :بخصوص العقار المحفظ والذي في طور التحفيظ وإحصاء التركات والمخارجات وعقود القسمة المتعلقة بالعقار غير المحفظ. 7) إقرار التلقي الفردي كقاعدة عامة، والتلقي الثنائي استثناء. 8) إلغاء شكل وحدة الوثيقة وإقرار نظام تحرير العقود على شكل فصول في صفحات. 9) إقرار اكتساب العقود والشهادات العدلية الصبغة الرسمية بتوقيع العدل. 10) تقليص عدد شهود اللفيف. 11) إلغاء خطاب القاضي المكلف بالتوثيق،واستثناء يعوض بالمصادقة يدويا أو الكترونيا بخصوص عقود مدونة الأسرة. 12) إدماج النساخ في مهنة التوثيق العدلي مع إخضاعهم للتكوين. لأجل تحقيق هذه المطالب أو بعضا منها -لأن مالا يدرك كله لا يترك جله-ينخرط السادة العدول جميعا في تلبية نداء الإضراب الذي دعا إليه المكتب التنفيدي للهيئة الوطنية للعدول ، لأننا في عصر لا مكان للحكرة فيه، أو التعامل بمكيالين بين المهن التوثيقية، وانعدام المنافسة الشريفة، وتمكين مهنيي التوثيق بنفس آليات الاشتغال.