التصميم: – مقدمة 1- التعمير المستدام 1.1- قطاع البناء والتدهور البيئي 2.1- مفهوم التعمير المستدام 3.1- معايير الاستدامة في التعمير 2- التراث العمراني الإسلامي بالمغرب 1.2- أهمية التراث العمراني الإسلامي بالمغرب 2.2- وضعية التراث العمراني الإسلامي بالمغرب 3- عناصر الاستدامة في التراث العمراني الإسلامي بالمغرب 1.3- نماذج الاستدامة للعناصر العمرانية للتراث العمراني الإسلامي بالمغرب 2.3- نماذج الاستدامة للعناصر الإنشائية للتراث العمراني الإسلامي بالمغرب 3.3- نماذج الاستدامة للعناصر المعمارية للتراث العمراني الإسلامي بالمغرب – خاتمة – التوصيات مقدمة: من المؤكد أن العمارة الاسلامية عمارة مستدامة، ولولا ذلك لما استمر التراث العمراني الاسلامي الى اليوم، مثل مدينة فاس التي تجاوز عمرها أكثر من 12 قرنا. وبالتالي فان السؤال الذي ينبغي ان يطرح كيف يتجلى بعد الاستدامة في بناء وتدبير هذا التراث العمراني؟ وبما أن التراث العمراني الاسلامي هو تراث كبير ومتنوع ومنتشر في أصقاع كثيرة من العالم، فإننا سنقتصر الحديث عن التراث المغربي. لكن قبل ذلك، ما المقصود باستدامة العمران؟ وما هي معايير الاستدامة؟ وبالنسبة للتراث العمراني الاسلامي بالمغرب، سنقوم أولا بالتعريف به وبالأوضاع التي يعيشها اليوم، ثم سنعرض لنماذج من عناصر الاستدامة المتوفرة فيها، على المستويات الثلاثة: المستوى العمراني والمستوى الانشائي والمستوى المعماري. وسنختم المداخلة باقتراح بعض التوصيات الهادفة الى الحفاظ على هذا الموروث الانساني المهم. 1- التعمير المستدام 1.1- قطاع البناء والتدهور البيئي يعتبر قطاع البناء من القطاعات الرئيسية المسؤولة عن التدهور البيئي، إذ يستخدم ما يقرب من 40% من الموارد العالمية بشكل أو بآخر، بما في ذلك نحو 17% من المياه العذبة، وذلك في جميع المراحل: مرحلة إنتاج مواد البناء، مرحلة البناء، مرحلة الاستغلال، ومرحلة الهدم. وهو المسؤول عن 6.4 % من إنتاج الغازات الدفيئة المتسببة في التغيرات المناخية. ويقطن في المدن الان نصف سكان العالم، والثقل الاقتصادي للدول يوجد في المدن، وبالتالي فإنها تساهم بشكل أكبر من المناطق القروية في التدهور البيئي وفي التغيرات المناخية. فالمدن تحتكر بشكل كبير استهلاك الطاقة والإنتاج الصناعي والرواج التجاري والسياحي، وهي المنتجة أكثر للنفايات السائلة والصلبة والغازية... لهذا أصبحت هناك مطالبة إلى الانتقال إلى المدن المستدامة والتعمير المستدام والبناء الأخضر. وللبناء الأخضر دور مهم في المحافظة على البيئة، إذ توفر الأبنية الخضراء نسب استهلاك تصل إلى 20% من فواتير الكهرباء والمياه، مقارنة بالبناء العادي، الأمر الذي ينعكس بشكل إيجابي على البيئة والاقتصاد عموماً. فالأبنية المصنفة على أنها "خضراء"، ستوفر نحو 30 % من الطاقة و 35-50 % من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ومن استخدامات المياه، وما يقارب 90 % من النفايات. وبالتالي فإن العمارة الخضراء تمثل أحد أهم الحلول البيئية، للحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون، ما ينعكس إيجاباً على التغيرات المناخية. 2.1- مفهوم التعمير المستدام مفاهيم التعمير المستدام والعمارة الخضراء والإنشاءات الخضراء والبناء الأخضر... كلها مفاهيم متقاربة، وما هي إلا طرق وأساليب جديدة للتصميم والتشييد تستحضر التحديات البيئية والاقتصادية التي أصبحت تؤثر على مختلف القطاعات. وتعريف التعمير المستدام مثل التنمية المستدامة، هو: توفير احتياجات الحاضر دون إغفال حق الأجيال القادمة لتوفير احتياجاتهم أيضا . ومفهوم العمارة المستدامة الخضراء دخل حيز الاستعمال والرواج والانتشار في الأوساط المهنية في قطاعات صناعة البناء والتشييد في الدول الصناعية فقط في التسعينيات من القرن المنصرم، ولكن أصول هذه الحركة كانت موجودة في العصور الماضية، إذ تم استغلال الموارد المتاحة بما فيها الأرض ومواد البناء المحلية بكفاءة عالية، كما تم استعمال معالجات بيئية ذكية ساهمت في إيجاد توافق كبير بين البناية والبيئة المحيطة. إن الفوائد البيئية-الاقتصادية التي حققتها في الماضي العمارة التقليدية هي بحد ذاتها صور وتطبيقات مبكرة لمفهوم العمارة المستدامة الخضراء. لذلك فإن المطلوب الآن هو تبني أفكار ومبادئ هذه العمارة من منظور بيئي-اقتصادي ومن ثم تطويرها وتوظيفها في المباني الحديثة بما يتلاءم مع احتياجات العصر. 3.1- معايير الاستدامة في التعمير هناك معايير كثيرة للتعمير المستدام والعمارة المستدامة، أهمها ما يلي: – استعمال الطاقات الطبيعية : إن استعمال الطاقة في المباني هو أمر ضروري، من أجل التبريد أو التدفئة حسب المناطق المناخية (المناطق الباردة أو الحارة) وحسب فصول السنة. والنتيجة المستهدفة دائما هي بلوغ الراحة الحرارية داخل البناية Thermal Comfort، وهي الإحساس البدني والنفسي بالراحة. من أجل ذلك، يتم استعمال أجهزة تعمل بالطاقات غير الطبيعية (مكيفات الهواء الكهربائية، التدفئة بالغاز)، وهو ما يسبب في أضرار مختلفة: اقتصادية وبيئية وصحية. ولتفادي ذلك، ينبغي الرجوع لاستعمال الطاقات الطبيعية، كالشمس والرياح، كما كان الأمر في السابق. لذلك، ينبغي أن تصمم البنايات بالشكل الذي يحقق لها: في فصل الشتاء: الاستفادة القصوى من التدفئة بواسطة الإشعاع الشمسي مع تقليل فقد الحرارة من داخل المبنى في فصل الصيف: توفير التبريد الطبيعي من خلال الوسائل المعمارية المختلفة – استعمال مواد بناء صديقة للبيئة: المقصود بمواد البناء الصديقة للبيئة، هي المواد التي: لا تستهلك الطاقة بكثرة، في كل المراحل: التصنيع والتركيب والصيانة لا تتسبب في التلوث داخل البناية والتي لا تضر بالصحة – الاقتصاد في استهلاك الماء: توظيف كل الوسائل والتقنيات التي تقلل من استهلاك الماء، من خلال مثلا: إعادة استعمال مياه المسابح والأحواض والنافورات، من خلال نظام مغلق إعادة استعمال المياه الرمادية Grey Water في سقي الحدائق بعد معالجتها، وهي المياه التي استعملت في المطبخ وحمامات الغسل إعادة استعمال مياه آلات الغسيل في صناديق الطرد بالمراحيض تخزين مياه الأمطار في الخزانات الأرضية – التهوية الطبيعية: البنايات الحديثة تكون في الغالب مغلقة من أجل اقتصاد الطاقة المستعملة في التدفئة أو التبريد، وهذا ما يجعل تغيير الهواء ضعيفا، مما يساهم في تلوث الهواء. لذلك لا بد من التهوية الطبيعية من خلال: انفتاح كل أجزاء البناية على الخارج توجيه النوافذ في اتجاه الرياح السائدة فتح أكثر من نافذة في كل غرفة – الإضاءة الطبيعية: تعد الإضاءة الطبيعية للبنايات القادمة من الشمس أفضل بكثير من الإضاءة الصناعية، فهي صحية (بدنيا ونفسيا) ومقتصدة للطاقة. لذلك لا بد أن تراعى العناصر التالية لتوفير الإضاءة الطبيعية: ارتفاع البنايات المتقابلة والمسافة الفاصلة بينها، بحيث لا تحجب الواحدة الإضاءة عن الأخرى أن يتم توجيه البنايات بالشكل الذي يعرضها للتشميس لمدة أطول أن تتوفر البنايات على أكبر عدد من الواجهات استعمال الفناء إن كان عدد الواجهات غير كاف الإكثار من النوافذ والفتحات المطلة على الشارع أو المطلة على البهو وبالنسبة للإضاءة الصناعية داخل البنايات، ينبغي أن يراعى ما يلي: عدم استعمالها إلا بعد أن تصبح الإضاءة الطبيعية غير كافية أو منعدمة (في الليل) استعمال مصابيح مقتصدة للطاقة استعمال أضواء قريبة من الضوء الطبيعي – استعمال الألوان المناسبة : للألوان تأثيرات سيكولوجية وفسيولوجية على الجسم البشري. كما أن لها تأثيرات بيئية لذلك من الأفضل مراعاة ما يلي: استعمال اللون الأبيض أو الألوان الفاتحة في الواجهات الخارجية من أجل عكس Reflect الإشعاع الشمسي والتقليل من الحرارة المتسربة إلى داخل البنايات استعمال اللون الأبيض أو الألوان الفاتحة كذلك داخل الحجرات الأكثر استعمالا من أجل المساهمة في توفير إضاءة أكثر – التقليل من التلوث السمعي : للضوضاء أضرار على الصحة النفسية والجسدية، لذلك ينبغي العمل ما أمكن على عدم انتقال ضوضاء السيارات والمصانع والأسواق إلى داخل البناية، وفي نفس الوقت منع خروج الأصوات العالية أيا كان مصدرها من داخل البناية. ولتفادي ذلك لا بد من مراعاة ما يلي: إبعاد المباني السكنية عن الشوارع المكتظة ومباني الأنشطة الصناعية والتجارية إبعاد غرف النوم إلى الخلف، بحيث تطل على الفناء وليس على الواجهات الخارجية بناء جدران بسمك أكبر نشر السجاد على الأرضيات لامتصاص الصوت، أو استعمال مواد عازلة للصوت – توفير السلامة: المقصود بالسلامة حفظ الأمان للبناية حتى لا تتدهور أو تنهار، جزئيا أو كليا، وبالتالي الحفاظ على سلامة السكان المستغلين لها أو المجاورين لها أو المارين بالقرب منها، والحفاظ كذلك على ممتلكات هؤلاء جميعا. فالبنايات هي معرضة إما للحوادث البشرية كالحرائق أو الاستغلال غير العقلاني لها، وإما للكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وفيضانات وأعاصير وتسونامي وانجراف التربة. لذلك وجب مراعاة التالي: اختيار الموضع المناسب للمدن والقرى اختيار الموضع المناسب للبنايات توفير معايير المتانة للبناية، مثل التصميم المضاد للزلازل توفير وسائل الوقاية والإنقاذ داخل المباني وخارجها، مثل: سلم الإغاثة، نقط الإطفاء في المباني والشوارع... – تفادي التمايز السوسيو-مجالي : لا ينبغي أن يغفل التعمير المستدام لأحد مكونات التنمية المستدامة وهو المكون الاجتماعي. ومراعاة البعد الاجتماعي تقوم أساسا على مبدأين أساسيين، هما: عدم إقصاء أية شريحة اجتماعية وأي عنصر إثني أو ثقافي من المنتجات العمرانية سواء السكن أو المرافق أو البنيات التحتية عدم التمايز السوسيو-مجالي، أي تخصيص مناطق لشرائح أو عناصر اجتماعية مختلفة، بمعنى عدم إنتاج غيتوهات ومدن داخل المدينة الواحدة: مدينة الأغنياء ومدينة الطبقة الوسطى ومدينة الفقراء – المحافظة على الخصوصيات الحضارية والثقافية: التعمير المستدام والعمارة المستدامة يدمجان أيضا البعد الثقافي والحضاري. فالطابع العمراني للمدينة أو القرية والطابع المعماري للبنايات لا بد أن يحتفظا ببعض الخصوصيات الحضارية والثقافية لسكانها. هذه الخصوصيات يمكن إجمالها في: المرافق الدينية أشكال الواجهات التنظيم المجالي الداخلي للمساكن العناصر المعمارية والزخرفية تنظيم الأسواق ... 2- التراث العمراني الإسلامي بالمغرب يعد المغرب من الدول المهمة من حيث وفرة وتنوع التراث العمراني الإسلامي، ولكون هذا التراث مازال حيا حيث يشكل جزءا من المجال المبني الوطني المستغل حاليا سواء في الوسط الحضري أو في الوسط القروي. لكنه في نفس الوقت يعاني من عدة مشاكل تهدد باندثاره. 1.2- أهمية التراث العمراني الإسلامي بالمغرب يوجد في المغرب تراث عمراني إسلامي كبير ومتنوع، يتمثل أساسا في أكثر من ثلاثين مدينة عتيقة والمئات من التجمعات العمرانية على شكل قصور وقصبات وقلاع. ولكن المصنف منها كتراث إنساني لا يتجاوز سبعة مدن وهي: فاس، مراكش، مكناس، تطوان، الصويرة، الجديدة والرباط. بالإضافة إلى قصر واحد فقط هو قصر آيت بن حدو. كما يتوفر المغرب على أكبر مدينة عتيقة في العالم وهي مدينة فاس. وبالإضافة إلى أهميته السكنية، يوفر التراث العمراني الإسلامي المغربي نسبة كبيرة من مناصب الشغل بصفة مباشرة وبصفة غير مباشرة، أساسا في قطاعات التجارة والصناعة التقليدية والسياحة. حيث يقطن بالمدن العتيقة حوالي 400 ألف أسرة بنسبة 6.8 % من مجموع الأسر بالمغرب، ويقطن في الواحات حيث تنتشر القصور حوالي مليوني نسمة. ولكن يبقى القطاع السياحي هو الأكثر استغلالا للتراث وبوتيرة متزايدة، فالتراث العمراني والمعماري يعتبر المزار المفضل للسياح بحيث يعتبر في مجمله متحفا مفتوحا ومعاشا وبالمجان. 2.2- وضعية التراث العمراني الإسلامي بالمغرب بالرغم من الأهمية الاقتصادية والاجتماعية والسكنية التي يزخر بها النسيج العمراني الإسلامي بالمغرب، إلا أنه ومنذ سبعينات القرن الماضي بدأ يعاني من تدهور بنيانه بوتيرة سريعة، خصوصا في المدن العتيقة. ويمكن إرجاع أسباب هذا التدهور إلى عدة عوامل، أهمها: – الهجرة القروية القوية، خصوصا في مواسم الجفاف – الكثافة المرتفعة للسكان، بسبب انتشار ظاهرة التساكن – تدني المستوى السوسيو-اقتصادي للسكان، حيث أضحت المدن العتيقة مدنا للفقراء – تعقد البنية العقارية، حيث يسود الملك المشترك بسبب تجزيء المباني لكن، أمام هذه الوضعية المزرية، يمكن القول أن الاهتمام بالتراث عموما وبالتراث المبني خصوصا لا يزال محدودا، سواء من قبل القطاع العام أو القطاع الخاص أو المجتمع المدني أو من قبل مستغليه. بالرغم من وجود القوانين المحافظة على التراث، إلا أنها قوانين قديمة، وأصبحت متجاوزة، مما يتطلب تعديلها أو تغييرها لتساير المقاربات الجديدة لحماية واستغلال التراث. ولكن مع ذلك، فإن عملية تصنيف عدد من المدن العتيقة كتراث إنساني من طرف اليونيسكو، ساهمت بقدر لا بأس به في تعميم الوعي بأهمية المحافظة على التراث العمراني، وكان نتيجة ذلك إنجاز عدد من مشاريع الترميم ورد الاعتبار كترميم الأسوار والأبواب وبعض البنايات، وإنجاز الدراسات وتصاميم الإنقاذ لعدد من المدن العتيقة. ولكن أهم مشروع في هذا المجال كان وما يزال هو مشروع إنقاذ مدينة فاس. خلاصة القول: في المغرب، التراث نعيش فيه، وحان الوقت للعيش منه. أي من العيش في التراث إلى العيش من التراث، لكن مع المحافظة على هويته وأصالته. 3- عناصر الاستدامة في التراث العمراني الإسلامي بالمغرب إن استمرارية التراث العمراني الإسلامي بالمغرب حيا إلى يومنا هذا بالرغم من قدمه، دليل على كونه كان مستداما في بنائه ومستداما في تدبيره. وبعض عناصر الاستدامة لا تزال مستمرة فيه، مما يضمن له عمرا مديدا، بالرغم من تعرضه لمشاكل كثيرة أدت إلى تدهور نسبة مهمة منه. لذلك، من أجل المحافظة على هذا التراث ينبغي المحافظة على عناصر الاستدامة فيه. وعناصر الاستدامة في التراث العمراني الإسلامي بالمغرب نجدها في كل مكوناته: العمرانية والإنشائية والمعمارية. لذلك سنعمل إلى تقديم بعض نماذج الاستدامة بالنسبة لكل مكون من المكونات الثلاثة. 1.3- نماذج الاستدامة للعناصر العمرانية للتراث العمراني الإسلامي بالمغرب – التخصص الوظيفي للمجال: يقوم التعمير الإسلامي على مبدإ التخصص الوظيفي المجالي، حيث يتم الفصل بين الأحياء المخصصة للسكن وأحياء الأنشطة الحرفية والتجارية، لتوفير الهدوء والراحة للساكنة ولعدم إضرارها بمختلف مخلفات التلوث كالأدخنة والروائح الكريهة. وفي الغالب، نجد الأسواق في مركز المدينة. كما أن الأسواق والأحياء الحرفية كانت هي أيضا متخصصة، فنجد مثلا سوق الخشب وسوق الطيور وسوق الفواكه الجافة، ومنطقة النجارين ومنطقة الحدادين ومنطقة الجلود... وكانت تعقد الأسواق الأسبوعية خارج الأسوار. هذا التخصص المجالي لم يقنن في العالم إلا في القرن ال20، حيث قسمت المدينة إلى مجالات وظيفية، هي: مجال السكن، مجال العمل، مجال الترفيه، ومجال المرور أو الانتقال بين المجالات السابقة. – عدم التمايز السوسيو-مجالي : في جميع المدن والقرى العتيقة بالمغرب، لا يمكن ملاحظة أي فصل مجالي بين الشرائح الاجتماعية، ونفس الشيء بالنسبة للمكونات الإثنية والدينية والثقافية للمجتمع المغربي. والاستثناء الوحيد يتمثل في انزواء الطائفة اليهودية باختيارها في أحيائها السكنية التي كانت تسمى بالملاح، لكنها كانت تشترك مع الطوائف الأخرى في الأحياء الحرفية والتجارية. وفي بعض المدن كطنجة لا وجود أصلا للملاح. وعدم التمايز السوسيو-مجالي لم يكن يعني عدم وجود فوارق في البيوت، لكن كانت بيوت الأغنياء مختلطة مع بيوت الفقراء، والجميع كان يشترك في نفس المرافق العمومية فلم تكن هناك مدارس للأغنياء ومدارس للفقراء، كما لم تكن هناك أسواق للأغنياء وأسواق للفقراء... – الاقتصاد في المجال: مساحة المدن العتيقة كانت صغيرة مقارنة بالمدن الحديثة. والمجال كان كله مستغلا ونادرا ما تجد مساحات فارغة، والبناء عموما يكون متراصا والبنايات متلاصقة فيما بينها. ولا وجود لما يعرف الآن بالساحات العمومية إلا ما كان مخصصا للأسواق أو لأغراض عسكرية كعرض الجند، والساحات التي كانت مخصصة للعروض الفنية أو للحلق (الحلايقية باللهجة المغربية) كساحة جامع الفنا بمراكش وساحة باب أبي الجنود بفاس وساحة الهديم بمكناس. والمبدأ الذي كان وراء ذلك هو أن استهلاك المجال يتم بحسب الحاجة وبدون إسراف. – الشبكة الطرقية: تتميز الشبكة الطرقية في المدن والقرى العتيقة بضيقها والتواءاتها، بحيث يكون عرض الطريق يناسب الحاجة، ففي الأحياء السكنية تكون أضيق من الأحياء التي تنتشر فيها الأنشطة الاقتصادية والخدماتية. وهي كما هو الحال بالنسبة للشبكة الحديثة تقوم على تراتبية وفق الطلب: محاور رئيسية ومحاور ثانوية (الدرب) ومحاور ثلاثية غير نافدة (الزقاق). كما أن تفسير ضيق الطرقات يرجع لكونها في الثقافة الإسلامية مجال عمومي مخصص للمرور فقط وليس للتنزه أو للعرض التجاري (كواجهات المتاجر والمقاهي والمطاعم كما هو الحال الآن). والأسباب البيئية لضيق والتواء الطرق تتمثل في: اقتصاد المجال تكييف الهواء، حيث يتم ترطيب الهواء الساخن الذي يدخل المدينة من الخارج إنتاج الظل، الذي له دور في الحماية من أشعة الشمس الحارة. – البناء المتكتل والمتلاصق: أهم خاصية للبنايات داخل المدن والقرى العتيقة، هو التصاقها وتشكيلها لكتل كبيرة من البناء، وهو ما له منافع بيئية، تتمثل في: اقتصاد المجال الزيادة في متانة البناء تكييف الهواء أو التقليل من الانتقال الحراري – الأسوار: الأسوار من العناصر العمرانية المميزة للمدن والقرى العتيقة، فهي من البنيات التحتية الأساسية بالإضافة إلى الأبراج والأبواب. وتتميز الأسوار بالازدواجية الوظيفية، الوظيفة الأمنية إلى جانب الوظيفة البيئية، وهذه الأخيرة تتمثل في إسهامها في تكييف الهواء، ذلك أنها بسبب علوها وسماكة جدارها تحمي المدينة من الرياح الباردة أو الحارة، بحيث تخفف من قوة هبوبها وتلطفها. – الصابة: الصابة عبارة عن ممر أرضي عمومي تحت البنايات، سواء البنايات العمومية أم الخاصة كالدور السكنية. وهي أحسن مثال للاقتصاد في المجال. وهذا التداخل بين العام والخاص إن دل على شيء فهو يدل على التعاون والإيثار الذي كان يطبع السكان (المواطنة)، ويدل في نفس الوقت على الوعي البيئي الكبير الذي كان سائدا. وهي مثال أيضا لمرونة النظام العقاري والتدبير الحضري الذي ما أحوجنا إليه اليوم. – الحدائق: لم تكن الحدائق العمومية منتشرة بكثرة في المدن العتيقة، ففاسالمدينة العتيقة الأكبر كان بها حديقة عمومية واحدة وهي جنان السبيل. والمناطق الخضراء التي كانت سائدة في المدن العتيقة، هي: الحدائق المغلقة: وهي الحدائق التي كانت توجد داخل المرافق العمومية كالمساجد والمدارس، أو الحدائق الخاصة التي كانت توجد في الدور الكبيرة والتي كانت تحمل اسم "الرياض" أي الحديقة. والطابع الغالب على الحدائق هو الطابع الأندلسي الجنانات الخارجية: وهي الحقول الزراعية التي كانت تحيط بالمدينة العتيقة خارج الأسوار، مهمتها توفير الأغذية التي تتعرض للإتلاف بسبب طول المسافة مثل البقليات وبعض الفواكه عندما تكون درجة الحرارة مرتفعة، وكانت تستعمل أيضا للنزهة الجنانات الداخلية: وهي الحقول الزراعية التي كانت توجد داخل المدينة العتيقة، ما بين الأسوار والمجال المبني، وكانت مهمتها توفير الغذاء في أيام الحرب (في حالة الحصار) أكدال: وهي حقول زراعية وحدائق ملكية، تشكل جزءا من قصر السلطان 2.3- نماذج الاستدامة للعناصر الإنشائية للتراث العمراني الإسلامي بالمغرب – السمك العريض للجدران: الجدران من العناصر الإنشائية الأساسية في كل البنايات العتيقة، لأنها تقوم بوظيفتين في آن واحد: وظيفة الفصل بين الحجرات، ووظيفة الأساسات والأعمدة. وهذا ما يفسر سمكها الكبير الذي يتجاوز في الغالب نصف متر. كما أن سمك الجدران الكبير له وظيفة بيئية كذلك، بحيث يقوم بدور العازل (Isolant) الذي يكيف الهواء ويلطف من درجة الحرارة، فهو يقي البناية من الحر والقر وبالتالي يغني عن الاستعانة بأدوات التدفئة والتبريد. – الجدار المشترك: هناك خاصية تتميز بها البنايات العتيقة تتمثل في كونها لا تكتفي بأن تكون متلاصقة فيما بينها، بل تشترك في الجدار الفاصل بينها، وهذا الجدار المشترك يكون بغرض اقتصاد مواد البناء والزيادة في صلابة البناء كذلك. – مواد البناء: استعملت العمارة الإسلامية، مثلها مثل كل عمارات الحضارات القديمة، مواد البناء الموجودة في المحيط البيئي، لصعوبة نقل هذه المواد من المناطق البعيدة. ولكن اختيار مواد البناء من مجموع المواد الموجودة في الطبيعة هو الذي كان يشكل بعض التميز، فالاختيار كان على أساس أن تساهم هذه المواد في متانة البناء وأن تقوم بالوظيفة البيئية المتعلقة بتلطيف الهواء. وبالفعل فإن مواد البناء التي استعملت هي التي كانت وراء استمرار تراثنا المبني إلى الوقت الحاضر بعد قرون عديدة من الوجود ومن الاستغلال ومن التعرض لمختلف العوامل المناخية. والمواد التي استعملت كثيرا في العمارة الإسلامية بالمغرب، هي: الحجر والطين أو الطوب والجبس والخشب والقصب والقش. وكانت جدران البنايات الكبيرة والأسوار تبنى بتقنية "الركز" أو "اللوح" أو "التابية" Le pisé. 3.3- نماذج الاستدامة للعناصر المعمارية للتراث العمراني الإسلامي بالمغرب هناك نوعان من العناصر المعمارية: العناصر الأساسية والعناصر الثانوية. وتم اختيار النماذج التالية من العمارة الإسلامية بالمغرب بالنسبة لكل نوع: العناصر الأساسية: الاقتصاد في استهلاك المجال داخل البناية، الفناء، ارتفاع علو الغرف، ثم السطح العناصر الثانوية: ارتفاع طول الأبواب والنوافذ واتساعها، المشربية والنافورة – العناصر الأساسية: – الاقتصاد في استهلاك المجال داخل البناية: هو مبدأ أكثر منه عنصر معماري. وهو من المبادئ الأساسية للعمارة الإسلامية. فحجم البيت يكون حسب الحاجة، لأن البيت في الغالب يتكون من مسكن واحد ومعد لأسرة واحدة، فلم يكن هناك إسراف حتى بالنسبة للأغنياء. وما كان يصنف كسكن للأغنياء يتمثل في الرياضات والدور الكبيرة، والرياض هو البيت الكبير الذي تتوسطه حديقة أو الرياض بدل الفناء، مع وجود أو دون نافورة. – الفناء: معلوم أن البنايات العتيقة لا تنفتح على الخارج، فكل النوافذ تطل على الفناء، وذلك حفاظا على حرمة البيت وحرمة بيوت الجيران. وبما أن الفناء يتوسط البيت فجميع الغرف تطل عليه. وبالنسبة للطابق العلوي، وحتى تطل جميع الغرف أيضا على الفناء نجد هناك قنطرة تربط بين هذه الغرف وتربط بين جميع واجهات البيت الداخلية الأربع في الغالب، إذ قلما نجد بيوتا تتكون من ثلاث واجهات أو واجهتين (وذلك يكون بسبب صغر مساحة البيت). لذلك كلما اتسعت مساحة البيت اتسعت مساحة الفناء. كما نجد في الغالب نافورة في وسط الفناء. ووظيفة الفناء البيئية تتمثل في توفير جميع الشروط الثلاثة الصحية للسكن اللائق: التهوية والتشميس والإضاءة: التهوية: فالفناء يقوم بتلطيف الجو حيث يتلقى الهواء البارد الذي ينفذ إلى جميع الغرف ويلطف من حرارتها التشميس: أشعة الشمس تصل كل الواجهات وبالتالي جميع الغرف الإضاءة: فهي تتوفر على مدار النهار وبالنسبة لجميع الغرف وللفناء أيضا تأثير إيجابي على نفسية قاطني المسكن، حيث بإمكانهم النظر إلى السماء في جميع الأوقات، وهذا ما لا يتوفر في البنايات الحديثة. كما أنه يمثل فضاء المعيشة اليومية ومكان للعب الأطفال. – ارتفاع علو الغرف: تتميز البنايات العتيقة بارتفاع علو طوابقها مقارنة بالبنايات الحديثة، لدرجة أننا نجد في الوقت الحالي يقوم بعض السكان إلى زيادة طوابق إضافية (عشوائية) فيها من خلال تقسيم كل طابق أصلي إلى قسمين. وهذا العلو المرتفع له دور بيئي أيضا بحيث يمكن الغرف من الحصول على أكبر قدر من التهوية والتشميس والإضاءة. – السطح: يعتبر السطح، بعد الفناء، من فضاءات المعيشة. فهو له استعمالات كثيرة خصوصا من طرف النساء، حتى أنها كانت تنتقل من بيت إلى آخر عبره. لذلك، فأرضيته تكون مسطحة وليست مائلة. وفي السطح كذلك نجد أقفاص الدواجن وبعض النباتات المنزلية. – العناصر الثانوية: – ارتفاع طول الأبواب والنوافذ واتساعها: طول ارتفاع جدران الغرف يوازيه أيضا طول ارتفاع الأبواب والنوافذ واتساعها. وهي لها وظائف بيئية كذلك: الأبواب: فعندما يكون الجو باردا أو أثناء الليل يتم استخدام الأبواب الصغيرة المركبة في الأبواب الكبيرة وهي التي تعرف بالخوخة، وعندما يكون الجو حارا يتم فتح الأبواب بالكامل النوافذ: تكون كبيرة وعريضة لاستقبال أكبر كمية من التهوية والإضاءة والتشميس – المشربية: المشربية هي عبارة عن نافذة من الخشب، المتشابك بأشكال هندسية وزخرفية، تكون في الطابق العلوي وتطل على الطريق. وهي تسمح برؤية ما بالخارج ولا تسمح بالعكس. وتسمى أيضا بالمشرفية لكونها تشرف على الطريق. وظائفها البيئية هي: تلطيف الهواء الداخل الى الغرفة او البيت دخول الإضاءة الطبيعية الخفيفة بدون نقل الحرارة تقوم بوظيفة الثلاجة حيث تقوم بتبريد جرات الماء والأطعمة التي توضع بها – النافورة: أغلب البنايات العتيقة السكنية تتوفر على نافورة في وسط الفناء. وهي تقوم بتلطيف الهواء وبتبريد الأطعمة. كما أنها تضفي جمالية أكثر على البناية، مما يحدث راحة نفسية للإنسان. وهي أيضا لها تفسير فلسفي وروحي مثل معظم العناصر المعمارية والزخرفية، حيث تجسد علاقة المسلم الكبيرة بالماء. وهي تتخذ شكلا دائريا، مع زخارف ونقوش مختلفة، وتكون في الغالب من الرخام الأبيض. خاتمة: – إن المحافظة على البيئة عموما مكلفة جدا، ولكنها أقل بكثير من الكلفة التي ينتجها التدهور البيئي، بل إن بعض أضرار هذا الأخير لا يمكن تقييمها بأية عملة وبأي مبلغ كما هو الحال بالنسبة للأضرار الصحية – حان الأوان للتفكير الجدي والعمل الجاد لمراجعة ثقافتنا العمرانية وتقنيات وأنماط البناء السائدة، في اتجاه منشئات أكثر حفاظا على البيئة وأكثر صونا لصحة مستغليها النفسية والبدنية – الغرض من هذه الدراسة ليس دعوة لإعادة إنتاج واستنساخ نماذج العمارة الإسلامية التي أنتجها أسلافنا على مر العصور، بل للاستفادة من المنهج ومن المبادئ التي كانت وراء إنتاج تلك النماذج. التوصيات: 1- العمل تنظيم ندوات ومؤتمرات علمية في موضوع العمارة الإسلامية 2- منح جوائز على هامش انعقاد هذه المؤتمرات، تمنح إلى المؤسسات أو الشخصيات التي أنجزت دراسات أو مشاريع تتعلق بالتراث الإسلامي 3- إنشاء مركز دولي للتراث الإسلامي، من مهامه: تشجيع الدراسات وتتبعها ودعم مشاريع المحافظة تنسيق الجهود الخاصة بالتعليم والتكوين إنشاء مكتبة تضم جميع ما له علاقة بالموضوع تأسيس موقع إلكتروني بمختلف اللغات 4- صياغة ميثاق العمارة الإسلامية على غرار ميثاق أثينا 5- القيام بعملية إحصاء للتراث المبني الإسلامي 6- توفير الدعم المالي والتقني والعلمي لإعداد ملفات تصنيف التراث الإسلامي كتراث إنساني من طرف اليونسكو. أحمد الطلحي خبير في البيئة والعمارة الإسلامية