تميز المغرب عل مدار تاريخه ببزوغ شخصيات نابغة أبدعت في مجال تخصصها وأسهمت في بناء الإدراك المعرفي للمجتمع وشحذ الهمم والارتقاء بالوعي الجمعي، كما رسخت عبقرية المغاربة بتجاوز إشعاعها حدود الوطن، ومنهم من لا تزال إنتاجاتهم العلمية والمعرفية تُعتمد في الحياة وتدُرس في جامعات عالمية. هم رجال دين وعلماء ومفكرون وأطباء ومقاومون وباحثون ورحالة وقادة سياسيون وإعلاميون وغيرهم، منهم من يعرفهم الجميع وآخرون لم يأخذوا نصيبهم من الاهتمام اللازم، لذا ارتأت جريدة "العمق" أن تسلط الأضواء على بعضهم في سلسلة حلقات بعنوان "نوابغ مغربية"، لنكتشف معًا عبقرية رجال مغاربة تركوا بصمتهم في التاريخ. الحلقة 23: محمد المكي الناصري .. بسم الله الرحمن الرحيم تَمَيّزَتْ طلائع المثقّفين والوطنيين المغاربة في القرن العشرين بتعددية المجالات التي أبْدَعت فيها، والواجهات التي ناضلت من خلالها، والقضايا التي اسْتَحْوَذَت على أوقاتها، والحقول العلمية التي نَهَلت منها ونَبَغت في الكتابة فيها، حتى لَيبدو الواحد من أولائك المثقفين مُؤسَّسة اختُزِلت في رجل، وجَمْعاً في مُفرَد، وما الأستاذ (محمد المكّي الناصري) إلَّا واحدا من هؤلاء، ورَمْزاً بارزاً في قافِلة نبغاء مغرب القرن العشرين. كان مولد (محمد المكّي) بالرباط سنة 1906 وهي ما تزال وقتئذٍ مدينة لم تُحوَّل لعاصمة المغرب الراهن. التَحَق بالكتاتيب القرآنية، فتعلَّق بالقرآن منذ نعومة أظفاره، فحفِظه عن ظَهر قَلْبٍ، وعزَّز رصيده الإدراكي للقرآن الكريم بِحفظ المتون والشروح الفقهية وتَلقِّي دروسٍ في الفقه والحديث على يدِ مشاهير علماء المغرب في ذلكم الزمان؛ (الشيخ أبي شعب الدكالي)، العَلّامة (المدني الحسني)، الفقيه (محمد الناصري)، الشيخ (محمد بن عبد السلام السائح)؛ ثمَّ انتقَل في مراحل تالية من عُمره إلى مصر، فكانَ لِمَا تَلَقَّاه من علوم الشريعة والعربية في القاهرة على يدِ العالِم الأزهَري (مصطفى عبد الرزاق) و(عبد الوهاب عزام) و(عبد الحميد العيادي) دَور كبير في إغناء ثقافته الدينية، وتمكينه من فهْم القرآن وشَرْحه وتفسيره. كان الرحيل إلى مصر بِرُوح الشباب الوطني الوثَّابة، دور هامٌّ في صَقل شخصية (المكي الناصري)، الذي اسْتَثمر مقامه هناك في تحصيل العلم، وتوسيع شبكة العلاقات مع الشباب العرب والمغاربيين، وافْتِتاحِ في القاهرة (بيتَ المغرب)، الذي آوى طلبة الجامعات والمعاهد المغاربة الذي أَتوا للدراسة بعاصمة مصر. وفي القاهرة؛ سيُحلِّيهِ الأديب المصري (طه حُسين) بلقب "شيخ المغاربة"، حينَ ألقى كلمة تَعقيبية على مداخلة الدكتور (طه حسين) في إحدى ندواته بالقاهرة، فأُعْجِب عميد الأدب العربي بفصاحة وكلمة (المكي الناصري) وعلَّق عليه قائلاً: "أنتَ شيخ المغاربة". وتَطَلُّعا لمزيدٍ من العلم؛ هاجَر إلى باريس لدراسة الفلسفة وعلم الاجتماع بكلياتها، ثمّ انتقل إلى عاصمة سويسرا، لدراسة القانون الدّولي، وهناك التَقى بالأمير (شكيب أرسلان) ونشأت بينهما علاقة صداقة رَفَعَت (المكي الناصري) لمرتبة كاتِبٍ خاص لدى الأمير طيلة مدة إقامته بجنيف. وبذلكَ جَمع إليه علوم الشريعة بعلوم اللغة التي تلقّاها في المعاهد والزوايا العريقة بمدينة الرِّباط بعِلْمَي الفلسفة والاجتماع، والقانون؛ فحُقَّ أن يُسمّى الشيخ الجامع، وعالم المغرب. انخْرط (الناصري) مُبكِّراً في صفوف كتلة العمل الوطني، ومَثَّل جمعية الطلبة المسلمين في شمال إفريقيا سنة 1934، وتَرَأَّسَ مجموعة من البعثات الطلابية إلى المشرق العربي، وكان من بين الزعامات المغربية المشارِكة في مؤتمر القدس، وعمِلَ في لجنة تحرير المغرب العربي إلى جانِب خيرة الوطنيين المغاربيين وبقادة أمير الجهاد (محمد بن عبد الكريم الخطابي) رحمه الله. ونَاضَل الأستاذ (المكي) إلى جانب إخوانه في الحركة الوطنية، وإنْ اخْتُلِفَ في تقدير مواقفه السياسية وطبيعة علاقاته بالأحزاب الوطنية في شمال المغرب وقراره الاندماج في حِزب الشورى والاستقلال؛ إلَّا أنه لا يُكابِرُ أحدٌ في الدّور النّضالي الكبير للشيخ الناصري، كتابةً وتأليفًا ومواقَفَ ودِفاعاً عن وحدة البلاد وحقّها في استِقلالها. خاض ذلكَ بالمهجر وحين عودته للمغرب وقَبْلَ ذلكَ بكثير فيما بين 1920 (تاريخ تأسيس رابطة أنصار الحقيقة ورئاسته لها) و1925. تَميّز الرجل بالمبادَرة واقتحام التجارب رغم قِلة الموارد وضُعف الخِبرة، هكذا سنجِده يُناطِح كِبار رموز العمل الصحفي في شمال المغرب إبّان مرحلة الحماية، ويُطْلِق تَجارب صحافية تنوّعت بين جرائد، ومجلات، وعمل إذاعي، ك"جريدة الوحدة المغربية" و"جريدة الشعب" و"منبر الشعب"، ومجلة "المغرب الجديد" ذات المنحى الفكري والثقافي، وسيجْعَل جرائده ومجلاته أصواتا صادحة بالنكير على السياسات الاستعمارية في شمال إفريقيا، وسيُضَمِّنها مواقف مشرِّفة من قضية فلسطين والصراع العربي – الإسرائيلي، ويَنْصَح من خلال مَقالاتها نظام الحكم في المنطقة الخليفية، وسيُناصِر سياسات الخليفة السلطاني، ويُشيد بنِضالية الحركة الوطنية التي نَعَتَها في العدد الثاني من جريدة (الوحدة المغربية) ب"الوطنية التّعاونية"، وسيُدَعِّم قَضايا الوحدة والاستقلال والتَّحرّر في إفريقيا والعالم العربي، وسيهتَمّ بالمسألة التعليمية والتعريب، وبالقضايا الاجتماعية والثقافية كالفقر والجفاف والأسرة والشباب والهوية والقيم والإصلاح. وحيثما حَلَّ يُثْمِر؛ هكذا كان الشيخ (النّاصري)، أرادت الإقامة العامة القضاء على نشاطه ووطنيته في المنطقة السلطانية، فَنَفَتْهُ بِقرار جائر إلى الشمال، فكان أنْ أطلق العنان لمهاراته الصحفية والسياسية والتنظيمية، فَكَتَبَ وراسَل ونَشر واحْتَجّ وأزعج سلطات الحماية الإسبانية، وأقام علاقة متينة مع خليفة السلطان؛ فبعث به _ نظيرَ كفاءته وحيويته _ إلى مِصر، للإشراف على مكتب ثقافي تابع للمعهد الخليفي بتطوان، ثم ولّاه بموجب ظهير؛ إدارة بيت المغرب في القاهرة، والبيت كما وصفته قصاصة في جريدة "الوحدة المغربية" في العدد 57 من سنة 1939 "أوّل مؤسسة ثقافية مغربية خارجية في تاريخ المغرب الحديث". ثم ضَاقَت الحماية الإسبانية ذَرْعًا بالشيخ الناصري في منطقةِ نُفوذِها؛ فَسَعَت لنفيه إلى (غينيا)، إلا أنَّ يَقَظَته ساعدته على الفرار إلى طنجة؛ وفيها عَبَّر عن نزوعه الوحدوي، فصاغ وعمّم _ إلى جانب رفاقه في أحزاب الإصلاح الوطني، الاستقلال، الشورى والاستقلال _ ميثاق الجبهة الوطنية. هذا المسار النضالي والوطني والصحافي الحافِل؛ أَسْنَده الأستاذ (المكي) بترسانة علمية وفكرية قوية، تَنَوَّعَت بين المقالة الصحفية والكتاب الإسلامي والمُصنَّف التاريخي والتُّحفة الأدبية_الفكرية، فكَتَب "حياة سقراط، زعيم الفلاسفة وأبو الفلسفة القديمة"، الذي طُبع له بالقاهرة سنة 1930، و"صليبية في مراكش، أو مراكش أمام حرب صليبية جديدة"، المطبوع لأوّل مرةٍ سنة 1931، و"إظهار الحقيقة وعلاج الخليقة"، الذي طُبِع له بالعاصمة تونس"، و"فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى" الصادر سنة 1934، و"الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية"، و"وصايا دينية من ملوك الدولة العلوية"، المنشورانِ له سنة 1934، وغيرها مِن الكتب المُؤَلَّفة في عصر الحَجر والاحتلال، أرادَ منها كاتِبُها أنْ تَكونَ في خدمة العقلية المغربية، وتنويرها، وتهذيبها وتوجيهها لما فيه الصالح والنافع لها، وأراد من كتبه ومقالاته في الصحائف والمجلّات أن تكون "مرآة للنهضة الفكرية المغربية" كما عبّر عن ذلك ي الشعار الرسمي لمجلته الأثيرة "المغرب الجديد" في أولى أعدادها سنة 1935. ومن إصداراته التي ضَمَّنها نَفيس مقالاته التي كَتَبها على مَدى سنواتٍ في جرائد "الوحدة المغربية" و"منبر الشعب"، ومجلة "المغرب الجديد" و"جريدة الشعب" وجَمعها في كتابٍ من جُزئين هو "تحت راية العرش". كما اهتمَّ بترجمة بعض الأعمال من الفرنسية والإسبانية إلى اللغة العربية، رابِطاً الصِّلة بين الألسن والثقافات المتوسطية. ونظيرَ نضاليته وجُهوده الاجتماعية وثقافته الموسوعية؛ اختيرَ عضوا بالمجلس الاستشاري الوطني الذي كانَ يرأسه الأستاذ المهدي بن بركة قُبيل الاستقلال، كما تم اختياره عُضوا بمجلس إعداد الدستور، وهو المجلس الذي وُلِدَ ميّتًا، وشهِد انشقاقاتٍ وتأجيلٍ لفكرة الدستور لأجلٍ آخر. ثم عُيِّنَ أستاذً بجامعة محمد الخامس بدءً من سنة 1960، فسفيراً بدولة ليبيا سنة 1961. وإثْرَ عودته؛ عَيَّنه الملك عامِلاً على مدينة أكادير بتاريخ 9 نونبر 1963، ووشَّحه بوِسام العَرش تقديراً لجهوده الدبلوماسية والإدارية في كلٍّ من ليبيا وأكادير. وبَعد ذلك بسنةٍ واحدة، وعلى إثْر استِحداث دار الحديث الحسنية؛ عُيِّنَ أستاذاً بها، وفيما بين 1963-1970 اختُير عُضوا بالغرفة الدستورية، وخَطيباً بمجسد السنّة؛ أعرق مساجد العاصمة الرباط، واختيرَ لإلقاء دَرس رمضاني في إطار سلسلة الدروس الحسنية. وبَعد تَفرُّغه مِن عُضوية الغرفة الدستورية؛ تَقَلَّد مهمة خَطيبٍ بمسجد حسّان بالرباط سنة 1971، ثمَّ تولَّى وزارة الأوقاف والشُّؤون الإسلامية في حكومة 1972. أما في بداية الثمانينات؛ فقد نالَ الشّيخ النّاصري عضوية أهمّ مؤسّسة علمية بالبلاد، أكاديمية المملكة المغربية، وفي نفس الآن؛ رئيساً للمجلس العلمي المحلي لمدينتي سلاوالرباط. وسيُتوَّجَ هذا المسار الكبير الزّاخر بالخبرات والتجارب والحابِل بالإنتاج العلمي والفكري للأستاذ المكّي؛ باختيارِه أميناً عاماً لرابِطة علماء المغرب خَلَفاً للعلّامة الأكبَر (عبد الله كنّون) الذي وافته المنية سنة 1989، وقد كانت تجمعهما علاقة مُصاهرة، إذْ كان (المكيّ) متزوّجاً من أخت السيّد (كنون) رحمه الله. الحاسّة الإبداعية ومَلكة الكتابة والتأليف لم تَتعطّل لدى الشيخ الناصري بعد الاستقلال؛ فقد واصل جهاد القلم بتحرير كلٍّ من كتاب: "مبادئ القانون الدولي في الإسلام"، و"مبادئ القانون الإداري في الإسلام"، و"نظام الحقوق في الإسلام"، و"مكانة التشريع في الإسلام"، و"منهاج الحكم في الإسلام"؛ و"مكانة الرياضة في الإسلام"، وجميعُها تَرجمة أَمينة لمراحل التَّعلم الجامعي الأولى في تخصّص القانون، واستثمار هائل في المعارف المحصّلة على مدى السنوات، خبرةً واحتكاكا بأمهات النصوص الشرعية والقانونية والتراثية في العالم الإسلامي. تَلاها بكتبه الأخرى: "وحدة المغرب العربي؛ بنتُ الطبيعة والتاريخ والمصير المشترك"، "علم الكلام؛ فلسفة إسلامية مبتكرة"، "دراسات تاريخية عن سبتة والجديدة والصويرة". ثم خَتَم بأهمِّ إنجاز علمي له على الإطلاق؛ موسوعة "التّيسير في أحاديث التّفسير"، الواقع في ستّة مجلّدات، الصادرة سنة 1985. فحُقَّ له أنْ يُوصَف ب"العالِم المفسِّر، والمحدِّث الحافظ، والفقيه المتضلِّع، والخطيب المِصقاع.. عَظيمُ الوفاء لوطنه"، بتعبير الباحث (ابن عزوز الجزنائي) في مقالٍ له يعود لسنة 1999. أطْلَق (الشيخ الناصري) أَوَّل برنامج إذاعي لتفسير القرآن الكريم في الوطن العربي، تابَعَه الصغار والكبار والقَرَأة والأميون والمثقّفون؛ وظلَّ لسنواتٍ يُذاعَ صباحاً ومساءً على أثير الإذاعة الوطنية، ثمَّ لاحِقاً أعادت إذاعة وقناة محمد السادس للقرآن الكريم بَثَّ تفسير الشيخ المكي الناصري للقرآن الكريم. وقد وَصَف العلماء تفسير الشيخ (المكي الناصري) بأنّه "نهج جديد، فيه تقريب للقرآن من عامة المسلمين، وذلك بتبسيط العبارة ووضوحها، وتَجَنُّبِ حَشو الألفاظ وغريبها (..) وعَدَم إقحام المصطلحات النحوية والبلاغية والأصولية الكلامية، وكل ما يَستعصي فهْمه على السّواد الأعظم مِن مُسْتَمِعيه. وإلى جانب هذا؛ فإنَّه اضْطَلع بِدور مُهم في مجال التّوعية بكتاب الله العزيز"، ووصَفوا منْهجه التفسيري بأنّه "مَنهجٌ فريدٌ في تفسيره، يَجمع بين الطريقتين الموضوعية والتحليلية، وإنْ كانت الأولى هي التي تَغلب على تفسيره". ولا غرْوَ أنْ يحظى هذا التّفسير بمتابعة واسعة من الجماهير، وإلى يوم الناس هذا؛ فالمكي الناصري ارتَبطَ بالقرآن صبيّا، ورافقَه شابا وراشداً، وكَتب عنه وفسَّره شيخاً. إنَّ هذا المشوار الطويل العريض الذي هيمنت فيه القراءة والمطالعة والكتابة على حياةِ الشيخ (الناصري)، ارتَقَتْ باسمهِ وشَخصه عالِياً بين ألْمع وطنِيّي وصحَفيي وعلماء وكُتّاب المغرب المعاصِر. ويُدْرِكُ المتأمِّل في هذه السيرة وهذا المسار؛ أنّ الرجل أدْرَك كلَّ ذَلك بما كان يمتاز به من موسوعية وعِلْم وذاكرة متوهّجة، وبما كان يحمله مِن شَرَف النضال ضد الاستعمار وخِبرة السّنين في العمل الوطني والسّياسي والصّحافي. وكانت وفاته يوم العاشر من شهر ماي سنة 1994، عن سبع وثمانين سنة. * إعداد: عدنان بن صالح/ باحث بسلك الدكتوراه، مختبر "شمال المغرب وعلاقاته بحضارات الحوض المتوسِّطي"، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة عبد المالك السعدي - تطوان.