قرارات التوقيف الموقت عن العمل، التي طالت مجموعة من نساء ورجال التعليم، لا يمكن إلا أن تحرك مشاعر الحسرة والأسف، وأحاسيس التضامن والتعاضد، في لحظة مفصلية، كان يفترض أن يحضر فيها صوت الوطن، إنقاذا لموسم دراسي بات على كف عفريت، وضمانا للحق المشروع لشرائح واسعة من أبناء المدرسة العمومية، في التعلم والتحصيل، على بعد أسابيع قليلة من إسدال الستار عن الدورة الأولى؛ وبقدر ما نعبر علانية عن موقف التضامن والتعاضد مع الموقوفين عبر التراب الوطني، بقدر ما نؤكد أن ما حصل وما قد يحصل من قرارات وتدابير لاحقة في حق من وضع على قائمة ما وصف بالزعماء "المحرضين"، كان منتظرا بل ومتوقعا، بعدما نبهنا في أكثر من مقال، إلى ما بات يعتري النضال من مشاهد العبث والتهور، وصور المصلحة والأنانية المفرطة، ومن صكوك "الشيطنة" و"التخوين" و"التشهير"، التي لم تطل فقط، الأساتذة الذين استحضروا العقل والحكمة، وفضلوا العودة عن طواعية إلى الأقسام، بل وامتدت حتى إلى النقابات التي حققت مكتسبات ومطالب غير مسبوقة، مهما بخسها البعض أو استهزأ منها البعض الآخر؛
العرض الحكومي ومهما حاول البعض التصدي له أو تقزيمه، فلا يمكن إلا تثمينه بعيدا عن خطاب العدمية والتبخيس، قياسا لآثاره المادية والمعنوية على الشغيلة التعليمية، بعد سنوات عجاف كان البؤس عنوانها البارز، واعتبارا لما طال مرسوم المآسي من مراجعة وتعديل، وقبل هذا وذاك، استحضارا لحجم الملفات المطلبية الفئوية وتشابكها وثقل تكلفتها المالية، ولعدم تجرؤ أي من الحكومات المتعاقبة على إيجاد الحلول الممكنة لها، دون إغفال ما نمر منه من سياق سوسيواقتصادي شاق؛
إذا كانت الحكومة قد أساءت التقدير في تدبيرها للأزمة التعليمية المستشرية ما يزيد عن الثلاثة أشهر، فمن باب الواقعية وصدق الاعتراف، من اللازم الإشارة إلى أن المتحكمين في أزرار النضال التعليمي، أساؤوا من جهتهم تدبير المرحلة، خاصة بعدما جنحت الحكومة نحو السلم وقبلت على مضض تعديل المرسوم المثير للجدل، موازاة مع إقرار زيادات أجرية غير مسبوقة لفائدة نساء ورجال التعليم بمختلف درجاتهم وأسلاكهم، وكان يفترض الجنوح إلى ما يشبه "استراحة المحارب"، ليس فقط تعبيرا عن حسن النية، بل وإعادة تدوير عجلة التعلمات حرصا على المصلحة الفضلى للتلاميذ، والتفكير في الحلول النضالية الملائمة، على الأقل في انتظار أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، فيما يتعلق بالحوار بين التنسيق النقابي واللجنة الوزارية الثلاثية المعينة من قبل رئيس الحكومة، في أفق الكشف عن هوية النظام الأساسي الجديد؛
لكن ما يؤسف له، التمادي في الإضرابات والوقفات الاحتجاجية اليومية، مما أفقد النضال حلاوته الأولى، وتحول إلى ما يشبه كأس شاي بدون "رزة" ولا "مذاق" ولا "نكهة"، خاصة بعدما أعلنت الحكومة عن عرضها المادي غير المسبوق وعن إرادتها في إخضاع مرسوم المآسي لسلطة التعديل، وكان يفترض الوقوف وقفة تأمل ما لم نقل "التقاط الأنفاس" بعد معركة نضالية حامية الوطيس، نشهد أنها كانت "بهية" و"بطولية" في أسابيعها الأولى، قبل أن تنحني سنابل الحكومة تحت الضغط والإكراه، كان يفترض تملك قدرة "التعقل" و"الحكمة" و"التبصر"، استحضارا لاعتبارات أخرى لا يمكن البتة تغييبها أو تجاهلها، من قبيل مراعاة "المصلحة الفضلى" لحوالي سبعة ملايين تلميذ/ة من أبناء البسطاء والفقراء والمعوزين، واستحضارا للمصلحة العليا للوطن، في ظل سنة دراسية باتت على المحك، وقياسا لما للاحتقان المستدام من آثار على السلم الاجتماعي وعلى النظام العام ...
التمادي في الإضرابات، وازاه خروج خيول النضال عن المضمار، في ظل الإصرار على رفع شعارات متهورة خارجة عن السياق التعليمي التربوي، كما وازاه اندلاع حملات مسعورة عصية على الفهم والإدراك، شنت في وجه بعض الأساتذة الذين اختاروا عن طواعية الرجوع إلى الأقسام الدراسية بعد الإعلان عن العرض الحكومي، تباينت أسلحتها الهدامة، بين "التخوين" و"الشيطنة" و"التشهير" و"الإهانة" و"الإساءة"، وبرز فيها زعماء ما لم نقل "أشباه زعماء"، حولوا النضال إلى عبث، بتهورهم واندفاعهم وسوء تقديرهم،
بين الإصرار على شلل المدارس العمومية وإصرار الكثير من الأساتذة على الإبقاء على حبل الود قائما مع المدارس الخصوصية، وبين خطاب العدمية وشعارات الاندفاعية، انهارت أسهم المدرسة العمومية، وتعززت مكانة التعليم الخصوصي وسطع نجم مراكز الدعم التي باتت تنتشر وتتناسل كالمقاهي، والنتيجة المأسوف عليها، جريمة صامتة مورست وتمارس في حق شرائح واسعة من أبناء التعليم العمومي، الذين فرض عليهم البقاء خارج أسوار المدارس، والعيش ما يزيد عن الثلاثة أشهر في طقوس القلق والتوجس والغموض والإبهام وانسداد الرؤية، في وقت استفاد فيه تلاميذ التعليم الخصوصي من زمن تعلماتهم كاملا؛
وإذا ما أضفنا إلى الأزمة القائمة، مخلفات جائحة كورنا، يمكن أن نستحضر واقع حال شرائح واسعة من تلاميذ التعليم العمومي، الذين ستزداد أوضاعهم التعليمية والتربوية سوء، في ظل فراغ تحصيلي امتد لدورة كاملة، وفي هذا الإطار، وبقدر ما نحمل الحكومة مسؤولية هذا الوضع المأسوف عليه، الذي كان بالإمكان التعامل معه بشكل استيباقي في لحظاته الأولى، بقدر ما نحملها من باب الإنصاف، إلى الأساتذة الذين ظلوا يراهنون – بعد نزول الحكومة من برجها العالي – على نهج "التصعيد" بالانخراط في إضرابات اندفاعية لا أحد يعرف مستقرها ومنتهاها، والاستمرار في الوفاء لشعارات قوية حبلى برسائل سياسية عميقة، لا معنى لها، في زمن نضالي، كان يقتضي تغيير الأساليب الاحتجاجية وصون المطالب المشروعة من أي خطاب حماسي يفرغ النضال من محتواه؛
الحكمة كانت تقتضي من الشغيلة، استحضار ميزان الربح والخسارة في هذه المعركة النضالية غير المسبوقة في تاريخ التعليم العمومي، وفي هذا الإطار، من الواجب الإقرار أن هذا الزخم النضالي لم يحقق كل المطالب ولم يقدم إيجابات حقيقية عن كل الملفات العالقة منذ أكثر من عقدين من الزمن، لكن من باب الواقعية والوضوح، من الواجب أيضا، الاعتراف أن أمورا كثيرة قد تحققت لفائدة الشغيلة التعليمية، ما كان لها أن تتحقق لولا هذا "الربيع النضالي التعليمي" البهي، ونرى حسب تقديرنا، أنه كان من المفروض، تثمين ما تحقق من مطالب، والجنوح الذي لا محيد عنه إلى "استراحة محارب" أو "وقفة تأمل وتفكر"، أخذا بعين الاعتبار، المصلحة الفضلى للتلاميذ الذين لا حول لهم ولا قوة، واستحضارا للمصلحة العليا للوطن، التي تقتضي الجنوح نحو "التيسير" و"الليونة" و"المسؤولية" و"الالتزام" و"التقدير"، من منطلق أن "الحق" لابد أن يوازيه "الواجب"، ومن زاوية أن "الحق" ومهما كانت مشروعيته، فلايمكنه المساس أو الإضرار بحقوق أطرافا أخرى، ونقصد هنا مصالح التلاميذ والأسر؛
الوزارة الوصية على القطاع، وبعد التوقيع على المحضر النهائي مع التنسيق النقابي الخماسي ، وما حمله الحوار من حقوق ومكاسب، وأمام استمرارية التصعيد، كان من الضروري أن تحرك العجلة، من باب الحرص على زمن التعلم وإنقاذ الموسم الدراسي من شبح "السنة البيضاء"، والنتيجة المأسوف عليها، إقدامها على إجراءات التوقيف المؤقت في حق مجموعة من الأساتذة المحتجين، بدافع الردع والتخويف، وفرض عودة إجبارية للمحتجين إلى الفصول الدراسية، وفي هذا الإطار، ومهما أبدا البعض ملاحظاته حول قرارات التوقيف من حيث سلامتها القانونية والمسطرية، نرى أن الزملاء الأساتذة الذين راهنوا على سلاح التصعيد بعد العرض الحكومي وخاصة بعد إسدال الستار عن جولات الحوار بشأن تعديل مرسوم النظام الأساسي، لم يكونوا يراهنون، إلا على "العبث" و"الفوضى" و"الاندفاعية" و"التهور"، ولو دبروا المرحلة بدقة وعناية وتبصر، لخففوا من حدة التصعيد المجاني، وعادوا إلى الفصول الدراسية بعد العطلة البنية، وفق منهجية نضالية واعية ومسؤولة، حينها كانت عودتهم، ستكون عودة الأبطال والفاتحين، أما اليوم، فالعودة، لن تكون للأسف، إلا بألوان "الخيبة" و"الإخفاق" و"التوجس" ، ما لم نقل الخوف من "مطرقة التوقيف"، وكان من المفروض، تجاوز هذا "المأزق"، لو حضر العقل والحكمة، محل "تصعيد" ارتقى إلى مستوى "العبث" ما لم نقل "الفوضى"...
وفي المجمل، قد تتراجع حمى النضال بالشوارع، وقد ينطفئ لهب الشموع في ليالي الشتاء، وقد تسترجع المدرسة العمومية عافيتها يوما بعد يوما، لكن التاريخ لن ينسى أبدا، من طعن المدرسة العمومية وأدخلها في حالة غير مسبوقة من الشلل، من لم يضيع ولو حصة تدريس واحدة في مدارس التعليم الخصوصي، من انتهك الحق المشروع لأبناء الشعب في التعلم والتحصيل، وقوى شوكة المدارس الخصوصية ومراكز الدعم، من كان أسدا شرسا في ساحات النضال، وتحول إلى "شبل وديع" داخل فصول المدارس الخصوصية طيلة أسابيع النضال، من ساهم ويساهم في صناعة جيل من التلاميذ المعاقين معرفيا ومنهجيا وقيميا وسلوكيا، ذات التاريخ، لن ينسى من تحول إلى رجل دين أو زاهد في قمة جبل، لا يتردد في توزيع صكوك "الشيطنة" و"التخوين" و"الإساءة" و"التشهير"، في حق الزملاء، الذين احتكموا إلى العقل والحكمة، وفضلوا العودة إلى الفصول الدراسية بعد العرض الحكومي، من حول النضال إلى "عبث" و"تهور"، بتصرفاته وخطابه وسوء تقديره...
لا نتهم أحدا ولا نصفي الحسابات مع أحد، لكن في ذات الآن، نرى حسب تقديرنا، أن المعارك مهكا كانت هويتها، تقتضي "العقل" و"الحكمة" و"التبصر" و"التكتيك" و"الواقعية" و"الموضوعية" وتقدير أمثل لمعايير "الربح" و"الخسارة"، ولا تقبل البتة، بخطاب "الحماسة" و"الاندفاعية" و"التهور" و"الانتحار" و"سوء التقدير"، وإذا فقد "شاي" النضال حلاوته الأولى التي ما بعدها حلاوة، فلأن "الأنانية المفرطة" و"المصلحة العمياء" باتت سيدة الموقف، ولما يغيب العقل وتهاجر الحكمة، تنقلب المفاهيم والمصطلحات، فيتحول الاندفاعي إلى بطل، والزعيم الكرتوني إلى نجم ساطع، والعاقل إلى خائن والموضوعي والواقعي إلى شيطان يستحق الرجم، وبين هذا وذاك، ضاعت المطالب الحقيقية وسط عقول مفعمة بالأنانية ونفوس مشبعة بحب الذات، من قبيل الترافع ضد "الاكتظاظ" الذي بات جحيما مستداما للأساتذة والتلاميذ على حد سواء، وضد المناهج المتجاوزة والبرامج العقيمة الحاملة للبؤس والرتابة والإرهاق، و"بنيات الاستقبال" التي حولت مدارس التعليم العمومي إلى فضاءات بدون قلب ولا حياة، و"الوسائل الديدكتيكية" التي لم يعد لها مكان في زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي، و"المهارات الناعمة" أو "السوفت سكيلز" التي باتت ضرورية أكثر من أي وقت مضى، لما لها من دور في التعليم والتحصيل والتكوين وصقل العقول والشخصيات، وإعادة النظر في منظومة التقويم، وفي "ساعات التدريس"، التي لا زالت ترهق الأساتذة والتلاميذ...
وهذه القضايا والملفات وغيرها، هي جزء لا يتجزأ من معركة الكرامة، لكن غيبتها الأنانية وعزلها حب الذات، ونؤكد في خاتمة المقال، أن الحكومة كان بالإمكان أن تسيطر على الأزمة التعليمية في لحظاتها الأولى، لو استحضرت بدورها "العقل" و"الحكمة" و"المسؤولية" و"التبصر" و"المصلحة الفضلى للتلاميذ" وللوطن برمته، لكن ما حصل حصل، والجميع يتحمل الآثار والعواقب، كما يتحمل مسؤولية الخروج من النفق المسدود بأقل الأضرار الممكنة، فالمعركة اليوم، ليست خاضعة لمنطقة الربح والخسارة وكسر العظام، لأن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، وهذه المصلحة، تفرض على الحكومة التحلي بالحكمة فيما يتعلق بملف الأساتذة الموقوفين، وعلى الأساتذة الذين استنجدوا بالشموع في شتاء يناير، التعقل والرصانة وعدم اللعب بالنار، لأنها تحرق ... مع خالص التحايا لكل الأساتذة العقلاء والنزهاء والشرفاء ...، والتضامن والتعاضد مع كل الموقوفات والموقوفين، ونأمل من الوزارة، أن تستعجل تطويق هذا الملف الحارق، لأن المكان الطبيعي للأساتذة هو الفصول الدراسية وليس "المطرقة" و"السنداد"...على أمل تطوى هذه الصفحة الأليمة، ويعود ذاك التلميذ المغلوب على أمره المعزول وسط الجبال، ليربط حبال الود، مع مدرسة بلا حياة، ومع ذلك تحتضنه بكل بؤسها وأنينها، وتنتشله من قساوة الطبيعة وقساوة العزلة والإقصاء القاتل ..