لقد ساهمت عوامل عديدة في تشكُّل النظام الاجتماعي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ورسم بنياته المختلفة، ما يُفسِّر تمكُّن فئة قليلة من بسط سيطرتها على المجتمع والدولة والموارد الوطنية، واستثمارها لخدمة مصالحها والارتقاء اجتماعيا، وخلق شبكة من العلاقات الدولية، والحفاظ على سلطتها واستمرارها... والعوامل التي دعَّمت سلطة الأقلِّية ورسَّخت سيطرتها على المجتمع هي نفسها التي عرقلت بروز قوى ديمقراطية فعلية قادرة على إحداث نقلة نوعية في الحياة السياسية والاجتماعية لمجتمعات هذه المنطقة. ومع غياب مثل هذه القوى، من الطبيعي ألاَّ يحدث أي تحوُّل عميق في الدولة والمجتمع... وتعود أزمة التحوُّل الديمقراطي في هذه المنطقة أساسا إلى هشاشة القوى الديمقراطية التي تشكِّل الركيزة الأساسية لإحداث التغيير السياسي والتحويل الاجتماعي. وتتمثل هذه الهشاشة والتفكّك في غياب التنظيمات الديمقراطية الفعلية، وانعدام الثقافة والقِيَم والقواعد الديمقراطية التي تُميِّزها فكرا وتنظيما وممارسة... ومن الغريب أن أغلبية من يدْعُون إلى الديمقراطية ليسوا ديمقراطيين، بل إنهم يسعون فقط إلى استخدام هذه الدعوة رأسمالا رمزيا في الصراع من أجل الاقتراب من السلطة ونيل رضاها... وإذا كانت السلطة تقوم بانفتاحات سياسية جزئية ل "تجاوز" أزماتها، فإن هؤلاء يستغلونها فقط للرفع من شأنهم ونيل ولوج محيط السلطة، ما يعني أنهم يقومون بردود فعل مصلحية دون القيام بما يمكن أن يحدِث تحوٌّلا ديمقراطيا... وبذلك فهم يسعون فقط إلى الاستفادة من الريع الناجم عن هذه الانفتاحات المحدودة التي تضطر النظم السياسية للقيام بها، حيث إنهم ليسوا وراءها، ولا يعملون على تعميقها... أضف إلى ذلك أنه لا وجود لأي صراع بينهم وبين الحاكمين، بل إنهم منخرطون في الصراع بين مجموعاتهم، وهم مستعدون لفعل أي شيء يٌقَرِّبهم من الحاكمين... لذلك، ففي غياب قوى ديمقراطية قوية ومُنظَّمة في هذه المنطقة، فمن الصعب الحديث عن وجود خيار ديمقراطي فعلي فيها... لا يعود إخفاق الانتقال الديمقراطي في هذه المنطقة إلى أسباب ثقافية فحسب، وإنما أيضا إلى تضافر عوامل سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية تسببت في غياب (أو تغييب، أو اختراق وإضعاف) القوى السياسية والاجتماعية القادرة على إنجاز التحوُّل إلى الديمقراطية. ويرى بعض الملاحظين أن الأحزاب السياسية في هذه المنطقة تسير على كرسي متحرِّك يتم تحريكه من الخلف، إذ لا إرادة لها لكونها صارت مجرد أدوات... هكذا تم تخريب هذه التنظيمات السياسية من داخلها وخارجها، حيث تم تركيبها لكي تكون بلا دور ولا تأثير في محيطها، وبذلك أٌخْرِجَت من التاريخ... ويقتضي الحديث عن هذه القوى عدم إغفال وعيها ومجموع الممارسات الفكرية والتنظيمية التي تحدِّد هويتها وعملها وقدرتها على الابتكار والحركة والإنجاز... كما أن وجودها شرطٌ لتحويل أزمات السلطة إلى مدخل للتحوُّل الديمقراطي الحضاري عبر تحقيق التعدُّدِية الفكرية والسياسية... ونظرا لغياب قوى ديمقراطية قوية في هذه المنطقة، فإن مجتمعاتها لم تدخل بعد في عملية الانتقال الديمقراطي، كما أن أزمات أنظمتها السياسية تنتهي دوما بإعادة تركيب النظم الشمولية على أسس جديدة تضمن الاستمرار لبعضها، وتُدخل أغلبها في العنف والحروب والانشقاقات الطائفية والقَبَلِية داخل الوطن الواحد... لذلك، إذا كانت مجتمعات هذه المنطقة لم تلج بعد مرحلة النظم الديمقراطية، حيث لا اعتراف بالسيادة الشعبية، ولا وجود لدولة الحق التي تضمن احترام القانون وتطبيقه بشكل متساو على كافة المواطنين، ولا تأمين للعدالة الاجتماعية من خلال إرساء نظام للتضامن يقي من تهميش الأغلبية اجتماعيا ثقافيا وسياسيا، ولا ضمان للحريات الفكرية والسياسية والتنظيمية... فذلك لأن قضية الديمقراطية لم تطرح بعد في هذه المنطقة باعتبارها معركة رئيسية لإحداث تحوٌّل عميق في المجتمع، وإنما فقط بوصفها مطالب لتوسيع هامش الحرية والمبادرة لفئات محدودة من النخب الاجتماعية. فوق ذلك، لا يتم التعامل في هذه المنطقة مع الديمقراطية بشكل جدِّي نظريا ولا عمليا، إذ لا يزال عموما التعاطي معها برؤية جامدة سواء من قِبَل بعض من يدَّعون الحداثة أو الطائفيين. فالفريق الأول يسعى فقط إلى تأصيل الديمقراطية في الثقافة العربية- الإسلامية، بالبحث عن حضورها أو غيابها في هذه الأخيرة، وفي هذه الحالة يتم اعتبار الديمقراطية عنصرا جامدا كما لو أن الفكر وحده هو الذي ينتج النظام الاجتماعي. أما الفريق الطائفي الذي تستولي عليه النظرة اللاهوتية للتاريخ والمجتمع، فينظر إلى الديمقراطية من حيث انسجامها مع الدِّين أو عدم انسجامها معه. وفي النهاية يصل الفريقان إلى النتائج ذاتها رغم تعارضهما فكريا، لأنهما يعتقدان بوجود حضارات مختلفة من حيث الخصائص ومنظومات القِيَّم والتوجهات الخاصة... ويبقى الغائب عن هاتين الثقافيتين السائدتين هو الإنسان، بكونه وعيا وقدرة على التفكير وإرادة جماعية قادرة على التأثير والفعل في بيئتها الاجتماعية والسياسية.... عبر فهم أنماط التفكير والتنظيم الجديدة واعتماد المعقول والمتَّسق منها. لذلك، فهذان الفريقان لا يعيران أيَّ اهتمام للإنسان باعتباره مؤثرا في محيطه الثقافي والمادي والحضاري والديني والطبيعي، لأنهما معا يتجاهلان الديمقراطية باعتبارها فكرة وممارسة اجتماعية وتاريخية نشأت أول الأمر في أحضان مدنية معينة، وأنها لا ترتبط مطلقا بهذه المدنية، لأنها نتاج حضاري تشارك فيه كل المدنيات... وإذا كانت للديمقراطية مبادئ وقيَّم ثابتة، فإنها ليست وصفة جاهزة ولا يوجد لها نموذج مثالي واحد ووحيد في العالم، حيث إن كل بناء ديمقراطي هو تجربة تاريخية وإبداعية خاصة. وبما أنها كذلك، فنجاحها مرتبط باستعمال الخيال وتجنٌّب الحلول المتداولة، وابتداع الأساليب والآليات الملائمة لكل ظرف خاص. فالتحوُّل الديمقراطي مسار ثقافي واجتماعي وتاريخي يفرض سيرورة صعبة ومعقدة مفتوحة على التقدم والتراجع وكذا على الفشل والنجاح. ويعود ذلك إلى أن توزيع السلطة في أي مجتمع ليس فقط مسألة نظرية وثقافية... فهو يتطلب معركة حقيقية، لأنه مرتبط بمصالح الفئات والطبقات الحاكمة القادرة على الحركة والصراع دفاعا عن مصالحها. كما أن إرساء الحريات ليس فقط قضية أخلاقية، ولكنه أساسا مسألة مرتبطة بشكل مباشر بتوزيع للموارد الوطنية، حيث كلما أرسى المواطنون حرياتهم السياسية، صار في إمكانهم كبح استئثار النخب الحاكمة بها. فضلا عن ذلك، مهما كانت طبيعة ثقافة المجتمع، فالنظام السياسي الديمقراطي لا يتحقق بدون عمل مُثابر، ولا يمكن لهذا الأخير أن يكون مفيدا وناجعا إلا إذا كان قائما على أسس عقلانية...