مازالت الانعكاسات الصحية والتداعيات الاقتصادية والآثار الاجتماعية لجائحة كورونا مستمرة، وتتطلب مواجهتها تعبئة وطنية وتضافر جهود الجميع من أجل (1) تمنيع الدولة المغربية والرفع من مكانتها وتوطيد مكتسباتها وتعزيز إصلاحاتها الهيكلية ونجاحاتها المختلفة في غالبية المستويات، (2) فضلا عن تحصين المجتمع في أمنه واستقراره ومواصلة الاهتمام بالشعب المغربي في صحته وتعليمه وتحقيق كرامته وضمان حقه من ثمار التنمية. لقد أدت هذه الجائحة إلى أزمة صحية واقتصادية واجتماعية ونفسية وجيو-سياسية عالمية، هزت أركان النظام الدولي وأعادت النظر في مجموعة من المسلمات واليقينيات والبديهيات في المنظومة الاقتصادية العالمية، فقد أدخلت جائح كورونا العالم في أكبر أزمة عرفها التاريخ منذ الكساد العظيم 1929، وعرف 90 %من الدول انكماش في الدخل الفردي (النمو العالمي-4,4 في المائة، منطقة الأورو:-8,3)، وتداعياتها المالية والاقتصادية والاجتماعية أكبر 4 أضعاف أزمة 2008 . علاوة على بروز اضطرابات اجتماعية العالمية تمثلت مضاعفة المجاعة، وارتفاع عدد المتعرضين لنقص الغذاء إلى 265 مليون شخص (تقرير برنامج التغذية )، وسقوط نحو نصف مليار شخص في الفقر بحسب تقرير أوكسفام، بالإضافة لارتفاع البطالة العالمية، فقد أكدت تقارير منظمة العمل الدولية، تضرر 81% من القوى العاملة من الإغلاق الكبير –تقريبا 2,67 مليار شخص-، وهناك أزيد من نصف عمال العالم –حوالي مليار و600 مليون- الذين يشتغلون في القطاع غير المهيكل، مهددون بفقدان عملهم. أخذا بعين الاعتبار هذه الإكراهات العالمية وهذه التغيرات الدراماتيكية وهذه الأحداث غير المسبوقة، بالإضافة للتحديات الإقليمية والإمكانات الذاتية للمملكة ومحدودية مواردها المالية، اتخذ المغرب إجراءات مصيرية بحس ومنهج استباقي وبالحكمة المطلوبة وتقدير الأمور بقدرها، وبالسرعة المطلوبة وبالسيادة الصارمة وتقديم مصلحة وصحة وكرامة المواطن على ما سواهما بقيادة جلالة الملك حفظه الله؛ وقد ساعد هذا السلوك الرصين على تجنب الهلع الشديد والفوضى الأمنية والمشاكل الاجتماعية والانهيار الاقتصادي. وقد أصبح المغرب مضرب الأمثال في تقارير المنظمات الدولية والمؤسسات البحث العالمية متجاوزا بذلك المنافسين التقليدين ومُرسخا ريادته الإفريقية وتفوقه العربي. وقد أشاد مجلس إدارة صندوق النقد بخطوات الحكومة السريعة التي أدت إلى احتواء تداعيات كورونا الاقتصادية وخففت من الآثار الاجتماعية الناجمة عن الوباء والجفاف، وأجمع أعضاء المجلس على نجاح خطة المغرب في مواجهة الجائحة، وتتويج هذا النجاح بحملة التلقيح المجاني لكافة المغاربة. تتمثل خطة المغرب في (1) قيادة وتوجيه مباشر لجلالة الملك وإعطاء تعليماته بإحداث الحساب الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا- وصلت موارده 33 مليار درهم-، (2) وإشراف حكومي بخطة عمل مندمجة ومنسقة على جميع المستويات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والمالية والنقدية والعلمية والتواصلية واعتماد التتبع والتقييم الدائم والمستمر لها، (3) تعزيز الحماية الوطنية الثلاثية وتحقيق التوازن الصعب بينها والمتمثلة في حماية أرواح المغاربة، وحماية الاقتصاد الوطني والمقاولات المغربية، وحماية كرامة الشعب المغربي، وذلك باتخاذ عدة إجراءات عملية لتحقيق هذه الأهداف. وفي هذا الصدد، قدمت الحكومة 23 مليار درهم من الدعم لما يفوق 5 ملايين أسرة، 45% منها بالعالم القروي – الأسر المستفيدة وغير المستفيدة من خدمة الراميد- وكذلك دعم مالي شهري لحوالي مليون أجير، وفي وقت قياسي وظرف استثنائي، وهو ما لم يستطع المغرب القيام به لسنوات عديدة.. وتخصيص 3 ملايير درهم لتأهيل المنظومة الصحية ولإعداد 47 وحدة استشفائية خصيصا لمرضى كورونا، توفر ما مجموعه 1826، علاوة على تعبئة 1214 سرير للإنعاش في المستشفيات العمومية وإقامة 5 مستشفيات ميدانية بقدرة استيعابية تقدر 4239 سرير، علاوة على شراء العديد التجهيزات والمعدات الطبية للمستشفيات –أزيد من1000 سرير إنعاش و550 جهاز تنفس وأجهزة أخرى-؛ كما خصصت الحكومة 4,2 مليار درهم برسم 2021 الشروع في تعميم التغطية الصحية الإجبارية الذي سيستفيد منه في هذه السنة والسنة المقبلة 22 مليون مستفيد إضافي من التأمين الأساسي على المرض والذي سيغطي تكاليف التطبيب واقتناء الأدوية والاستشفاء والعلاج (في إطار مشروع التغطية الاجتماعية الشاملة). في سياق متصل، أطلق المغرب خطة إنعاش الاقتصاد الوطني لدعم القطاعات الإنتاجية، خاصة نسيج المقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة والرفع من قدرتها على الاستثمار وخلق فرص الشغل والحفاظ على مصادر الدخل، حيث تم التوقيع على ثمانية عقود برامج همت القطاعات المتضررة، وتخصيص 75 مليار درهم كآليات ضمان للمقاولات من أجل دعم خزينتها، وتم لحد الآن ضمان 96 ألف قرض من طرف الدولة بمبلغ إجمالي يناهز 67 مليار درهم، وربط هذه الاستفادة بالمحافظة على مناصب الشغل في حدود 80 % من عدد الاجراء. موازاة مع ذلك تم إطلاق استثمارات ضخمة تقدر ب45 مليار درهم عبر صندوق محمد السادس للاستثمار لتمويل المشاريع وخلق موجة استثمارية تحفز الدورة الاقتصادية الوطنية، فضلا عن تخصيص 185 مليار درهم لتعزيز الاستثمار العمومي برسم سنة 2021 وتحويله لدعامة حقيقية لضمان الإنعاش الاقتصادي للمملكة. علاوة على ذلك، اعتمدت الحكومة المغربية الأفضلية الوطنية في الصفقات العمومية وفي الاستهلاك والتصنيع المحلي، وذلك عبر تشجيع استبدال الواردات بمنتجات مصنعة محليا، وجعلته رافعة في مخطط الإنعاش الصناعي للفترة الممتدة بين 2021 و2023. وقد أتاح التحليل التفصيلي للواردات ل 16 قطاعا صناعيا، وإحصاء القدرات الخفية للنسيج الصناعي الوطني، من تحديد مبلغ 34 مليار درهم من الواردات التي يمكن استبدالها بمنتجات صناعية محلية بحلول عام 2023. واعتمدت الحكومة أول سياسة وطنية مندمجة لتحسين مناخ الأعمال، تمتد لخمس سنوات ما بين 2021 إلى 2025 ستوطد مكتسبات المملكة في هذا المجال وتقدم الأجوبة عن الاحتياجات الحقيقية للمقاولين والمقاولات الوطنية في مغرب ما بعد كورونا. حسب تقرير حديث للمندوبية السامية للتخطيط، كان للإجراءات سالفة الذكر وقع إيجابي على فئات واسعة من المواطنين، حيث حالت دون وقوع %9,2 من السكان في دائرة الفقر(تقريبا 3 مليون و300 ألف مواطن) ، كما حمت %7,8 من الساكنة المغربية من الوقوع في دائرة الهشاشة (تقريبا 2 مليون و800 ألف مواطن)؛ كما استقرت نسبة الفقر المطلق بسبب الحجر الصحي في حدود %2,5 بعد صرف الدعم المالي المباشر، وكانت ستكون هذه النسبة %11,7 ، لو لم يصرف الدعم للأسر المتضررة، كما استقرت نسبة الهشاشة في %8,9 عوض %16,7. مكنت هذه الإجراءات كذلك من الحفاظ على عدد كبير من مناصب الشغل، مما حال دون تسجيل ارتفاع كبير في نسبة البطالة، كما حصل بعدد من البلدان المجاورة (الجزائر 14%، تركيا 14%، اسبانيا 16,2%، تونس 26%) ، إذ تم احتواء نسبة البطالة في 11,9% عوض أكثر من 14% كما كان متوقع، علاوة على ذلك شهدت نسبة الشغل المؤدى عنه ارتفاع في 2020 وارتفعت متوسط هذه النسبة إلى 84,3% مابين 2017-2020 مقارنة مع 79% ما بين 2012-2016 و76,5% مابين 2008-2011 حسب تقارير المندوبية السامية للتخطيط. في صعيد آخر، تؤكد المؤشرات المتعلقة بسنة 2020 على نجاعة الإصلاحات المرتبط بتحسين مناخ الأعمال، فقد ساعد إصلاح المراكز الجهوبة للاستثمار على إحداث أكثر من 20 ألف مقاولة جديدة، وتقديم الخدمات لأكثر من 18 ألف مقاولة صغيرة ومتوسطة وصغيرة جدا، ومواكبة أكثر من 4 آلاف مستثمر، والمصادقة على ما يقارب 1500 مشروع استثماري بغلاف مالي إجمالي بحوالي 151 مليار درهم، من المرتقب أن توفر حوالي 153 ألف منصب شغل. كما تظهر المؤشرات أن الأجل المتوسط لدراسة الملفات الاستثمارية المكتملة واتخاذ القرار بخصوصها من لدن الجنة الجهوية الموحدة للاستثمار، لا يتجاوز 20 يوما، في الوقت الذي كان يصل إلى 130 يوما سنة 2019. كما أسهمت هذه الإصلاحات في تسجيل تطور مستمر في إنشاء المقاولات، الذي بلغ متوسط نموه السنوي 8% ما بين 2017 و2019، وفي انخفاض متوسط آجال الأداء إلى 40 يوما سنة 2020 مقابل 77 يوما سنة 2017 بالنسبة للشركات والمؤسسات العمومية، وإلى 37 يوما سنة 2019 مقابل 144 يوما سنة 2016 بالنسبة للإدارات العمومية والجماعات الترابية. وتبقى هناك عد تحديات ورهانات وجب على المغرب "حكومة وقطاع خاص ومجتمع مدني وجماعات ترابية" رفعها من أجل تثمين ما وصل إليه المغرب وتجاوز التداعيات الصعبة التي خلفتها جائحة كورونا، من قبيل تراجع النمو الوطني ل-6,7%، وتعمق عجز الميزانية ل-7,7%، وارتفاع دين الخزينة ل77,6%. فضلا عن معالجة الاختلالات التي يعرفها النموذج التنموي المغربي، وأن تكون هذه المعالجة مندمجة وشامل على غرار الإصلاح الاجتماعي الكبير الذي أطلقه جلالة الملك حفظه الله بالدعوة إلى تعميم الحماية الاجتماعية لجميع المغاربة خلال الخمس سنوات المقبلة، وهو ما تمت ترجمته في مشروع القانون الإطار المتعلق بالحماية الاجتماعية الذي صادق عليه المجلس الوزاري في فبراير 2021، وتفاعلت معه المؤسسة التشريعية إيجابا وصادقت عليه بالإجماع في مارس 2021، مما يجسد التعبئة والوحدة المغربية المعهودة تجاه مثل هذه القضايا الكبرى. يملك مستقبله من يستطيع تحقيق التوازن في لحظات الاضطراب، وقد استطاع المغرب أن يحقق هذا الشرط ونجح في مواجهة الجائحة، وما نراه اليوم من انتصارات دبلوماسية توجت باستكمال السيادة المغربية على أقاليمنا الصحراوية، وما نراه من تكامل بين أدوار كافة المتدخلين في الساحة الوطنية دليل على أن مغرب ما بعد كورونا ليس هو مغرب ما قبلها، وأن سلاحنا الحقيقي هو لحمتنا الداخلية وإرادتنا القوية لبناء مغرب ديمقراطي صاعد عالميا ورائد إقليميا، وإحياء حب الانتماء له والاعتزاز بتاريخه ، فمنه انطلق المولى إدريس وابن خلدون وابن بطوطة وابن رشد وابن طفيل وطارق ابن زياد –ولائحة أعلام ورجال المغرب طويلة- ليساهموا في تطوير الوعي العالمي ويؤسسوا أمهات العلوم ويشاركوا في تشكيل التقدم والازدهار الحضاري. فهل ستكون محنة الجائحة منحة للمغرب من أجل نهضة حضارية مكتملة الشروط والأركان؟