كتبنا قبل أيام، مقالا تحت عنوان "بيداغوجيا الطوبة"، وجهنا من خلاله البوصلة كاملة نحو صعلوك "تلميذ" أو "تلميذ" صعلوك، أقدم على إدخال "طوبة" إلى الحرم المدرسي بداخل "شكارة" فارغة كعقل حاملها، وأطلق لها العنان داخل الفصل الدراسي بروح عبثية عالية، وسط صيحات وقهقهات التلاميذ، في سلوك لامدني عبثي، يصعب فهمه أو محاولة فك شفراته، ما لم يتم ربطه بجائحة العبث والتهور والانحطاط، التي اجتاحت مفاصل المجتمع طولا وعرضا، أمام مرأى ومسمع صناع القرار التربوي والاجتماعي والقانوني والقضائي والأمني، بشكل فتح ويفتح شهية العابثين والمتهورين والمنحطين والمنحرفين، ليعيثوا في الأرض عبثا وانحطاطا وانحرافا وإجراما. وفي هذا الإطار، وفي ظل ارتفاع جرعات العبث وتناثر صور ومشاهد الانحلال والانحراف، ليس أمامنا من خيار، سوى تحريك البوصلة التي وجهت نحو "الصعلوك" مبدع "دراما الطوبة"، وتوجيهها بشكل اضطراري نحو واقعة رشق سائقي السيارات بالحجارة، التي كانت إحدى طرقات البرنوصي مسرحا لها مؤخرا، بكل ما حملته من تعريض لحياة المواطنين للخطر وتهديد باستعمال السلاح الأبيض وإثارة للفوضى والاضطراب، وتكريس للإحساس بانعدام الأمن، وهذه الواقعة تقتضي أكثر من أي وقت مضى، دق ناقوس الخطر، في ظل بروز أشكال وعينات من المراهقين واليافعين، باتوا يتقاسمون مائدة العبث والتهور والانحطاط والانحراف والجريمة، بشكل يجعلهم يشكلون قنابل موقوتة مهددة لأمن وسلامة وطمأنينة المواطنين، ومعكرة لصفو ما ينعم به الوطن من أمن واستقرار وطمأنينة وسكينة. فأن يبلغ العبث إلى حد استهداف سائقي السيارات بالحجارة، وتعريضهم إلى خطر الموت، وأن يصل الانحراف، درجة اعتراض سبيل مواطنين بسطاء، مثن دراجاتهم النارية وهم في الطريق إلى عملهم سعيا وراء كسب لقمة العيش، هي جرائم ثابتة معاقب عليها قانونا، وانحرافات سلوكية مرفوضة اجتماعيا ودينيا وأخلاقيا، وبالتالي لايمكن بلغة القطع، القبول بها أو التطبيع معها أو حتى محاولة إيجاد تبريرات لها، مهما كانت وضعيات وظروف من تورط فيها من منحرفين، لم نجد أي عناء في توصيفهم بالصعاليك وقطاع الطرق، بشكل قد يوحي للبعض أننا في طقس من طقوس زمن السيبة، حيث لا قانون إلا قانون الغاب، ولا سلطة إلا سلطة القوة والتسلط والقهر، فمن ينام طول النهار أو يتسكع كالصرار بين الأزقة والمقاهي والدروب، دون أن يقوم بأي جهد أو مبادرة مدرة للدخل، وفي الليل، يقطع الطرقات ويلقي الحجارة على السائقين معرضا حياتهم لخطر الموت، أو يعرض المارة للسرقة تحت التهديد بالسلاح الأبيض، لن يكون إلا من فصيلة "الصعاليك" و"قطاع الطرق". وسواء تعلق الأمر بواقعة "الطوبة" التي تم ايقافها "خارج القانون" وبمعزل عن "حالة التلبس" من قبل "تلميذ" صعلوك، وإدخالها عمدا إلى داخل الحرم المدرسي وإطلاق عنانها داخل فصل دراسي، أو بواقعة "قطاع الطرق" بالبرنوصي، فهما معا، وجهان لعملة واحدة، حاملة لمفردات "العبث" و"التهور" و"انعدام المسؤولية" و"الانحراف" و"الإجرام"، وهذا الواقع الانحرافي والإجرامي بقدر ما يقوي من منسوب القلق ويرفع من جرعات الإحساس بانعدام الأمن في أوساط المواطنين، بقدر ما يفرض التحرك على أكثر من مستوى لفك شفرات وقراءة طلاسم هذه الجائحة العبثية والانحرافية التي باتت تفرض سيطرتها على المجتمع. ودون أن نتيه بين دروب علم الإجرام وما يتحكم فيه من نظريات متعددة الزوايا، فهذا الوضع "المأسوف عليه"، يسائل بدرجة أولى، واقع حال "الأسرة المغربية" التي تراجعت أدوارها التربوية والاجتماعية بشكل لافت للنظر مع وجود الاستثناء طبعا، بل وقد رفعت الكثير من الأسر "الراية البيضا"، ولم تعد قادرة على السيطرة على تهور أبنائها، وبعضها يكتفي ب"ولد وطلق للشارع"، ويسائل ثانيا "منظومة التربية والتكوين" التي تكتفي بتلقي ضربات ما يتسكع في دروب وطرقات المجتمع من عبث وتهور وانحراف، دون أن تصل إلى مستوى تقديم البدائل التربوية الصائبة والناجعة، القادرة على كبح جماح العبث وأخواته، بل وصارت نفسها شوارع مفتوحة للعابثين والمتهورين والتائهين من "التلاميذ"، وبين "الأسرة" و"المدرسة"، لا يمكن إخراج باقي مؤسسات التنشئة الاجتماعية من دائرة المساءلة، ونخص بالذكر دور الثقافة والشباب والرياضة والأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني والمجالس العلمية والإعلام بكل مستوياته، دون إغفال الأجهزة المعنية بالتشريع والقضاء والأمن… وقبل أن نختم، نرى أن ما يحدث هنا وهناك من مظاهر الانحراف والإجرام، لايمس فقط بحياة الأشخاص وسلامة الممتلكات، بل ويشكل مساسا خطيرا بما ينعم به هذا الوطن من أمن واستقرار وطمأنينة، ويعمق الإحساس بانعدام الأمن بين المواطنين، وينسف ما تقوم به مختلف السلطات الأمنية من مجهودات مستدامة آناء الليل وأطراف النهار لنبقى ويبقى الوطن آمنا ومستقرا ومطمئنا، وفي هذا الإطار، وبقدر ما ننوه بما وصلت إليه الأجهزة المغربية من كفاءة عالية ومن إشعاع إقليمي ودولي، بقدر ما نلح على ضرورة مضاعفة الجهود للتصدي لجائحة العبث والانحراف التي باتت تنخر جسد المجتمع في صمت، حرصا على "الأمن" باعتباره دعامة محورية من دعامات "الرأسمال اللامادي الوطني"، يمكن التعويل عليها لكسب رهانات التنمية الشاملة، وخدمة للطموح الدبلوماسي والإشعاعي. وكما تمت التعبئة الوطنية لمواجهة جائحة "كوفيد 19" التي لازالت تفرض سلطتها على البلاد والعباد، نأمل أن تحضر نفس التعبئة للتصدي لجائحة العبث والجنوح والانحراف، لأنها باتت مقلقة أكثر من أي وقت مضى، ولا يسعنا إلا أن ندعو عبر هذا المقال، إلى فتح نقاش وطني أو التفكير في يوم دراسي، لتدارس الأزمة العبثية القائمة الآخذة في التمدد والانتشار، وبلورة بعض الحلول أو المقاربات التي من شأنها الدفع في اتجاه تنزيل سياسات ومخططات قادرة على استئصال شوكة العابثين والمتهورين والمنحرفين …، لأن التصدي للجريمة وإن كان من مسؤولية الأجهزة الأمنية، فإن هذه الأجهزة لن تنجح وحدها في محاصرة العبث والتهور والانحلال والجنوح والإجرام، ما لم تتحمل باقي المؤسسات والأجهزة جانبا من المسؤولية، من منطلق أن "الأمن" يبقى مسؤولية دولة ومجتمع وأفراد وجماعات …، أما "الانحراف التربوي" الذي تكون المؤسسات التعليمية مسرحا له، فندعو صناع القرار التربوي إلى اعتماد "بيداغوجيا الحزم"، واستعجال الارتقاء بالمناهج والبرامج والطرائق والحياة المدرسية وبنيات الاستقبال، وإحاطة نساء ورجال التعليم بما يلزم من ظروف الحماية وشروط التحفيز. ولايمكن أن نختم، دون تحية السلطات الأمنية التي تمكنت من وضع اليد على "الفاعلين" الذين تركوا طريق "المسؤولية" في لحظة عبث، وعرجوا بقصد أو بدونه نحو مسلك "المنحرفين" و"الصعاليك"، قبل أن تنتهي بهم رحلة العبث إلى ما وراء القضبان، ترقبا لعقوبات لن تكون إلا قاسية وصارمة قياسا لجسامة وخطورة الأفعال المقترفة، في لحظة مصيرية وحياتية، لن ينفع فيها "ندم" أو "حسرة" أو "توسل" أو "استعطاف"، وفي ذلك "عبرة لمن لا يعتبر" … وما يؤسف له، أن تنتهي الحكاية بألوان الألم، بالنسبة لمن انتهت رحلته خلف القضبان وهو في مقتبل العمر، نتيجة الإقدام على مغامرة عبثية غير محسوبة العواقب، ومن كتب عليه أن يتذوق خارج القضبان، مرارة الحسرة والآهات والعذاب والشقاء، ونقصد هنا آباء وأمهات المعنيين بالأمر .. إنها فاتورة العبث والانحراف، وضريبة الإهمال والتقصير …