ما شهدته الدبلوماسية المغربية من دينامية ومن حضور وإشعاع متعدد الزوايا خاصة منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، أعطى ويعطي الانطباع أن "مغرب اليوم تغير فعلا، لكن ليس كما يريدون" كما أكد ذلك، الملك محمد السادس في خطاب الذكرى 68 لثورة الملك والشعب، وهي رسالة واضحة المعالم، موجهة إلى الجيران الأوربيين الذين لابد أن يدركوا أن مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس، ويقطعوا بشكل لا رجعة فيه، عن طباعهم السيئة وعاداتهم القبيحة التي تحكمت طيلة عقود في علاقاتهم مع المغرب، كما هي موجهة لخصوم وأعداء الوطن الخالدين، الذين حاولوا ما استطاعوا التشويش على المغرب، عبر السعي المستدام إلى عرقلة طموحه التنموي واستهداف وحدته الترابية، فلاهم عطلوا عجلة النماء المغربي، ولاهم نجحوا في فصل الصحراء عن مغربها، ولاهم انتبهوا إلى بيتهم الداخلي الذي بات مثيرا لمشاعر الرفض والقلق والسخط أكثر من أي وقت ماضي. ما وصل إليه المغرب من نجاعة دبلوماسية ومن ريادة وإشعاع إقليمي، ما كان له أن يتحقق على أرض الواقع، لولا وجود كفاءات مغربية تشتغل في صمت آناء الليل وأطراف النهار وفق رؤية متبصرة للملك محمد السادس، الذي انخرط منذ جلوسه على العرش، في دينامية إصلاحية متعددة الزوايا، وفي إطلاق العنان لعدد من المشاريع التنموية والاستراتيجية الكبرى، التي منحت وتمنح المغرب "المناعة اللازمة" التي بدونها يصعب مجابهة المؤامرات والدسائس، والوقوف الند للند أمام دول أوربية من حجم إسبانيا وألمانيا، والانخراط في تحالفات قوية وشراكات استراتيجية وازنة مع الأشقاء والأصدقاء، مبنية على الاحترام المتبادل ولغة المصالح المشتركة وفق قاعدة "رابح/رابح". المعارك التنموية والاقتصادية والدبلوماسية والأمنية التي خاضها ويخوضها المغرب على أكثر من مستوى، تقتضي جبهة داخلية موحدة ومتجانسة، ومؤسسات قوية ذات مصداقية قادرة على خدمة المواطن والدفاع عن مصالح الوطن وقضاياه الاستراتيجية، كما تقتضي إعلاما وطنيا مهنيا وأخلاقيا يرافع عن قضايا الأمة المغربية، ويكشف عن عورة خصوم وأعداء الوطن وما ينتجونه من دسائس مكشوفة، بشكل يجعل من هذا الإعلام الوطني، واجهة قوية داعمة للدولة، خاصة في هذا السياق الجيوسياسي الذي تحول معه المغرب إلى قوة إقليمية آخذة في التشكل والتنامي، من المتوقع أن يوازيها ارتفاع في جرعات الحقد والعداء والابتزاز والاستهداف، وفي هذا الإطار، يكفي أن نستحضر الحملات الإعلامية المسعورة التي قادها ويقودها الإعلام الجزائري المنبطح والتي تتأسس خطوطها التحريرية على إنتاج خطاب الادعاءات والمزاعم والأكاذيب، لاستفزاز المغرب والتحرش بوحدته الترابية والإسهام في صناعة رأي عام جزائري يضع المغرب في خانة "العدو الكلاسيكي"، وأن نستحضر أيضا، الأزمة الدبلوماسية غير المسبوقة التي اندلعت قبل أسابيع، بين الرباط ومدريد بسبب المؤامرة البطوشية، والتي سخر فيها الإعلام الإسباني والأوربي، لممارسة الابتزاز في حق المغرب، وفق خطط مدروسة، تقاطع فيها الضغط والاستعلاء والأنانية والحقد والعداء والتحرش بالوحدة الترابية، خاصة فيما يتعلق بملف المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية، دون إغفال أكذوبة "بيغاسوس" التي أبانت أن المغرب بات هدفا حقيقيا للذئاب المتربصة والكلاب الضالة. وهذه الهجمات الإعلامية المسعورة المفعمة بمشاعر الحقد والعداء، والمثقلة بالأكاذيب والمزاعم والادعاءات الكاذبة، شئنا أم أبينا، فهي مؤثرة وموجهة للرأي العام، مما يوفر بيئة حاضنة لنمو ثقافة الحقد والكراهية والعداء والابتزاز تجاه المغرب ومصالحه العليا، ويصعب على الدولة مواجهتها والتصدي لها بمفردها مهما بلغت شطارتها وجرأتها، في غياب جبهة إعلامية مواطنة، لها من الوسائل والقدرات، ما يجعلها تتصدى لمختلف ضربات الأعداء والحساد والحاقدين بالدليل والحجة والبرهان، والذين يزعجهم أن يتحول المغرب إلى قوة إقليمية مؤثرة، وإلى نموذج واعد للطموح الاقتصادي والتنموي والدبلوماسي، يمكن أن تحدو حدوه الكثير من بلدان الجنوب خاصة في العالم العربي وإفريقيا. والرهان على خلق جبهة إعلامية وطنية، يقتضي الارتقاء بمستوى القنوات التلفزية والإذاعية ذات الصلة بالقطب العمومي، وتمكينها من شروط ومتطلبات العمل، لتكون قادرة على التأثير والإشعاع والدفاع عن قضايا الوطن، والمضي قدما في اتجاه تيسير سبل فتح قنوات تلفزية وإذاعية جديدة، تقوي عضض الإعلام السمعي البصري الوطني، كما يقتضي دعم الصحافة الورقية وتمكينها من كل شروط الصمود والبقاء والتنافس، مع الرهان على الصحافة الإلكترونية التي لايمكن إغفال ما باتت تحظى به من قيمة وفاعلية وتأثير في زمن الرقمة وثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال، وعليه، فلا يمكن إلا أن نوجه البوصلة نحو الدولة التي لابد لها أن تتحمل مسؤولية الارتقاء بالمشهد الإعلامي العمومي، والحرص على استقطاب واستثمار الكفاءات الإعلامية المغربية بالمهجر، بالشكل الذي يخدم مصالح الوطن بالخارج، ونحو المؤسسات الإعلامية السمعية والبصرية والورقية والإلكترونية الوطنية، التي لابد لها أن تطور وسائل عملها، وترتقي بمستوى ما تقدمه من محتويات، لتكون قادرة على الدفاع عن الوطن وقضاياه المصيرية. والمطالبة عبر هذا المقال بضرورة حضور إعلام وطني رصين ، يواكب متغيرات السياق الجيوسياسي الذي برزت معه معالم قوة مغربية صاعدة، ليس معناه كما قد يظن البعض، أن المغرب يفتقد للإعلام المواطن، أو يعاني أزمة إعلاميين مهنيين أو مشكلة أقلام متمكنة من أدوات التحرير والتحليل الصحفي، لأن الحقل الإعلامي الوطني بكل مستوياته، تحضر فيه الكثير من الوجوه الإعلامية الوازنة التي لا يمكن إلا الافتخار بقيمتها المهنية وبحسها المواطن، وبعضها يرسم قصص نجاح في عدد من القنوات الإعلامية العربية والدولية، بل لأننا ندرك حسب تصورنا الخاص، أن الظرفية، تقتضي أكثر من أي وقت مضى، أن يتملك المغرب إعلاما مهنيا حقيقيا، واعيا بالمتغيرات الوطنية و الإقليمية والدولية، مستوعبا لقضية الوحدة الترابية في أبعادها التاريخية والقانونية والدبلوماسية، متفطنا لما يحاك ضد الوطن من مؤامرات ودسائس وأكاذيب ومزاعم، تقتضي نجاعة إعلامية قادرة على الصد، عبر إنتاج محتويات رصينة، تكشف الحقائق وتفند الأكاذيب بالدليل والحجة والبرهان، في إطار من المهنية والأخلاق والتبصر. وقبل الختم، نشير أننا لا نجرد الإعلام الوطني الرصين من مسؤولياته الداخلية، لأن "التحدي الخارجي " لايمكن فصله عن " الشأن الداخلي"، لذلك، فهذا الإعلام مدعو بشكل مستدام، للانخراط في صلب ما يعرفه المغرب من دينامية إصلاحية وتنموية، من المرتقب أن يرتفع إيقاعها في ظل "النموذج التنموي الجديد"، الذي لابد أن يكون مواكبا بإعلام مهني وأخلاقي يواكب مختلف الأوراش التنموية ويرصد المشكلات التنموية القائمة، ويفضح كل الممارسات غير المسؤولة التي من شأنها التأثير على سيرورات هذا الطموح التنموي الكبير، ولايمكن أن نترك الفرصة تمر، دون توجيه البوصلة نحو ما يشهده الحقل الإعلامي الوطني خاصة الإلكتروني، من بعض مشاهد العبث والرداءة والانحطاط والتواضع، والمؤسسات المعنية بقطاع الإعلام، وعلى رأسها المجلس الوطني للصحافة، مدعوة للتدخل، لكبح جماح العابثين والمنحطين الذين ينتهكون حرمة المهنة ويمسون بجوهر أخلاقياتها، عبر انتاج محتويات غاية في التفاهة وقمة في السخافة، ذات آثار سلبية عميقة على التربية والقيم والأخلاق والأذواق، وفي هذا الصدد، فغير مقبول أن نجد الدولة ترافع في مستويات عليا دفاعا عن الوحدة الترابية والمصالح العليا للوطن، في الوقت الذي نجد فيه "بعض الإعلام " لازال منشغلا بمظهر مغنية أو تسريحة شعرها أو "ماكياجها" أو حتى "حملها" أو "لوكها" الجديد، والبعض الآخر لازال مهووسا بالنبش في الحياة الخاصة والخوض في تفاصيل أعراض الناس، وهذه الملاحظة، لا تمنع من التنويه بالعديد من الجرائد والمواقع الإلكترونية التي تشتغل في إطار من المهنية والرصانة والأخلاقيات، وهذه المنابر الإلكترونية التي تجتهد في صمت رغم قلة ذات اليد أحيانا، مدعوة إلى المزيد من الاجتهاد وتطوير آليات ووسائل العمل، من باب مسؤولياتها المواطنة في الارتقاء بمستوى القيم والأذواق، والإسهام في تقديم محتويات مهنية، تضع المتلقي في صلب ما يعيشه المغرب من متغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وإبداعية وإشعاعية، وما يواجهه من رهانات وتحديات خارجية. ونختم بالقول، أن " مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس"، وهذا الارتقاء المزعج للكثير من الجهات، يجعل البلد مستهدفا أكثر من أي وقت مضى، كما حدث في مسرحية "بيغاسوس"، وكما حصل مع واقعة مقتل السائقين المغربيين بمالي باستعمال الرصاص في جريمة حاملة لبصمات العداء والمؤامرة والإرهاب الجبان، مما يفرض الرهان على إعلام مهني يقظ، يتصدى للمؤامرات والمناورات، ويكشف عن عورة الأعداء ويعري سوأة الحاقدين أمام العالم، ويرافع عن مصالح الوطن وقضاياه المصيرية بمهنية ومسؤولية ومواطنة وتبصر، لأن معركة مغرب اليوم، هي معركة اقتصادية وتنموية ودبلوماسية وأمنية واستخباراتية بامتياز، وهي أيضا معركة إعلامية تفرض تواجد إعلاميين مهنيين، يجيدون التصويب والتسديد والقصف والإرباك والإحراج والفضح …