بعد مدة من الترقب والانتظار، أسدل الستار -يوم الثلاثاء 25 ماي 2021 – على مهمة "اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي"، عقب ترأس جلالة الملك محمد السادس مراسيم تقديم التقرير النهائي الذي أعدته اللجنة التنموية، وبذات المناسبة، استقبل جلالته السيد "شكيب بن موسى"، رئيس هذه اللجنة، الذي قدم بين يديه نسخة من التقرير، على أن تتولى اللجنة نشره، والانخراط في عملية واسعة "لتقديم أعمالها، وشرح خلاصاتها وتوصياتها للمواطنين ومختلف الفاعلين، بكل جهات المملكة"، تماشيا والتعليمات والتوجيهات الملكية السامية، حسب ما ورد في بلاغ في الموضوع صادر عن الديوان الملكي، وهذا الحدث التنموي البارز في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، يأتي في سياقات مختلفة، يمكن حصرها في ستة سياقات كبرى : – أولا: ما أبانت عنه الممارسة التنموية طيلة عقود من الزمن، من مشكلات وأعطاب متعددة الزوايا مرتبطة أساسا بالتنمية الاجتماعية والبشرية والمجالية، مما فرض تجديد النموذج التنموي، بشكل يعطي نفسا جديدا للفعل التنموي الوطني، في اتجاه تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، والمضي قدما نحو مرحلة "المسؤولية" و"الإقلاع الشامل". -ثانيا: ما يعيشه المغرب منذ ما يزيد عن السنة من أزمة وبائية عالمية غير مسبوقة، أبانت عن حجم الأعطاب الاجتماعية ودرجة الخصاص التنموي، وفي هذا الصدد، نرى أن "لجنة بن موسى" كانت محظوظة، لأن جائحة كورونا منحتها فرصا أخرى للملاحظة والتفكير والتأمل، لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من دروس وعبر، ما كان لها أن تبرز أو تظهر بهذه القوة، لولا الجائحة التي كشفت عنوة عن الأعطاب الظاهرة والعيوب المستترة، ويفترض أن تكون هذه الدروس والعبر حاضرة بدرجات ومستويات مختلفة فيما توصلت إليه اللجنة التنموية من خلاصات ومقترحات. – ثالثا: إقدام السلطات العمومية على إغلاق المعبرين الحدوديين المرتبطين بمدينتي سبتة ومليلية المحتلتين في إطار ما تم تنزيله من إجراءات وقائية وتدابير احترازية، وهذا الإغلاق، وإن فرضته الجائحة الكورونية من حيث الشكل، فمن حيث المضمون والأبعاد، هو رؤية استراتيجية متبصرة ترمي إلى تخليص الاقتصاد الوطني عموما، ومدن وأقاليم الشمال خصوصا، من ورم "التهريب المعيشي" الذي شكل طيلة عقود من الزمن حربا ناعمة وغير معلنة على الاقتصاد الوطني، وقد برزت بسرعة تداعيات الإغلاق على السكان الشماليين الذين خرجوا إلى الاحتجاج في أكثر من مناسبة مطالبين بالشغل والكرامة، ويفترض أن تكون اللجنة التنموية، قد انتبهت إلى جائحة هذ التهريب المعيشي، وتوصلت إلى بعض الحلول الناجعة القادرة ليس فقط، على تخليص المنطقة من هذه الجائحة المقلقة، بل والارتقاء بمستوى تنميتها وإشعاعها، تعزيزا لبعدها الأورومتوسطي. – رابعا: ما حققه المغرب من مكتسبات دبلوماسية غير مسبوقة، كرست مغربية الصحراء باعتراف أمريكي تاريخي، وبإقبال متواصل للأشقاء والأصدقاء على "دبلوماسية القنصليات"، مما رفع ويرفع من قدرات المغرب الاقتصادية والاستراتيجية، ويجعل من الصحراء المغربية منطقة جذابة للتجارة والاستثمار، ومنصة مينائية أطلسية رائدة متفتحة على إفريقيا وأوربا وأمريكا وباقي العالم. – خامسا: ما أطلقه جلالة الملك محمد السادس من خطط رائدة للنهوض بمستوى الاقتصاد الوطني، بما يضمن تعافيه من تداعيات أزمة كورونا، ومن مشاريع وازنة تروم الارتقاء بمستوى التنمية البشرية والاجتماعية، ونخص بالذكر إعطاء انطلاقة "مشروع الحماية الاجتماعية" الذي يعد ثورة اجتماعية حقيقية يقودها الجالس على العرش بنجاعة وتبصر. – سادسا: ما تمر به العلاقات المغربية الإسبانية من خلاف وتوتر غير مسبوق، بسبب تورط الحكومة الإسبانية في مؤامرة وفضيحة "بن بطوش"، التي أبانت حجم ودرجة المشاكل والتحديات التي تهدد الوحدة الترابية للمملكة خاصة من جهة جيران السوء بالشرق، مما يفرض اليقظة المستدامة والرهان على التعبئة الجماعية ووحدة الصف، للتصدي بحزم لكل أشكال المناورة والابتزاز ضد المصالح العليا للوطن، موازاة مع تحصين دينامية الإصلاح والتحديث وضمان ديمومتها. وإذا كان من المبكر النبش في حفريات ما توصلت إليه " اللجنة التنموية " من خلاصات ومقترحات، أو الخوض في تفاصيل هوية النموذج التنموي الجديد، فلا يمكن لنا إلا تثمين الدينامية الإصلاحية والتنموية التي انخرط فيها المغرب منذ بداية العهد الجديد، والتنويه بالنفس التنموي الطويل والعميق للملك محمد السادس، والذي برزت معالمه الأولى بإطلاق "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية "غضون سنة 2005، مرورا بعدد من المحطات التنموية الكبرى والرائدة، من قبيل بناء "ميناء طنجة المتوسط" و"مشروع بناء ميناء الناظور غرب المتوسط"، ومشروع "الحسيمة منارة المتوسط" وإعطاء الانطلاقة لمشروع "القطار الفائق السرعة"، و"توسيع دائرة شبكة الطرق السيارة والطرق الوطنية"، وإعطاء انطلاقة مشروع واحد من أكبر المشاريع الطرقية في إفريقيا والعالم العربي، ويتعلق الأمر "بالطريق الرابط بين تزنيتوالداخلة" الذي يعد بوابة المغرب وأوربا نحو الأسواق الإفريقية الواعدة، و"المشاريع المرتبطة بالإقلاع الصناعي" التي جعلت من المغرب منصة عالمية لعدد من الصناعات وعلى رأسها السيارات والطيران . والخطط والاستراتيجيات المتعلقة بتثمين الموارد الطبيعية الوطنية من قبيل برنامج "الجيل الأخضر" و"استراتيجية غابات المغرب" و"البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي"، واستراتيجية الارتقاء بقطاع التكوين المهني عبر "برنامج مدن المهن والكفاءات"، والمشاريع المرتبطة بالنموذج التنموي للصحراء، ومنها مشاريع بناء موانئ "الداخلة" و"امهيريز" و"لكويرة" التي ستكرس المغرب قوة تجارية أطلسية ذات إشعاع إفريقي ودولي، والمشاريع الرائدة عالميا ذات الصلة بالطاقات البديلة وعلى رأسها محطة "نور ورززات" للطاقة الشمسية، التي تعد واحدة من أكبر محطات إنتاج الطاقة الشمسية في العالم، دون إغفال عدد من المشاريع التنموية المرتبطة بتجويد البنيات التحتية وتأهيل المدن، وما تمت مباشرته على امتداد العقدين الأخيرين، من إصلاحات مؤسساتية وقانونية، لايسع المجال لاستعراضها، وعلى رأسها تبني "دستور جديد" شكل خطوة مهمة في مسلسل تدعيم البناء الديمقراطي والحداثي والحقوقي. وستبلغ الاستراتيجية التنموية للملك محمد السادس مداها، من خلال إحداث "صندوق محمد السادس للاستثمار" الذي يعول عليه للنهوض بمستوى وقدرات الاقتصاد الوطني في ظل ما تعرض له من هزات بسبب جائحة كورونا، وخاصة فيما يتعلق بإطلاق مشروع "الحماية الاجتماعية" الذي يعد"ثورة ملكية اجتماعية بامتياز رائدة في إفريقيا والعالم العربي"، ترمي إلى المضي قدما في اتجاه تمتيع جميع المغاربة بالحق في التغطية الصحية والحماية الاجتماعية في أفق سنة 2025، بكل مالهذه المنجزات والمشاريع الآنية والمستقبلية، من تأثيرات مباشرة على مستوى التنمية البشرية التي يرتقب أن تتحسن مؤشراتها في ظل هذه الدينامية الإصلاحية والتنموية، ليتواصل قطار التنمية الشاملة، بالدخول في صلب "نموذج تنموي جديد" جاء بناء على رؤية ملكية متبصرة، تحكمت فيها الرغبة، في تجاوز ما أبانت عنه الممارسة التنموية طيلة عقود، من اختلالات وأعطاب ومشكلات اجتماعية، عمقت بؤر التباينات المجالية والتفاوتات الاجتماعية، بشكل توسعت معه دائرة الفقر واليأس والإحباط والإقصاء وسط فئات اجتماعية عريضة، بشكل يقلل من قيمة وشأن ما تم تحقيقه من إصلاحات ومشاريع تنموية كبرى يعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء، مما جعل من التجديد التنموي "ضرورة قصوى" أطلق الملك "محمد السادس" عنانها، بحكمة وتبصر. ومهما كانت القيمة الاقتصادية أو الاجتماعية أو التنموية أو الاستراتيجية لهذا "النموذج التنموي الجديد"، فلايمكن أن يحقق ما رسم له من أهداف وما وضع له من مقاصد وغايات، ما لم تتم إحاطته بتربة خصبة وبمناخ مناسب وآمن، يمنح له فرص الاستمرارية والحياة، وبعبارة أوضح، فهذا النموذج الذي يعول عليه لكسب رهان التنمية الشاملة، يتطلب عدة شروط موضوعية متعددة الزوايا، نلخص بعض عناوينها فيما يلي: -ضرورة توفر الإرادة الحقيقية في محاربة كل أشكال العبث والفساد الإداري والاقتصادي والسياسي، وتطهير البيت السياسي وتحديدا البيت الحزبي، من كل الممارسات المكرسة للعبث والانحطاط و النفور السياسي والعزوف الانتخابي. – الرهان على ما تزخر به الدولة من خبرات وكفاءات في الداخل كما في الخارج، لأن مغرب الغد أو "مغرب النموذج التنموي"، يقتضي القطع مع واقع الولاءات و الترضيات و التزكيات و جبر الخواطر والعلاقات في إسناد المسؤوليات والمناصب العليا. – تكريس ثقافة ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتفعيل آليات عدم الإفلات من العقاب، والمضي قدما في اتجاه تحصين القضاء وكسب رهان استقلاليته، بما يضمن إدراك دولة الحق والقانون والمساواة والعدالة الاجتماعية. – تفعيل أدوار مختلف الأجهزة المعنية بالحكامة الجيدة ومحاربة الفساد، التي لابد أن تتحمل مسؤولياتها الدستورية في تعقب الفاسدين والعابثين، في ظل قضاء حر ومستقل ونزيه وعادل. – الرهان على التطوير والتجويد المستدام للمنظومة التربوية بكل مستوياتها، التي تعد مدخلا وحيدا وأوحدا لصناعة الإنسان / المواطن، الذي يتفاعل إيجابا مع ما يعرفه البلد من دينامية تنموية وما يواجهه من رهانات وتحديات، بما يلزم من المسؤولية والتضحية والوفاء والالتزام والتضامن والجاهزية والاستعداد والمبادرة. – ضرورة الرهان على إرساء منظومة إعلامية وطنية مهنية وأخلاقية، تساهم في الارتقاء بمستوى الأذواق والقيم، وتتحمل مسؤولياتها المواطنة في مواكبة مختلف المشاريع التنموية التي ستعطى انطلاقتها بمناسبة هذا النموذج التنموي الجديد، وتوجيه البوصلة نحو ما قد يعتريها من مشكلات أو تعثرات، موازاة مع الانخراط الفعلي في الإشعاع الدبلوماسي الخارجي، وما يفرضه من يقظة ومن مواكبة وحضور مسؤول ووازن، بشكل يسمح بالتصدي لكل المناورات والمؤامرات التي تحاك ضد الوطن. وهذه الشروط وغيرها، نشدد على ضرورة حضورها، من أجل ضمان حماية هذا المشروع التنموي غير المسبوق في تاريخ المغرب، استحضارا لما نعيشه اليوم من مشكلات اجتماعية وتنموية عويصة، تقوي مشاعر اليأس والسخط والإحباط، وأحاسيس الهروب والنفور من الوطن كما حدث في مشاهد سبتةالمحتلة، وحرصا على ألا نقع في أية انتكاسة تنموية، تستدعي بعد سنوات التفكير في نموذج تنموي بديل، بكل ما لذلك من تداعيات اجتماعية واقتصادية، ومن هدر لزمن الإصلاح وخاصة من هدر للمال العام، الذي لابد أن تتم إحاطته بما يلزم من الحماية، وأن يتم تسخيره واستثماره، بما يخدم المغاربة ويقوي من قدرات الوطن. وإذا كان الإفراج عن النموذج التنموي الجديد يتزامن مع ما يسود العلاقات المغربية الإسبانية من خلاف وتوتر غير مسبوق، فنرى أن أحسن رد على الأعداء وخصوم الوحدة الترابية وعلى من لازال وفيا لخطة "ازدواجية المواقف"، هو إشهار "سلاح التنمية" في وجه كل الحاسدين والطامعين والمتربصين والمشوشين والمترددين، وهذا يضعنا أمام أربع رسائل معبرة : – رسالة أولى مربكة للأعداء الخالدين في الشرق، الذين يستنزفون الطاقات والخيرات الذاتية، لاستهداف مصالح ووحدة وأمن واستقرار بلد جار عربي إسلامي، ولايجدون حرجا أو حياء وهم يضعون اليد في يد دول أخرى كإسبانيا، ويتورطون معها في مؤامرة حقيرة ومفضوحة، لإشباع حقدهم وكراهيتهم للمغرب،بدل أن "ينعلوا الشيطان" ويحتكمون إلى سلطة العقل وعين الحكمة، بالتخلص من وهم الانفصال، وتسخير الإمكانيات المتاحة لوضع الشعب الذي خرج إلى الشوارع، في صلب التنمية والرخاء والازهار، ولمد اليد بسخاء وبحسن نية نحو بلد جار شقيق، لن يكون إلا أخا شقيقا وفيا ومخلصا ومتعاونا لما فيه خيرا للشعبين الشقيقين المغربي والجزائري، وفي ظل غباء وتهور النظام القائم، نتمنى أن يظهر في الجارة الشرقية حكماء وعقلاء، يحفظون ماء الوجه ويصوبون الرؤية ويصححون المسار. – رسالة ثانية موجهة إلى الإسبان، مفادها أن المغرب ماض بثقة وسداد وتبصر في استراتيجيته التنموية، بما يضمن تقوية قدراته الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، كما هو ماض في نهج دبلوماسية حكيمة ومسؤولة ومتبصرة مع الأشقاء والأصدقاء مبنية على قيم الأخوة الصداقة والوحدة والاستقرار والسلام والتعاون المشترك، وعلى قواعد المكاسب والمصالح المتبادلة وفق قاعدة "رابح.. رابح"، وفي إطار الاحترام التام للوحدة الترابية للمملكة، ولم يعد قادرا على تحمل المزيد من الابتزاز أو الاستفزاز، والجيران الإسبان، لامناص لهم من التخلص من عقد التاريخ المفعم بمفردات الحقد والعنصرية والكراهية والأنانية، وباستيعاب أن "مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس"، وأن "الصحراء المغربية" باتت القاعدة الصلبة التي تتأسس عليها أية رؤية للشراكة سواء مع إسبانيا أو مع غيرها. – رسالة ثالثة إلى "الاتحاد الأوربي" الذي لابد له أن يستوعب المتغيرات الإقليمية التي تشكلت معالمها بقوة بعد "أزمة الكركرات" وخاصة بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وهو مدعو إلى التنازل عن خطاب الكبرياء والابتزاز "الناعم"، والانخراط الذي لامحيد عنه في "دبلوماسية القنصليات" بدون قيد أو شرط، وإعطاء نفس جديد لما يربطه مع الرباط من علاقة تاريخية واقتصادية وأمنية واستراتيجية في إطار من الاحترام والتقدير والوضوح والشفافية والتوازن. – رسالة رابعة وأخيرة إلى الجارة الجنوبية الشقيقة موريتانيا، التي لابد لها أن تستوعب بدورها المتغيرات الجديدة التي فرضتها الدبلوماسية المغربية المتبصرة، وتتأمل بحكمة وواقعية"القوة المتنامية للمغرب في إفريقيا"، وما يمكن أن تجنيه نواكشوط من خلال تقاربها وتعاونها مع جار شقيق ومسؤول من حجم المغرب، من مكاسب اقتصادية وثقافية وأمنية واستراتيجية وتنموية تعزز إشعاعها الإفريقي خاصة في الغرب الإفريقي، ولها أن تدرك ضريبة التعويل على نظام "آل بطوش" المفلس، الذي انكشفت سوءته أمام أنظار العالم، وهو يتورط في فضيحة كبرى بكل المقاييس، غابت فيها الدولة المسؤولة والرصينة والمتزنة، وعوضها واقع العصابات الإجرامية وقطاع الطرق، ويبدو أن الجارة الشقيقة موريتانيا، بدأ يتجلى لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود في علاقاتها مع جيران السوء، واستوعبت ما بات عليه المغرب من قوة وهو يجابه دولا أوربية من حجم ألمانيا وإسبانيا دفاعا عن مصالحه الاستراتيجية، ونرى أن زيارة وزير الخارجية الموريتاني إسماعيل ولد الشيخ أحمد للمغرب يوم 24 ماي الجاري، في سياق أزمة الرباط مع مدريد، ولقائه بنظيره المغربي "ناصر بوريطة" محملا برسالة من الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني إلىجلالة الملك محمد السادس، هو خطوة رصينة يستشف من خلالها أن "نواكشوط" اقتنعت أو بدأت تقتنع أن مصالحها الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية مع الرباط، وباستقراء كلمة الوزيرين أمام وسائل الإعلام، يبدو أن هناك طموح مشترك بين الطرفين في تقوية العلاقات السياسية بين الطرفين، والارتقاء بها إلى آفاق أخرى من التعاون، خاصة على مستوى المبادلات التجارية والاستثماراتوالتعاون الثقافي وغيرها، في أفق بناء شراكة استراتيجية بين البلدين الجارين تتحقق معها أهداف التنمية والازدهار، ومقاصد الوحدة والأمن والاستقرار والسلام، ويرتقب في قادم الأيام، أن تخطو نواكشوط خطوات إيجابية بخصوص الموقف من قضية الوحدة الترابية للمملكة، انسجاما ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية واعتبارا للمتغيرات الإقليمية القائمة، وإدراكا منها في أن أية شراكة استراتيجية مع الرباط، لن تخرج إلى حيز التفعيل والتنزيل، إلا عبر "التعبير عن موقف موريتاني صريح بخصوص مغربية الصحراء"، يعبد لها طريق الانضمام إلى قطار "دبلوماسية القنصليات". وما جنته هذه الدبلوماسية المغربية خاصة بعد أزمة الكركرات، من مكاسب ترابية كرست مغربية الصحراء، ومن علاقات اقتصادية واستراتيجية وازنة، منح الرباط ما يكفي من الحزم والجرأة والقوة، لمواجهة ومجابهة بعض الدول الأوربية كإسبانيا وألمانيا التي تمادت في أعمال العداء والاستفزاز، وما أحدثه المغرب من زوبعة سياسية وإعلامية في الداخل الإسباني وصل صداها إلى البيت الأوربي بسبب فضيحة "بن بطوش"، هو مؤشر من ضمن مؤشرات أخرى تمت الإشارة إلى بعضها سلفا، يتقاطع فيها التاريخي بالدبلوماسي والاقتصادي بالتنموي والأمني بالاستراتيجي، تضعنا أمام "قوة إقليمية مغربية إفريقية"، وهذه القوة لم يتم إدراكها بالصدفة، بل هي نتاج ما حققه المغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس خلال العقدين الأخيرين من دينامية اقتصادية وتنموية، ومن إصلاحات وأوراش كبرى، ومن سياسة إفريقية وازنة كرست المغرب كثاني مستثمر في إفريقيا، ومن نجاعة دبلوماسية متبصرة غيرت المعادلات والأرقام في المنطقة، وسحبت البساط من تحت أقدام بعض الدول الأوربية كإسبانيا، التي استيقظت على جار بات أكثر قوة وأكثر عناد وأكثر إزعاج، وهذا الواقع الجديد يفرض تغيير اللهجة والخطاب والتعامل مع الرباط بما يليق بها من الاحترام والوقار والمسؤولية والتوازن، بعيدا عن "أوهام ابتزاز" لم يعد له مكان ولا زمان. هي إذن هندسة ملكية متبصرة، جمعت وتجمع بشكل أنيق ورصين بين ثنائية "التنمية الشاملة" و"الدبلوماسية الناجعة"، وبهذه الثنائية، تحول مغرب اليوم إلى "قوة إقليمية" بعمق إفريقي وحضور عربي وإشعاع واحترام دولي في ظل اعتراف أمريكي تاريخي بمغربية الصحراء، وهذا التموقع الجديد المزعج للجيران، يقتضي التعبئة الجماعية وتوحيد الجبهة الداخلية والالتفاف حول ثوابت الأمة المغربية ذات التاريخ العريق والحضارة الضاربة في القدم، في معركة تعزيز الوحدة الترابية وإدراك السمعة والكرامة والعزة والقرار السيادي الاقتصادي والتنمية الشاملة، وحماية الخيرات الوطنية والدفاع عن المصالح العليا والاستراتيجية للوطن، في ظل إصرار الأعداء والخصوم على التمادي في سياسة الاستفزاز والابتزاز والاستعلاء، ونحن نثمن القوة المتنامية للمغرب، ندرك في ذات الآن، ما نعيشه من مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وتنموية، لكن لما يتعلق الأمر بالوطن وقضايانا الاستراتيجية، فنحن نتحمل أفرادا وجماعات مسؤولية التصدي لكل المناورات والدسائس والمؤامرات التي تحاك ضد الوطن، ونرى أن الفرصة مواتية أكثر من أي وقت مضى، من أجل حسن استثمار ما وقعت فيه الجارة الشمالية من خطأ استراتيجي وهي تورط نفسها في مؤامرة "بن بطوش"، من أجل انتزاع المزيد من المكاسب الدبلوماسية التي من شأنها تحصين الوحدة الترابية وتعزيز المصالح العليا للوطن، وتكريس المغرب قوة إقليمية قادرة على فرض علاقات شراكة متوازنة مع الشركاء الأوربيين مبنية على قيم التعاون البناء والاحترام المتبادل وحسن الجوار، كما نتحمل المسؤولية الفردية والجماعية في كسب الرهانات والاختيارات الاستراتيجية للنموذج التنموي الجديد، الذي يعد طريقا سيارا نحو "مغرب جديد" قوامه المسؤولية والإقلاع الشامل، و"ثورة تنموية كبرى" من شأنها ترصيع قلادة منجزات جلالة الملك محمد السادس .. مهندس التنمية والدبلوماسية، ونختم بأن نتمنى من الله عز وجل، أن يقي الوطن، شر الأعداء الحاسدين والمتربصين والمشوشين، وكل عام والوطن بألف خير. [email protected]