لقد سبق لي أن دونت بتاريخ 13 أبريل 2015 مقالا بعنوان "ليس دفاعا عن عبد اللطيف وهبي"، و ذلك دفاعا عن هذا الأخير الذي كان محاميا و برلمانيا ، و تعرض لهجوم شرس من طرف القضاة عقب رسالته التي وجهها اليهم تحت عنوان " رسالة إلى زملائي القضاة " منتقدا استقلال النيابة العامة عن وزارة العدل ، لاسباب ذاتية و موضوعية ، و قد كان دفاعي عن الزميل آنذاك عبد اللطيف وهبي ليس لأننا نلبس نفس الجبة ، و لكن لتشاركنا في نفس القناعات و الأفكار المرتبطة بتدبير هذا المفهوم و الموضوع التي ثبت بعد سنوات من تفعيله و تنزيله أنه لم يحقق النتائج المتوقعة على مستوى تطوير تدبير السياسة الجنائية و تحقيق الأمن القضائي . و بطبيعة الحال فإن هذا الموقف الصادر عن السيد عبد اللطيف وهبي كان ضمن سلسلة من المواقف التي كان يتبناها و يتخدها بكل جرأة مهنية بصفته محاميا و بكل شجاعة سياسية بصفته سياسيا و نائبا برلمانيا . و مرت السنوات و اعتلى السيد عبد اللطيف وهبي منصب الأمين العام لحزب الاصالة و المعاصرة الذي حقق نتائج إيجابية في الانتخابات التشريعية الأخيرة ، خولته المشاركة في التحالف الحكومي الى جانب حزب الاستقلال و التجمع الوطني للأحرار الذي يقود الحكومة ، و خولت زميلنا عبد اللطيف وهبي تعيينه في منصب وزير العدل . و هذا ما جعل جميع الزميلات و الزملاء يستبشرون خيرا بهذا التعيين ، لما يمكن أن يشكله ذلك من إمكانية لتحقيق مكاسب نوعية لفائدة مهنة المحاماة العتيدة . لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، لأنه لوحظ منذ الأيام الأولى بعد تعيين السيد وزير العدل على أنه يوجه ضربات متتالية للجسم المهني للمحاماة ، و يتهمهم اتهامات باطلة من قبيل التهرب من الضرائب أو تزييف التصريحات الضريبية ، و رغم أن اعتذر لمكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب عن هذه التصريحات ثلاث مرات متتالية في الاجتماع الأول الذي جمعهما ، الا أنه فيما بعد تمادى في إهانة المحامين عبر عدة تصريحات و قرارات و تدابير ، و يمكن التذكير في هذا الصدد بأزمة الجواز الصحي التي منع فيها الزملاء من الدخول الى المحاكم و اشترط عليهم الادلاء بهذا الجواز وفق ماجاء في المذكرة الثلاثية المشؤومة التي وقعها الى جانبه كل من المجلس الأعلى للسلطة القضائية و رئاسة النيابة العامة ، و التي اسقطها المحامين باحتجاجاتهم و تضحياتهم و نضالاتهم المستميتة . و بعد ذلك توالت الضربات عن طريق السياسة التشريعية التي انتهجتها مع مسودات قوانين مرتبطة بشكل مباشر و غير مباشر بمهنة المحاماة ، و هكذا تم اصدار مسودة قانون المسطرة المدنية التي جاءت بمقتضيات من شأنها التأثير سلبيا على اختصاصات و مهام الدفاع نحو تقليصها و المساس بالحق في الدفاع ، ثم مع صدور مسودة قانون المسطرة الجنائية الذي لم تستجب لطلبات المحامين المتعلقة بتوسيع مجال الحق في الدفاع و في الحق المحاكمة العادلة و لاسيما عدم الاستجابة لمطالب حضور المحامي أثناء مرحلة البحث التمهيدي بشكل مطلق و بدون أي قيود ، بعد ذلك صدرت مسودة مشروع قانون المهن القانونية و القضائية و كتابة الضبط التي جاءت بأحكام تخالف التزام الدولة منذ قانون مهنة المحاماة سنة 1993 بتأسيس معهد تكوين وطني خاص بالمحاماة و ليس مشتركا مع أي مهنة أخرى لا تشترك مع مهنة المحاماة في الطابع التاريخي و الرمزي و الحقوقي ، كما تضمنت مقتضيات ماسة بالاستقلال المؤسساتي و المالي و التأديبي الخاص بمؤسسة النقيب و مؤسسة مجلس الهيئة . إضافة الى الإعلان بشكل أحادي و من دون اعتماد أي مقاربة تشاركية مع المؤسسات المهنية للمحامين عن امتحان الحصول على الاهلية لولوج مهنة المحاماة ، في إجراء من شأنه إغرق مهنة المحاماة بأعداد كبيرة من المرشحين للولوج الى مهنة ليس لها بنية استقبالية ضعيفة لا تستوعب الاعداد الكبيرة التي من المتوقع ان يكون لها الحق في الالتحاق بمهنة تعيش شتى أنواع الازمات . لتختتم الحلقة الأبرز من هذا المسلسل الدرامي بتسريب نسخة من مسودة مشروع قانون مهنة المحاماة غير مقبولة شكلا لمخالفتها للمقاربة التشاركية المفروضة و الموعود بها ، و أيضا المرفوضة موضوعا لتضمنها أحكام تنتقص و تقلص من استقلالية و حصانة مهنة المحاماة . و لم ينحصر تدخل السيد وزير العدل استهدافا لمهنة المحاماة على التشريعات التي تدخل في اختصاصه ، بل حشر أنفه أيضا في التشريعات و القوانين التي لها علاقة بقطاعات وزارية أخرى بعيدة عن اختصاصات وزارة العدل ، و خير دليل على ذلك تدخله في ملف نظام الحماية الاجتماعية الذي تحاول الحكومة فرضه فرضا على مهنة المحاماة رغم تشبثهم بتعاضديتهم التي يعتزون و يفتخرون بها لتقديمها خدمات أوسع من خدمات نظام الحماية الاجتماعية و بمقابل مالي أقل بكثير مما يفرضه النظام المذكور ، و لذلك فهو كان حاضرا الى جانب الوزير المنتدب في الميزانية فوزي لقجع الذي اصبح مكلفا بهذا الملف الذي تم سحب أمر تدبيره من وزارة الشغل ، و ذلك في اللقاء الذي جمعه بمكتب جمعية هيئات المحامين بالمغرب ، و الذي أكد فيه هذا السيد فوزي لقجع أن قطار نظام الحماية الاجتماعية سيدهس الجميع و المحاماة لن تكون استثناء ، و ان التعاضدية يمكن ان تكون اطارا مؤسساتيا من أجل التغطية التكميلية فقط . و في حقيقة الأمر لم يكن يعلم المحامين بالضبط الدور الذي كان يقوم به عبد اللطيف وهبي الى جانب فوزي لقجع في التصدي لمطالبهم المشروعة المرتبطة باستثائهم من نظام الحماية الاجتماعية و احتفاظهم بتعاضذيتهم العامة . و لم يقتصر الامرعلى هذا الملف الاجتماعي ، بل إنه أقحم نفسه إقحامًا أيضا في الملف الضريبي بعدما تجاوز التصريحات المهينة للمحامين الى تفعيل إجراءات و تدابير قصد التضييق عليهم في هذا الصدد من دون مراعاة طبيعة مهنة المحاماة التي يعرفها أكثر من غيره ، و التي ترتبط بمعايير رمزية و حقوقية و إنسانية وواقعية تجعل التدابير المتخذة و التعديلات المقترحة في مشروع قانون المالية لسنة 2023 تخالف مبدأ العدالة و المساواة في المجال الضريبي و تعارض طبيعة و خصوصية مهنة المحاماة ، لا سيما أنه اعترف بعظمة لسانه على أنه هو من كان وراء هذه التعديلات المستجدة في مشروع قانون المالية للسنة المقبلة . إن كل هذه المعطيات المذكورة أعلاه ، تجعل الكثير من التساولات تطرح حول سبب هذا الاستهداف الممنهج و المتواصل على جميع المستويات المتعلقة بمهنة المحاماة سواء في الجانب القانوني أو الحقوقي أو الاقتصادي أو الاجتماعي ، و لكن مع ذلك فإن الجميع يعجز عن الإجابة عن هذه التساؤلات لا سيما أنها تصدر من وزير له صفة محام في مواجهة زملائه و أبناء جلدته . و اذا اردنا أن نجد تأويلات تبدو منطقية لتفسير هذا الوضع الغريب و الشاذ لوزيرنا غريب الأطوار ، فإن الأمر لن يخرج عن ثلاثة تفسيرات أساسية . التفسير الأول هو أن وزير العدل يفتقد للحنكة السياسية التي تجعله قادرا على تدبير وزارة بحجم وزارة العدل بكل حمولتها التاريخية و الحقوقية و موقعها المتميز بين باقي الوزارات ، حتى لو أنها لم تبقى لها السلطة على الشأن القضائي بعد استقلال السلطة القضائية . و ربما يظهر ذلك بجلاء حجم الارتباك الذي تعرفه مجالات اختصاصات وزارة العدل سواء على مستوى عدم القدرة على اخراج قوانين أساسية و مهمة في مجال العدالة ، و أيضا ما تعرفه من ارتجال على مستوى طرح هذه المشاريع قوانين و سحبها بشكل بشكل غير متوقع ، و أيضا يظهر سوء تدبير قطاع العدل من خلال وضعية المحاكم و الموظفين الذي يعيشون وضعا كارثيا أثر على دورهم في تدبير حكامة الإدارة القضائية ، و على واجبهم في مساعدة القضاء على تصريف مجال العدالة بشكل يضمن النجاعة و الفعالية . بينما التفسير الثاني الذي يمكن اسقاطه على حالة السيد الوزير ، هو أنه مجرد آلة متحكم فيها من طرف جهات معينة تحركه كيفما شاءت من أجل تحقيق غايات معينة و ترسيخ توازنات معينة على حساب طبقات و مهن معينة . و ربما وثيرة استهداف مهنة المحاماة أصبحت كبيرة و مثيرة بعد الخبر التي نشر في مجلة جون أفريك و الاشاعات التي تم تداولها بشكل كبير في أوساط الاعلام و الصحافة بالمغرب ، في شهر غشت حول وجود تعديل حكومي سيسقط رؤوس بعض الوزاراء من بينهم الوزير عبد اللطيف وهبي لفشله في تدبير القطاع الذي يشرف عليه . ذلك أنه مباشرة بعد عطلة المحامين القضائية فوجئ الجميع بقرارات و تدابير و تصريحات السيد الوزير التي كانت مرتبطة بإصدار المسودة المسربة من قانون المهنة ، و بإلاعلان عن امتحان الحصول على الاهلية للولوج الى مهنة المحاماة من جانب أحادي من دون استشارة الجمعية أو الهيئات السبعة عشرالتي جموع المحامين بالمغرب ، و اتهام رئيس الجمعية كونه هو من اقترح عليه إجراء الامتحان وهو ما كذبه هذا الأخير ، و أخيرا و ليس آخرا ماورد في مشروع قانون المالية لسنة 2022 من مستجدات ضريبية مجحفة ، و ما تبعها من تصريحات و تهديدات للسادة النقباء و لعموم المحامين و توعدهم بعدم سحب أي من مسودات و مشاريع القوانين التي قام ببلورتها تعميقا لجراح مهنة أعطته الكثير و لم يعطيها أي شي يذكر . و لذلك فهذه التغيير الكبير و الحدة و العنف الذي اصبح يمارسه السيد الوزيرعلى زملائه المحامين ربما مرده الى ضغوطات خارجة عن ارادته ، و نابعة من مساومته بين البقاء على كرسي وزارته و ما بين تسهيل تنزيل كل هذه الإطارات التشريعية السلبية على المحامين أفرادا و مؤسسات . و التفسير و التأويل الأخير ، هو المتعلق بأن الرجل ذو طبيعة نفسية و بسيكولوجية خاصة تجعل منه شخص لا يعتد بأقواله ووعوده ، لا سيما أن هذا الامر ظهر من خلال العديد من تصريحاته التي أثارت صدمة وردود فعل داخل المجتمع مثل أنه يعرف " تقاشر " التي يرتديها المغاربة ، أو ما صرح به في اجتماعه الأول مع مكتب الجمعية حينما اعتذر عن تصريحاته بكون المحامين يتهربون من الضرائب و لا يلتزمون بأداء واجبهم الوطني بهذا الخصوص ، حيث أكد لهم أنه " هبيل و مايبقاوش يديو عليه " . و لذلك فهذه التصريحات و أخرى توضح أن السيد وزير العدل غير سوي نفسيا و ان التعامل معه يفرض الحذر و عدم الالتفات الى وعوده ، و أن التنسيق و التعاون معه يبقى مسألة صعبة و غير محسوبة العواقب . إن كل الاحداث و الوقائع المذكورة أعلاه ، و ما أثارته و ستثيره على مستوى مهنة المحاماة بشكل خاص و على مجال العدالة بصفة عامة ، تجعلنا نؤكد أن هذا الشخص إضافة الى فشله في تدبير قطاع عام و حيوي و مؤثر على باقي المجالات الأخرى في البلاد ، فإنه شخص خطير اذا استمر في المسؤولية على رأس وزارة العدل ، لما يمكن أن يخلقه من تأثيرات سلبية على الأمن المهني و الأمن القانوني و الأمن القضائي الذي سيؤدي بالضرورة الى التأثير على الامن و السلم الاجتماعي و على الاستقرار الذي يعتبر من أهم مقومات بلادنا السعيدة و من أكبر مقومات رأسمالها اللامادي . و لذلك رغم أنني دافعت عنه في اطروحته حول عدم صوابية قرار استقلالية النيابة العامة و القضاء عن وزارة العدل ، الى أنني اعترف أنني كنت مخطئا في هذا الدفاع ، خاصة أنني لا يمكن أن اتخيل كيف سيكون تعامل هذا الوزير لو بقي القضاء تحت سلطته ووصايته ، لأنه من الأكيد أنه كان سيتحفنا بقرارات و تدابير غير مسبوقة و غير متوقعة و أكثر خطورة . و هذا ما يجعلني أوكد و أجزم على أنه من أجل تحقيق النجاعة و الحكامة في مجال العدالة التي تعتبر القاطرة التي تستند عليها باقي القطاعات مادام أن العدل هو أساس الملك ، و أيضا من أجل الحفاظ على السلم و الامن و الاستقرار داخل المجتمع ، فإنه يجب التعجيل بإقالة السيد عبد اللطيف وهبي من على رأس وزارة العدل ، و منحها لشخصية مسؤولة و متزنة و لرجل دولة بالمعنى الحقيقي يزن تصريحاته و يكون حكيما في قراراه ووفيا بوعوده . * الدكتور خالد الإدريسي، محام وأكاديمي