يتفق الجميع على أن الحضارة الإسلامية تمر بأزمة وجودية تشكل منعطفا خطيرا في مسارها التاريخي الحافل بالإنجازات والعطاءات المتميزة، فبعد مرحلة من الإشعاع الحضاري الذي امتد من الأندلس غربا إلى الصين شرقا، دخلت الحضارة الإسلامية مرحلة من الخفوت والتراجع نتيجة لاحتراب داخلي هز أركان الأمة وزج بها في دوامة من الكبوات المتتالية، انتهت بسقوط الأندلس خلال حروب الاسترداد، واستمر هذا السقوط المدوي إلى أن تكالبت القوى الامبريالية على المنطقة العربية فحولتها إلى دويلات متعددة الولاءات والانتماءات الإيديولوجية، ومن ثم صار حلم الأمة يبتعد شيئا فشيئا حتى لم يعد من الممكن أن نتحدث عن مفهوم الأمة، في ظل عمق الفجوة السياسية والمذهبية وتغليب منطق المصلحة القطرية على مصلحة الأمة. إن هذا الواقع الذي نعيشه لا يؤشر على وجود صحوة إسلامية على المدى القريب، بالمعنى الذي يجب أن تكون، ولا يمنح أي ضمانات تجعلنا نتفاءل بأن هناك وعيا حضاريا في طور التشكل، فالخلافات التي كانت بالأمس لم تزدها السنين إلا حدة واتساعا، والنعرات الطائفية التي كانت تنخر الجسم الإسلامي ما زالت هي نفسها، وكل الاختلالات التي رافقت عصور الانحطاط ما زالت مستمرة وبأشكال متفاوتة، ما يعني أننا لم نستوعب دروس التاريخ، وهو أمر طبيعي في ظل تفشي الجهل والأمية وغياب الوعي بضرورة التعاطي لأسباب النهوض، الأمر الذي يضع أفراد الأمة اليوم أيا كان انتماؤهم المذهبي في موقف المساءلة، لأن الأمة ما هي إلا مجموع الأفراد الذين تجمعهم رابطة الدين والوحدة العقدية، ويأتي في مقدمتهم العلماء ورجال الفكر الذين يمثلون ضمير الأمة الحي، الذي يحمل همها ويستبطن طموحاتها، ويعمل على توجيه دفتها نحو الوجهة الصحيحة. إن مهمة العلماء إزاء هذه المحنة، هي العمل على تحقيق التغيير المنشود، والخروج بالأمة من مستنقع التخلف والانحطاط إلى أفق الانبعاث والتحرر الفكري، بعيدا عن منطق التبرير الذي غالبا ما يلقي باللائمة على الآخر ويحمله المسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في عالمنا الإسلامي. صحيح أننا اليوم أمة مفروض عليها أن ترضخ لمجموعة من الضغوطات من طرف القوى المركزية التي تسخر العالم كل العالم وفق مشروعها التوسعي الاستعماري، لكن في الوقت نفسه يجب أن نقر بأننا نتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية في ممارسة هذه الضغوطات، فحينما نكون عاجزين عن توفير حاجاتنا الضرورية اعتمادا على اكتفائنا الذاتي، وحينما لا تكون لدينا القدرة على الإبداع والتطوير وإنتاج المعرفة بكل أشكالها، وحينما لا نعير اهتماما للعنصر البشري كقيمة ثابتة في معادلة البناء والتشييد، فإن النتيجة الحتمية لكل ذلك هي الرضوخ للضغوطات، واللجوء إلى اتخاذ بعض القرارات التي لا تخدم حاضر الأمة ومستقبلها. إن الأزمة الحضارية التي نعيشها اليوم ليست وليدة الساعة، بل هي نتاج تراكم تاريخي كما أسلفنا، وقد ساعد إهمالها وعدم إيجاد حلول مستعجلة لها، على أن تأخذ وقتا كافيا من الزمن لتتمدد في جميع مفاصل حياتنا على نحو ما نشاهده اليوم. إن هذا الوضع المتردي الذي وصلت إليه الأمة اقتضى ضرورة بحث سبل الخروج منه، فكان أن ظهرت على الساحة الفكرية مجموعة من التيارات ذات الانتماءات المتعددة، تنادي بضرورة الإصلاح وإعادة النظر في المنظومة الفكرية والثقافية التي تؤطر السلوك العام، محاولة وضع اليد على مكامن الخلل في هذه المنظومة، ولقد تبنت هذه التيارات مجموعة من المفاهيم كمدخل للإصلاح الشامل، ولعل من أبرزها مفهوم التجديد الذي اعتبر بمثابة المفتاح السحري الذي من شأنه أن ينقل الأمة من براثن الوهن والضعف إلى حالة من اليقظة الفكرية والتماسك الاجتماعي، لكن هذا المفهوم طرح عدة إشكالات، يتعلق البعض منها بتحديد مدلول مصطلح التجديد تفاديا لبعض الاستعمالات المغرضة التي يكون الهدف منها تبرير بعض الخروقات التي تجافي منظومة الأخلاق، كما في قضية الحجاب ولباس المرأة وسائر الممارسات الاجتماعية التي وردت فيها نصوص شرعية مؤطرة، لذلك كان من المنطقي جدا طرح بعض الأسئلة المهمة من قبيل: ما مفهوم التجديد؟ وبأي معنى نريد أن نجدد؟ وما هي حدود هذا التجديد؟ وما هي الجهة المخول لها أن تمارس فعل التجديد؟ إننا حينما نتحدث عن التجديد يجب أن نستحضر أولا بأننا لسنا أمام قطيعة إيبستيمولوجية على نحو ما تصوره كثير من المثقفين المتأثرين بالفكر الغربي، حينما طالبوا بإجراء قطيعة مع التراث الفقهي تحت ذريعة التجديد، فالتجديد بمفهومه العلمي يستلزم أن يكون هناك نوع من الاتصال المعرفي على نحو يجعل الماضي متصلا بالحاضر، وبكيفية تجعل اللاحق يمتح من السابق دون أن يفقد راهنيته وطابعه الآني، وهذا هو المنحى المتوقع لعملية التجديد التي نتحدث عنها، وهو المعنى الذي يؤيده المدلول اللغوي لكلمة التجديد التي تعني في الأصل إعادة الجدة للشيء ليعود كما كان من قبل، على غرار قولهم جدد فلان العهد، الذي يفيد بأن العهد كان موجودا في الأصل فلما طاله التقادم أعاد جدته، أما إن كنا نعني بالتجديد وضع قطيعة مع الماضي فحينذاك نكون بإزاء عملية تبديل وتغيير. كما أننا يجب أن نضع في الاعتبار الأسس التي يقوم عليها هذا التجديد إذ لا يمكن أن نتصور أن تتم عملية التجديد إلا في إطار المرجعية الدينية وبالإشراف المباشر من طرف الفاعلين في الحقل المعرفي الإسلامي والمتخصصين في إنتاج المعرفة الدينية من العلماء المشهود لهم بالكفاءة العلمية، والإخلاص لرهانات الأمة وقضاياها الملحة. إن ما نلاحظه اليوم من ارتفاع للأصوات المطالبة بوضع قطيعة مع التراث بحجة أنه لا سبيل إلى دخول عصر العولمة إلا باستدعاء براديغمات غربية واستنباتها في البيئة الإسلامية على شكل عملية استنساخ صورية، لهو أمر يستدعي بحق أن ينهض العلماء بواجب المسؤولية الملقاة على عاتقهم، والتي تقتضي منهم بسط معالم الطريق في قضية التجديد بما تستدعيه من تشخيص لتفاصيل الواقع، وقراءة للأحداث قراءة واعية قادرة على التغلغل في عمق المشكلة في أفق الوصول إلى توصيف كيفية الخروج منها، بعيدا عن منطق المؤاخذة والعتاب وتقليب المواجع الذي دأب عليه أصحاب الاتجاه التنويري. لقد بذل الخطاب الحداثي جهدا مضنيا في سبيل تنزيل النموذج الغربي على البيئة الاسلامية، لكنه فشل فشلا ذريعا في تحقيق أهدافه، ما دفعه إلى اعتماد أساليب المكر والاحتيال، ومحاولة تزوير الحقائق والإمعان في كيل التهم ونكء الجروح، دون القيام بعملية نقد ومراجعة لطريقة تعاطيه مع عملية التحديث، بما تتطلبه من استحضار للخصوصية الحضارية، وارتباط الدين بالمجتمع في الأقطار الإسلامية، على عكس ما كان سائدا في أروبا، إذ كان موقف الكنيسة من العلم موقفا معاديا للدرجة التي دفعت بالمجتمع الأوروبي إلى الانقلاب على التعاليم المسيحية، ومن ثم فصل سلطة الدين عن المجتمع، وهو ما لا يمكن أن نتصوره في البيئة الإسلامية بحكم العلاقة الوشيجة بين الدين والمعرفة، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن معظم الفلاسفة والمفكرين في التاريخ الإسلامي كانوا من الفقهاء ورجال الدين. إن النجاح في عملية التحديث يقتضي أساسا الأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الحضارية للبيئة الإسلامية، التي يحتل فيها الدين موقع الصدارة، وأي تحديث خارج هذا الإطار يكون مآله الفشل الذريع على جميع المستويات. وإذا كان هذا الموقف المذكور أعلاه يسعى في مقاربته إلى التقليص من هيمنة الدين على المجتمع باستغلال مفهوم التجديد، فإن موقفا آخر لا يقل خطورة عنه، من حيث كونه يرفض فكرة التجديد من أساسها ويسعى إلى إضفاء طابع الميثولوجيا على التراث وإحاطته بهالة من التقديس الذي يتجاوز النص المنزل ليشمل الآراء الاجتهادية ومنتجي هذه الآراء، وهو موقف ساهمت في تشكيله عصور التقليد المتتالية التي وقفت عائقا أمام إعادة النظر في كثير من منتجاتنا الاستهلاكية المنتهية الصلاحية، رغم أنها في معظمها جهد بشري خاضع لعوامل التأثير المختلفة، التاريخية منها والثقافية والبيئية، وبالتالي فهي قابلة للنقد والمراجعة. إن أحد أسباب تخلفنا فكريا وحضاريا، هو أننا ننظر إلى فكرة التجديد على أنها مؤامرة ضد الدين، رغم ما نعانيه من خلل في منظومتنا الفكرية والثقافية، وفي نمط تديننا الذي أصبح عبارة عن طقوس جافة، وأشكال صورية أقرب إلى الاستعراضات الفولكلورية التي يكون الحامل على ممارستها هو المحافظة عليها من الاندثار ليس إلا. باختصار أقول إن أي تطلع لعودة الأمة إلى المسار الصحيح مرتهن بإعادة الاعتبار للذات المسلمة، والإيمان بقدرتها على الإبداع وإيجاد حلول لمشاكلها الآنية، مسترشدة في ذلك بنصوص الوحي وأقوال العلماء التي تستوعب قضايا العصر الراهن، دون الوقوع في الاجترار المضني لقضايا جزئية لم تعد من أولويات العصر، ومستفيدة في الوقت نفسه مما أفرزته الثورة المعرفية في مختلف المجالات. * عبد الكريم المحيحش