لا حديث في أوساط دكاترة التعليم المدرسي إلا عن أزمة ملفهم الذي عمر طويلا دون أن يجرؤ أحد من السادة الوزراء الذين تدالوا حقيبة وزراء التعليم على حله، أو على الأقل تناوله بكل ما يستحق من شجاعة وقوة وحكمة ورشد. أزمة خانقة تلك التي تعيشها هذه الفئة من رجال التعليم، أزمة لا أجد وصفا أدق لها من صفة "مجزرة" التي أوظفها إمعانا في تصوير المظلومية البشعة التي تحول حياتهم اليومية إلى مزيج من المرارة والاحتقار والشعور بالدونية والهدر والإهانة وجلد الذات. أزمة تتعدد وألوانها ومشاهدها بتعدد بواعثها والأطراف الفاعلة فيها، أزمة لا تنفصل إطلاقا عن الأزمة العامة التي يعيشها التعليم العالي ببلادنا، بل إن تموقع الجامعة المغربية في ذيل الجامعات العالمية لا يعدو أن يكون نتيجة منطقية جدا لهذا الواقع الفظيع المفروض ظلما وعدوانا على هذه النخبة المهدورة. _المشهد النفسي: بعدما قطع الأستاذ/الدكتور كل مراحل التعليم بتفوق، توج مسيرته بالحصول على أعلى شهادة أكاديمية، يفاجأ بعد كل هذا الجهد الجهيد، وبعد كل ما بذله، بأنه مازال يدور في الحلقة نفسها، وأنه لاشيء تغير في حياته، مازال يراوح مكانه، يجتر المقررات المدرسية التي حفظها عن ظهر قلب بكل هفواتها البيداغوجية وبكل أخطائها المطبعية والمعرفية، يعيش حالة من الصراع النفسي المر، تصل حد الشعور بالانفصام والاكتئاب، بل إنه يشعر حقا بأنه مُعَطَّلٌ ما دام لا يستطيع أن يخطو خطوات إلى الأمام، ويحضرني في هذا السياق تعريف الْعَطَالَة كما عرفها أحدهم: "ليست البَطَالَة أن لا تمارس أي عمل، بل البطالة أن تمارس عملا تشعر أنك تستطيع أن تمارس عملا أفضل منه."، ولعمري إن هؤلاء الدكاترة لقادرون على تقديم الأفضل والأجود متى فتحت الأبواب في وجوههم، ومتى أزيحت هذه الحواجز المصنوعة والموانع الموضوعة التي أريد لها أن تنغص عليهم فرحة الحصول على أعلى شهادة أكاديمية، وتمنعهم من الانخراط في سلك الباحثين القادرين على التفاعل الإيجابي وعلى العطاء وعلى الدفع بالبحث العلمي الوطني إلى الأمام. _المشهد الاجتماعي: لا تقل معاناة الدكتور الاجتماعية عن معاناته النفسية، بل لا تكاد الأولى تنفصل عن الثانية، ذلك أن الشعور بالمظلومية والغبن تظهر آثاره السلبية على سلوك الدكتور الاجتماعي، فيدفعه الشعور بالاغتراب إلى الانطواء والانعزال، بل قد يدفعه الشعور بالمظلومية إلى التفكير في الانتقام )الانتقام ممن ؟(، خاصة عندما يجد نفسه في وسط مدرسي اختلط فيه الحابل بالنابل، وتعددت فيه الرتب والألقاب والصفات … جميل جدا أن يبدو حامل شهادة الدكتوراه إنسانا عاديا جدا ككل الناس، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، هذا ما يُسْهِم في تحطيم تلك الحواجز الوهمية بينه وبين الآخرين… ولكن أليس منقصة ومدعاة للتعجب أن يمكث الدكتور في الثانوي التأهيلي يجتر الدروس نفسها، والكتب المدرسية نفسها سنة تلو أخرى ؟ ألا يشعر بالحرج الشديد عندما يسأله تلاميذه ببراءة: لماذا لم تلتحق بعد أستاذ بالتعليم العالي ؟ ألا يعتبر ذلك حقا نيلا جارحا من رأسماله الرمزي، وانتقاصا فاضحا من قيمة الدكتوراه التي ضحى من أجل الحصول عاليها بالغالي والنفيس، وبذل من أجلها من نفسه ومن ماله ومن راحته ليجد نفسه في آخر المطاف يدور في الدائرة نفسها. يضيع الرأسمال الرمزي الذي يمتلكه الدكتور مخلفا انعكاسات خطيرة متعددة الأبعاد: _البعد الفردي: تغمر الدكتور مشاعر الحسرة والضياع والندم، وهو يرى بأم عينيه صروح أحلامه وأبراج طموحاته تتهاوى واحدا تلو الآخر، وكأن لسان حال هذا الوضع المقلق يصرخ في وجهه: "لقد أخطأت الطريق، ما هكذا تورد الإبل." . _البعد المجتمعي: الحط من قيمة أعلى شهادة أكاديمية يقابله _ للأسف الشديد_ إعلاء من شأن التفاهة والسفالة والميوعة والانحلال، هكذا تعج قنواتنا الوطنية بأسماء ووجوه الرموز "الفنية" و"الرياضية" في مقابل تغييب تام ومقصود لكل الكفاءات الفكرية والطاقات الإبداعية، وفي ذلك رسالة قوية لأجيال المستقبل من الأطفال والشباب بأنه لا مكان لأهل الفكر والعلم والإبداع، وأن أهل الفن وأهل الرياضة هم أولى الناس بالتقدير والاحترام، كما أنهم أولاهم بالظهور والتألق. خلاصة القول إن الأزمة الخانقة التي يعيشها دكاترة التعليم المدرسي لا تعدو في نهاية المطاف أن تكون جزءا من أزمة شاملة يعيشها الوطن الجريح عامة، وتشد بخناق منظومة التربية والتكوين خاصة، وأعتقد جازما أن بداية انفراج هذه الأزمة لن تتحقق إلا بالحل الشامل والعاجل لهذا الملف، وذلك بإنصاف فئة الدكاترة وإيلائهم ما يستحقون من تقدير واحترام، وفسح المجال للاستفادة من كفاءاتهم وخبراتهم.