لا أحتاج أن أقول إنني كلاديني، من الطبيعي جدا أن أكون ضد حماس ومشروعها الإسلامي، فهي بالنسبة لي جماعة جهادية، وليست مجرد مقاومة عادية، وإنني اعتبرت مغامرتها يوم السابع أكتوبر، لا تختلف في شيء عن مغامرات تنظيم القاعدة. مغامرات ينتشي بها بعض الأفراد السكارى بالنصر الإلهي وتدخل الملائكة... لكن يؤدي ثمنها الأبرياء من مهجهم وأرواحهم وفلذات أكبادهم وأموالهم وممتلكاتهم... مغامرات تعود بالخراب على أوطان برمتها، والتشرد على شعوب بأكملها. هذا الموقف ليس فيه أي جديد، من شخص لاديني أو حداثي أو علماني أو تنويري، تجاه جماعة إسلامية ومشروعها وأعمالها. لذلك منذ البداية كان موقفي إدانة حماس وإدانة إسرائيل بطبيعة الحال، والتعاطف إنسانيا مع الضحايا الأبرياء. كانت هذه العناصر الثلاثة، هي التي تؤطر موقفي العام، وهو موقف شخصي لا يعكس مواقف كل اللادينيين، الذين لم يتفقوا حول موقف واحد تجاه القضية، لاختلاط الدين بها اختلاطا يمنع فصلها عنه. كان هذا الموقف الذي اتخذته، موقفا مريحا إلى حد ما، شريطة أن لا يطول أمد الحرب، لأنه كلما طال أمدها، سيصبح هذا الموقف محرجا، إلى درجة أنه سيبدو منحازا ضد الفلسطينيين، إذا طالت أكثر. اعتقدت أن إسرائيل ستنفذ عملية جراحية سريعة، تستعيد مختطفيها، وتصفي حساباتها مع من هاجموها، وقد تكون هناك خسائر جانبية وضحايا أبرياء قليلون جدا، لأن العملية ستنفذ على مرأى ومسمع العالم الحر المتحضر، الذي لن تسمح قيمه الإنسانية وقوانينه العادلة، بالتمادي والتجاوز. لذلك فبالنسبة لي التعاطف الإنساني مع الضحايا المدنيين، ورفض استهدافهم، وإدانة ذلك وشجبه واستنكاره، هو الحد الذي يحفظ إنسانيتي، والنصاب الذي يبقيني منسجما مع قناعاتي ومبادئي، مع عدم الانجرار لأي موقف يصب في مصلحة حماس، وكل هذا مشروط بقصر أمد العملية العسكرية. مع توالي الأيام اتضح أن إسرائيل، غير مهتمة بأسراها، ولا بخاطفيهم، وأنها تنفذ عملية إبادة جماعية بحق سكان غزة، وأنها تستهدف السكان المدنيين العزل، نساء وشيوخا وأطفالا ورضعا وخدجا، وتطلب منهم النزوح وهجرة مساكنهم، فتستهدف النازحين منهم، وتتركهم جثثا وأشلاء في الطرقات، وتستهدف الصحافيين، وتستهدف المنازل وخزانات المياه والألواح الشمسية فوق أسطحها، وتستهدف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس، وتتبع سياسة الأرض المحروقة، فتحرق الأخضر واليابس، بقنابل الفوسفور، وتدمر الآثار التاريخية، وتمنع دخول الوقود والغذاء والماء، بل وتستهدف حتى الأوكسجين الذي يستنشقه أهل غزة، فتلوثه بالغبار والغازات والدخان... هي سياسة تجويع وتهجير وإبادة، واضحة معلنة صريحة، ومستمرة على مدار الساعة، تتم على الهواء مباشرة على مرأى ومسمع العالم المتحضر في تحد واضح للقيم التي يتغنى بها، بل أصبحت عنده كصنم العجوة، يزعم أنه يقدسها، ثم ما يلبث أن يأكلها. جرائم يندى لها جبين الإنسانية، لا يمكن أن يمارسها إلا من تشبع بعقيدة دينية متطرفة، ترفع عنه الحرج، وتطمس عنده تأنيب الضمير، وتمسخ لديه الإنسانية. لقد آن الأوان لكل من لديه ذرة إنسانية، من الذين يحملون شعارات التنوير والتحديث والعلمنة، من الذين حاولوا إمساك العصى من الوسط، أو اكتفوا بالحد الأدنى من الإدانة، أو من الذين اختبأوا وراء إدانة حماس لكي لا يدينوا إسرائيل... أن يقيموا مواقفهم، ويعيدوا النظر فيها، وأن يعترفوا بكل شجاعة، أنهم أخطأوا التقييم، ولم يقفوا في الجانب الصواب، وها هي إسرائيل بجرائمها الدينية، ترفع عنهم الحرج، بعد أن ولغت في دماء الأطفال والمرضى الذين استعرضت عليهم عضلاتها وهم رقود في المستشفيات. أما أنا فقد رفعت عني إسرائيل كل الحرج، لأسمي الأسماء بمسمياتها، وأقول: إن هذا إرهاب يهودي، لم يعرف الإرهاب في تاريخه مثله. وإن هذه حرب إبادة لشعب أعزل، لم تعرف حروب الإبادات والتطهير العرقي مثلها. وإن القيم الكونية والقوانين الغربية، مجرد حبر على ورق. وإن قدرة تلك القيم والقوانين، على حماية الإنسانية، وحفظ حقوق الأبرياء، وحماية المدنيين، وحماية الأطفال، وحماية المرضى، وحماية الصحافيين، والحق في الحياة... مجرد أسطورة أنهاها وأسقطها هذا العدوان. أناشد اللادينيين والتنويريين عموما، الذين قضوا وقتا طويلا ينتقدون الإسلام وتشريعاته وحروبه، أن يتوقفوا عن ذلك، ويوجهوا سهام نقدهم للغرب وقيمه وقوانينه، ليس بقصد إسقاطها، بل بغرض إصلاحها. فلا الإسلام اليوم يشن حروبا وغزوات، ولا تشريعاته تحكم في أي شبر من الأرض، ولا تلك الغزوات تهددنا، ولا تلك التشريعات تمسنا. إن أكبر كذبة آمنا بها، أن العالم اليوم أصبح أكثر أمنا، وأكثر عدلا، وأكثر إنسانية، بسيطرة القيم الكونية والقوانين والمؤسسات الغربية، التي لن تترك مظلوما يواجه ظالمه لوحده، ولن تترك طاغيا متغطرسا، يمارس شريعة الغاب على الضعفاء، ومن لا سند ولا ظهر يحميه، فالمؤسسات الدولية تحميه، فكل شيء مقنن ومؤطر ومراقب، حتى الحروب لها قوانين، لن يستطيع أحد تجاوزها، والأسلحة منها ما هو محرم لن تستطيع أي قوة استعمالها، والأسرى لديهم اتفاقيات تحميهم، وهناك مبان وأماكن من دخلها كان آمنا، حتى وهو في أرض الحرب، فالمستشفيات والمدارس وأماكن العبادة... كلها واحات أمان، وسط أرض الحرب المشتعلة، وقد نضجت البشرية وارتقت، بعد أن تركت الدين جانبا، واعتنقت الإنسانية، وآمنت بالعلم، وهي اليوم أي البشرية، في أرقى مستوياتها وأنضج حالاتها، بعد أن تخلت عن الهمجية والخرافة والتخلف، فلا خوف على الضعفاء والأبرياء اليوم، مهما كان دينهم ومعتقداتهم وعرقهم وقوميتهم ووطنهم... لأن هناك مؤسسات وقوانين ودول تحميهم. إن هذه هي الكذبة الكبيرة التي صدقتها عقولنا، واطمأنت إليها قلوبنا، وارتاحت إليها نفوسنا، وركنت إليها ذواتنا... ثم جاءت هذه الجرائم الإسرائيلية والتواطؤ الغربي السافر والمستفز، ليكشف عنها الغطاء، ويعري سوءتها. فإذا كان من نضال وتنوير وتوعية وتثقيف... ففي فضح هذه الحروب الهمجية المعاصرة، وليس غزوات الرسول قبل خمسة عشر قرنا. وفي الوقوف مع ضحاياها الذين وجدوا أنفسهم وحيدين في عالم منافق تخلى عنهم، بل يتفرج عليهم، وليس في تذكر ضحايا بني قريظة وإقامة المآتم عليهم. وفي الدعوة لتغيير هذه القوانين، وإعادة النظر في هذه القيم، والنضال من أجل أن تكون عملية قابلة للتطبيق، وليس مجدر شعارات لذر الرماد في العيون، لا الدعوة لتغيير قوانين الشريعة، التي لا يطبقها أحد. إن حماس في هذه اللحظة بالنسبة لي، رغم إدانتي لها ورفضي لمشروعها، لا يساوي تطرفها شيئا أمام هذا الإرهاب الذي تمارسه دولة بجيشها ومؤسساتها، على مرضى ممددين على أسرتهم في المستشفيات، وهذا الإجرام الذي تمارسه على نازحين عزل، وأطفال خدج. وإذا كنت سأدين وسأحاسب حماس، فليس الآن، ليس هذا وقت ذلك نهائيا. أنا أعلم أن هذا المقال رغم أنه عادي إلى حد ما، لكنه قد يجر علي مشاكل حيث أعيش، نعم إلى هذه الدرجة، فحرية التعبير في أوروبا كذبة أخرى. وتلك قصة أخرى.