فرنسيس بيكون، الفيلسوف الذي تدين له بريطانيا العظمى، وكل أوروبا ومن يدور في فلكها بعظمتها وما وصلت إليه، بواسطة العلم، من اختراق للأرض وللفضاء، كان يؤمن في فلسفته، على اعتبار أنه كان سياسيا متمرسا، أنه للوصول إلى الدولة المثالية أو المدينة الفاضلة التي تنبأ بها أفلاطون من قبل، لا بد وأن يكون الحاكم فيلسوفا والفيلسوف حاكما. ومن بين الأسباب التي دفعته، كما دفعت غيره من الفلاسفة، للاعتقاد بهذه الفكرة، هو أن الفيلسوف مادام أنه فيلسوفا بطبعه التشكيكي في كل شيء، في القوانين، وفي الأنظمة، وفي المعتقدات..، يجعله لا يخضع لأي كان مهما كلفه ذلك من ثمن.. وكأجمل مثال وأعظم يمكن سياقته هنا، هو ما حدث للفيلسوف "باروخ سبينوزا". هذا الفيلسوف العظيم، الذي قلب تاريخ المعتقدات اليهودية رأسا على عقب، خصوصا التلموذ، رغم إدانته، والحكم عليه (باللعنة)، التي أصبح من خلالها منبوذا من طرف بني جلدته، لا يقرب إليه أحد ولا يقترب هو من أحد، لا يسمع له كلام سواء كان مكتوبا أو مسموعا وغيرها من أنواع الآلام النفسية إلى درجة أن أقرب المقربين إليه تنكروا له، ومع ذلك لم يرضخ وتشبث بأفكاره التي آمنت بها الأجيال اللاحقة وجعلته يتبوأ مكانة مرموقة لم يكن يتنبأ له بها أحد.. وعلى أساس هذه الفلسفة، أي فلسفة بيكون العلمية، قوّضت جذور الأنظمة الطاغية المتجبرة في كل أوروبا من تلقاء نفسها، والملكيات الحاكمة أصبحت تسود ولا تحكم، ولا أدل على ذلك من بريطانيا نفسها، البلد الأم لهذا الفيلسوف، التي كانت فيها الملكية تسيطر على كل شيء، واليوم أصبحت رمزا أكثر منها نظاما حاكما.. والنتيجة هي ما نرى اليوم.. ولإيمانه الراسخ بهذه الحكمة، وبجدوى تحقيقها على أرض الواقع، التي أثرت في كل أوروبا، فقد دعا إلى الاهتمام بالعلم، لأنه المنطلق الوحيد نحو كل دولة مثالية ومجتمع مثالي. فالنظام التعليمي في بريطانيا، وكذلك في جميع الدول الأوربية، لم يكن في المستوى المطلوب. فقد رأى، أن هذا النظام التعليمي، العليل، يتخرج عنه أساتذة فقط، أي أساتذة يهتمون بما هو نظري، وليس علماء وباحثين في الميادين العلمية. وأن من شأن هذا، أي إصلاح النظام التعليمي بالشكل الذي كان يراه مناسبا، أن يمكّن العلماء، سواء على المستوى القريب أو البعيد، من غزو الطبيعة والتحكم فيها إلى أبعد الحدود.. ولعل ذلك هو الهدف الأسمى للبشرية جمعاء. ومن أجل هذا، رأى أن من اللازم والضروري أن تتوحد كل الجامعات البريطانية لأجل أساس واحد، وهدف واحد، هو البحث العلمي. ولكي يكون الهدف أكبر بكثير، سيكون من الأفضل لو توحدت الجهود على مستوى القارة الأوربية بأكملها، وأصبحت هي المركز العلمي للعالم بأسره. لكن لبناء هذا المشروع الكبير، والضخم، لا بد من رصد ميزانية ضخمة لم تكن متوفرة آنذاك، أو بالأحرى لم تكن الدولة مستأنسة على تخصيصها للنظام التعليمي. ونظرا لإيمان "بيكون" الراسخ بنجاح مشروعه، وبما سيعود بالنفع على الدولة وعلى البشرية قاطبة، بسطه أمام ملك بريطانيا" جيمس الأول". لأنه مشروع كبير، يحتاج تطبيقه "عناية" ملكية. وكان هذا الملك، جيمس الأول، من السهل إقناعه، ليس لأنه يحب سماع جميع أطياف كلمات التملق وحسب، ولكن لأنه كان هو أيضا عالما محبا للعلم وفخورا بقلمه أكثر من فخره بسيفه وصولجانه. وكما ينفق الأمراء وتنفق الحكومات على جواسيسهم ووكلائهم وعملائهم لتزويدهم بالمعلومات التي يحتاجون إليها، يجب عليهم أيضا الإنفاق على العلماء الذين يستجوبون أسرار الطبيعة وغوامضها، إذ كنا لا نريد أن لا نبقى جاهلين بأشياء تستحق أهمية معرفتها والاطلاع عليها. وإذا كان الاسكندر وضع مبلغا كبيرا من المال تحت تصرف أرسطو للإنفاق على صيادي الحيوانات والطيور والأسماك وغيرها، فإن هؤلاء سيكشفون أسرار الطبيعة ويستطلعون غوامضها أحق بالمساعدة والجود في الإنفاق عليهم.. وبهذه المساعدة الملكية يتم مشروع بيكون، الجديد العظيم في سنوات قليلة، وبدونها سيستغرق أجيال. وبهذه التبريرات، نجح بيكون في الوصول إلى هدفه، بالحصول على موافقة الملك، جيمس الأول، بتبني مشروعه. وكانت هذه، البداية نحو غزو الطبيعة والتحكم فيها. لقد كان بيكون صادقا في توقعاته. إذ راهن على العلم التطبيقي، وانطلق من عمق الفلسفة القديمة التي رآها المنقذ الوحيد للبشرية ولتحقيق سعادتها، ورأى أن الانحطاط التي وصلت إليه، يكمن خلف الوسائل غير الصحية والسليمة في استعمالاتها، إذ أن المنهج النظري هو الذي كان سائدا، وهو يختزن في طياته احتمالات خاطئة بنسب متفاوتة، غير أن المنهج السليم الواجب التطبيق، هو المنهج التطبيقي، أي العمل على مستوى الواقع، وهذا لن يقوم به سوى العلماء الذي يجب أن يكونوا في المقدمة، يتحملون المسؤوليات الحكومية، وليس الساسة المتنطعين الذي كان لا يثق فيهم كثيرا، لأنهم يقولون ما لا يؤمنون به في الأصل.