جاء الخطاب الملكي بمناسبة وطنية، مناسبة الذكرى السابعة والستين لثورة الملك والشعب في سياق استثنائي فرضته جائحة وباء كورونا وتداعياته، وهو خطاب اعتمد فيه مبدأ التدرج، فجاءت فقراته مترابطة ومنتظمة لتشكل وحدة متكاملة الأبعاد. إن محاولة فهم نص الخطاب الملكي وملامسة قيمته واستكناه مضامينه ودلالاته وإشاراته تقتضي في البداية الإشارة إلى معطيين أساسيين من أجل التفاعل مع مضامين الخطاب الملكي السامي، وهما معطيان يتجليان في الربط بين الحاضر والماضي بحمولته التاريخية والقيمية تم توظيفهما لخدمة مضامين الخطاب واستيعابه في ظل سياق المرحلة التي تعيشها البلاد:أولهما الاستعانة برمزية المناسبة التاريخية في مستهل الخطاب: في مثل هذا اليوم من سنة 1953، اجتمعت إرادة جدنا، جلالة الملك محمد الخامس، ورفيقه في الكفاح، والدنا جلالة الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراهما، مع إرادة الشعب المغربي، في ثورة تاريخية، على رفض مخططات الاستعمار. كما هو معهود في الخطب الملكية. وثانيهما استلهام واستحضار البعد القيمي للمناسبة التاريخية:وقد تميزت هذه الثورة المجيدة، بروح الوطنية الصادقة، وبقيم التضحية والتضامن والوفاء، من أجل حرية المغرب واستقلاله.، وتاريخ المغرب حافل بهذه المواقف والأحداث الخالدة، التي تشهد على التلاحم القوي بين العرش والشعب، في مواجهة الصعاب. ولعل هذا الجمع بين الرابط التاريخي والسياقي كان لهما أثر كبير على لغة الخطاب ومضامينه ويتجلى ذلك على مستوى التخصيص، حيث ركز على ما تعيشه البلاد على المستوى الصحي وتداعيات الجائحة وآثارها، مخاطبا بذلك الحس الوطني من أجل ثورة فوقية، من أجل تعزيز الجهود المبذولة وتثمينها وتعاضدها لتجاوز هذه المرحلة الصعبة. وما ميز هذا الخطاب الملكي أنه خطاب تفاعلي، فالملاحظ أن نبرة الخطاب تكشف مواقف وأحاسيس معينة، وهي تختلف باختلاف الغاية منها، ومن أجل تيسير فهم رسائل الخطاب، وبالتالي يمكن أن نلامس هذه الخاصية في محطات مختلفة من الخطاب الملكي ومن أمثلة ذلك:التثمين والتعزيز والفخر، ودلالة ذلك التشبث بالعمق التاريخي لما قال جلالته: وتاريخ المغرب حافل بهذه المواقف والأحداث الخالدة، التي تشهد على التلاحم القوي بين العرش والشعب، في مواجهة الصعاب، كما جاء فيه أيضا: وهي نفس القيم والمبادئ، ونفس الالتزام والتعبئة الجماعية، التي أبان عنها المغاربة اليوم، خاصة في المرحلة الأولى من مواجهة وباء كوفيد 19. إلى جانب ذلك، نجد التنبيه والتحذير من مستقبل القادم من الأيام، بالتركيز على أعراض الوباء وعدم الالتزام قائلا: ويجب التنبيه أيضا، إلى أن بعض المرضى لا تظهر عليهم الأعراض، إلا بعد 10 أيام أو أكثر، إضافة إلى أن العديد من المصابين هم بدون أعراض، وهو ما يضاعف من خطر انتشار العدوى، ويتطلب الاحتياط أكثر.مضيفا: وهنا، أود التنبيه إلى أنه بدون سلوك وطني مثالي ومسؤول، من طرف الجميع، لا يمكن الخروج من هذا الوضع، ولا رفع تحدي محاربة هذا الوباء. ولم يخل الخطاب من القلق والتخوف، وهو أمر طبيعي من جهة، ومن جهة أخرى لنقل هذا التخوف لأولئك الذين يدعون عدم وجوده أو نهايته برفع الحجر الصحي موضحا أنتدهور الوضع الصحي، الذي وصلنا إليه اليوم مؤسف، ولا يبعث على التفاؤل، ومن يقول لك، شعبي العزيز، غير هذه الحقيقة، فهو كاذب. معبرا عن ذلك بقوله: إن خطابي لك اليوم، لا يعني المؤاخذة أو العتاب، وإنما هي طريقة مباشرة، للتعبير لك عن تخوفي، من استمرار ارتفاع عدد الإصابات والوفيات، لا قدر الله، والرجوع إلى الحجر الصحي الشامل، بآثاره النفسية والاجتماعية والاقتصادية. غير أن ذلك كله لم يثن جلالته من التعبير عن جانب الثقة بقوله: وإني واثق بأن المغاربة، يستطيعون رفع هذا التحدي، والسير على نهج أجدادهم، في الالتزام بروح الوطنية الحقة، وبواجبات المواطنة الإيجابية، لما فيه خير شعبنا وبلادنا، وهو ما يقتضي من الجميع اليوم أن يكونوا في مستوى هذه الثقة، وعدم إخلاف الموعد. كما يعتبر التشخيص من بين خصائص الخطب الملكية، وهي بذلك ما تنفك تؤكد ارتباطها بالواقع وتفاعل المؤسسة الملكية مع القضايا المعاشة، وخطاب ثورة الملك والشعب هذا ظل وفيا لمبدا التشخيص، والذي انصب على الوضع الصحي للبلاد، من خلال مرحلتين اثنتين وضع فترة الحجر الصحي ووضع ما بعد رفع الحجر الصحي، مبينا عواقب عدم الاكتراث الوخيمة. وينضاف لما سبق الجانب التأكيدي للخطاب، وهو جانب يتغيى الاقتناع بمضامينه بما لا يدع مجالا للتأويل فأمام وضع صحي مفتوح على المجهول، لم يكن لمضامين الخطاب أن تركز على استحضار البعد التاريخي والقيمي للمناسبة الوطنية دونما تأكيد أهميتها ووظيفيتها من أجل ثورة ضد الوباء، ثورة سلاحها الوعي بخطورته والحفاظ على السلامة الصحية، والالتزام والانضباط، ومن تمة نجد التأكيد على العلاقة الوطيدة بين الوطنية والتضامن، معللا جلالته أن الدعم المادي لا يعدو أن يكون سوى وجه من أوجه التضامن الأخرى، والتي لا تقل أهمية إن لم تفقها درجة وتتمظهر والحالة هاته في الالتزام بعدم نشر العدوى بين الناس. وهذا التأكيد على ضرورة التضامن يوازيه نفس التأكيد على استمرارية المعركة التي لم تنته بعد إننا لم نكسب بعد المعركة ضد هذا الوباء، رغم الجهود المبذولة، إنها فترة صعبة وغير مسبوقة بالنسبة للجميع. من ناحية أخرى نجد الخطاب الملكي خطاب التقرير، وهي رسالة قوية، تتطلب الوعي التام بخطورة الوضع وبمآلاته وانعكاساته، فلقد فتح الخطاب الملكي احتمال إمكانية إعادة فرض الحجر الصحي بل وزيادته وتشديده في حال ما إذااستمرت هذه الأعداد في الارتفاع، حيث سيرتفع عدد المصابين والوفيات، وستصبح المستشفيات غير قادرة على تحمل هذا الوباء، مهما كانت جهود السلطات العمومية، وقطاع الصحة، وهو القرار الصعب بالنظر لانعكاساته على حياة المواطنين، وعلى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، كما أن مصير البلاد الاقتصادي والاجتماعي والصحي يبقى رهينا بالمستوى السلوكي والعقليات . وأخيرا نستشف على أن هذا الخطاب خطاب الاستمرارية بالنظر لتأثيرات الجائحة، ولاسيما الاقتصادية منها، فقد شكل خطاب العرش السابق مناسبة لوضع خطة طموحة للإنعاش الاقتصادي تمكن القطاعات الإنتاجية من استعادة عافيتها، والرفع من قدرتها على توفير مناصب الشغل، والحفاظ على مصادر الدخل. وهو الخطاب الذي أبان الملك من خلاله على أن العمل لا يقتصر على مواجهة هذا الوباء فقط، وإنما يهدف أيضا إلى معالجة انعكاساته الاجتماعية والاقتصادية، ضمن منظور مستقبلي شامل، يستخلص الدروس من هذه المرحلة والاستفادة منها. ويشكل خطاب ثورة الملك والشعب امتدادا لمضامين خطاب العرش في البحث عن الموازنة بين الاقتصادي والاجتماعي، فلقد كشفت الجائحة عن عمق الاختلالات على أكثر من صعيد لاسيما الاجتماعي والاقتصادي، فبالنظر لطبيعة الاقتصاد الوطني،وبالنظر للتكلفة الباهظة لجائحة كورونا على الاقتصاد، وأخذا بعين الاعتبار ضعف قدرة الاقتصاد الوطني على تحمل استمرارية الوضع على النحو السابق، في مقابل ذلك القاعدة العريضة للفقر والهشاشة، وضعف البنيات التحتية الصحية، فإنه لا مناص من إنعاش الاقتصاد، غير أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب المعطى الاجتماعي والصحة العمومية، وهنا تبرز إشكالية التوفيق بين تحديين يبدوان متناقضين من الوهلة الأولى، وسعيا نحو تحقيق هذا التوازن حسب مضامين الخطاب الملكي تمت دعوة كل القوى الوطنية، للتعبئة واليقظة، والانخراط في المجهود الوطني، في مجال التوعية والتحسيس وتأطير المجتمع، للتصدي لهذا الوباء، ...واستحضار قيم التضحية والتضامن والوفاء لتجاوز هذا الظرف الصعب، ذلك أنه لا يمكن للدعم أن يدوم إلى ما لا نهاية، لأن الدولة أعطت أكثر مما لديها من وسائل وإمكانات حسب ما جاء بالخطاب الملكي. وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن الخطاب الملكي ذو وظائف متعددة تتعدى مجرد الإخبار والتواصل وحسب، والسياق الراهن يجعل المسؤولية جماعية ويتطلب استحضار ضرورة التحلي بالوطنية كحس، والمواطنة كوعي وسلوك وممارسة، فالمغرب في غير ما موقف اعتبر نموذجا يحتدى به، إلا أننا اليوم في حاجة للتضامن الحقيقي بين كل المكونات، سلطات عمومية، أحزابا، أغلبية ومعارضة، ومجتمعا مدنيا وقطاعا خاصا، كل حسب موقعه، وحكمة ورؤية متبصرة على مستوى القرارات المتخذة، بعيدا عن المزايدات السياسية، بعيدا عن الاسترزاق في هذا الظرف العصيب، مستحضرين كذلك الرهانات التنموية المقبلة تحت القيادة الملكية السامية. * باحث في القانون العام والعلوم السياسية